ماذا بعد العثور على يورانيوم مخصب بنسبة 84% في إيران؟

علي عاطف

 

بعد أشهر من إعلان إيران العام الماضي عن مباشرة إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 60% في منشأة “فوردو” النووية الواقعة في محافظة قم إلى الجنوب من العاصمة طهران، أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا مؤخرًا أنها رصدت جزيئات من اليورانيوم المخصب بنسبة 83.7% في إيران بمنشأة “فوردو” بعد جمعها هذه العينات في شهر يناير 2023. وإلى جانب ذلك، حذّرت الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية في الوقت نفسه من ارتفاع نسبة تخصيب اليورانيوم في إيران إلى ما يقارب النسبة المطلوبة لإنتاج السلاح النووي وهي 90%، ما شكّل تحديًا هو الأكبر أمام مختلف القوى والمنظمات المعنية على مستوى العالم منذ بداية تبلور الأزمة النووية الإيرانية بداية القرن الحالي.

وفي الواقع، فإن وصول البرنامج النووي الإيراني إلى هذا المستوى المتقدم لم يكن إلا حصيلة لما يقارب خمس سنوات من التطورات والأحداث المتلاحقة التي استغلتها إيران لإحراز هذا التقدم النووي، أي منذ إعلان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في مايو 2018 الخروج من الاتفاق النووي المبرم عام 2015، مرورًا بتوقف المفاوضات النووية في أغسطس 2022 وحتى اليوم.

فعلى الرغم إتاحة الفرصة لتقييد برنامج إيران النووي خلال هذه السنوات، فإن توقف المفاوضات النووية وبروز عدد آخر من التحولات على المستوى الدولي والمحلي في إيران قد قادا إلى أن تحذّر الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤخرًا من اقتراب إيران من صنع قنبلة نووية “قريبًا” إذا ما استمر المسار على هذا النحو بعد العثور على يورانيوم مخصب بنسبة تقارب 84% في منشأة فوردو.

منشأة “فوردو” ترفع من مستوى الشكوك

على الرغم من أن إيران قد نفت هذه التقارير الغربية والإسرائيلية بشأن تخصيب اليورانيوم بنسبة تقارب 84% وتحدثت حول “تراكم غير مقصود” من هذه المواد المشعة، وذَكَرَ المتحدثُ باسم منظمة الطاقة الذرية بها “بهروز كمالوندي” أن “وجود جزيئات تزيد نسبة التخصيب بها عن 60% لا يعني تخصيب اليورانيوم بنسبة أعلى من 60%”؛ فإن ذكر اسم “فوردو” في هذه التقارير يرفع حتمًا من نسبة الشكوك الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية حول المسار النووي لطهران. ويعود ذلك إلى التاريخ المليء بالمفاجآت الذي تستحوذ عليه هذه المنشأة.

وأول الأمر هو وقوعها تحت الأرض على عمق 80 مترًا أسفل هرم جبلي في منطقة صخرية تبعد عن العاصمة طهران مسافة 180 كليو مترًا، وتحصينها بدفاعات جوية عبر نشر منظومة الدفاع الجوي الصاروخية الروسية “إس-300” حولها منذ سنوات، وهو ما يجعل مهاجمتها بالطرق التقليدية أمرًا صعبًا. وثانيًا، فإن هذا المفاعل النووي قد ارتبط منذ الإعلان عن تأسيسه في سبتمبر 2009 بإعلانات متكررة من جانب طهران برفع مستويات تخصيب اليورانيوم إلى نسب 20% و60% منذ أبريل 2021. وتستحوذ المنشأة كذلك على عددٍ كبير وهائل من أجهزة الطرد المركزي المتفوقة من طراز “IR-6” يبلغ على الأرجح 3 آلاف جهاز.

وتجعل هذه الحقائق من مفاعل فوردو واحدًا من أهم المنشآت النووية في إيران، إلى جانب نطنز وبوشهر، وخاصة هذا الأخير الذي يعد بدوره البذرة الأولى للمفاعلات النووية في إيران وأول منشأة تشرع في العمل النووي بالبلاد. وتُعد هذه الحقائق كذلك أحد أسباب تفاقم القلق حيال إعلان الوكالة الدولية الأخير.

تحولات مواتية

بعيدًا عن التأكيد الغربي والنفي الإيراني بشأن تخصيب طهران لليورانيوم بنسبة 84%، والتي تعني أنها باتت على مسافة زمنية قريبة من إنتاج سلاح نووي، إلا أنه قد بات من المؤكد، حسب الإعلان الرسمي من جانب طهران، تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% في إيران وقبل ذلك بنسبة 20%، بعد أن كان المسموح به هو 3.67% فقط طبقًا للاتفاق النووي لعام 2015.

وقد ساعدت عدة تحولات دولية خلال الأعوام الأخيرة على إحراز إيران، وبشكل غير مباشر، تقدمًا كبيرًا في أنشطتها النووية إلى الحد الذي أقرت فيه الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤخرًا إنتاج إيران اليورانيوم المخصب بنسبة تقترب من 90%. وتجيء أبرز هذه التحولات على النحو التالي:

  • الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018:

لقد شكل إعلان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في مايو 2018 خروج واشنطن من الاتفاق النووي لعام 2015 المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) المحفّز والمبرر الرئيسين لدى طهران لتطوير أنشطتها النووية لاحقًا؛ فبعد هذا الخروج، أعلنت إيران عودتها لإنتاج اليورانيوم بنسبة 20%، والذي كانت قد وصلت إليه بالفعل قبل التوقيع على ذلك الاتفاق، ثم باشرت في أبريل 2021 تطوير هذه الأنشطة النووية وإنتاج اليورانيوم بنسبة 60% ردًا آنذاك على هجوم استهدف مفاعل “نطنز” النووي في محافظة أصفهان إلى الجنوب الشرقي من فوردو. وقد بات لدى إيران اليوم كميات كافية من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% تكفي على الأقل لصنع 4 رؤوس نووية إذا ما اتُخِذ قرارٌ برفعها إلى 90%.

إن هذا يعني أنه لو لم يعلن ترامب الخروج من الاتفاق لتضاءلت للغاية احتمالات إقدام إيران على رفع مستويات تخصيب اليورانيوم لأي نسبة كانت فوق المسموح به في الاتفاق النووي. ولا يُتوقع أن إيران كانت ستقدم على مثل هذه الخطوة؛ نظرًا إلى حاجتها إلى الاتفاق النووي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وهو ما يوضح لنا الأسباب الرئيسة لقبول حكومة المحافظين في إيران، برئاسة إبراهيم رئيسي، مواصلة التفاوض مع الغرب للتوصل إلى اتفاق نووي.

  • الحرب الروسية الأوكرانية:

لم تُبقِ الحرب الروسية الأوكرانية ملف إيران النووي في قلب دائرة الضوء كما كان قبل ذلك. فمع أن تسليط الضوء على أنشطة إيران النووية قد استمر منذ 24 فبراير 2022، إلا أنه لم يكن بهذه الكثافة التي اعتاد أن يكون عليها قبل ذلك التاريخ. وعلى الرغم من أن هذه الحرب لم تكن بشكل مباشر عاملًا مساهمًا في تشجيع إيران على المضي قدمًا في المسار النووي، فإنها أوجدت فراغًا ومساحة ولو ضئيلة لها كي تُكمل في ظلها أنشطتها النووية مع تحول أولويات القوى الكبرى إلى القضية الأوكرانية وتبدل الملف النووي الإيراني ليصبح في المرتبة الثانية أو حتى ما بعد ذلك. ومع هذا، فقد بقيت تلك التطورات الأولوية الأولى لإسرائيل.

  • توقف المباحثات النووية في فيينا في جولتها التاسعة:

منذ أغسطس الماضي، وانتهاء بعض الاجتماعات الخاصة بالجولة التاسعة من المفاوضات النووية الإيرانية في العاصمة النمساوية، لم تشهد مباحثات إيران مع القوى الكبرى في هذا الصدد أي تقدم على الإطلاق، بل سارت الأمور إلى مزيد من التعقيد، حتى أضحت التصريحات تتحدث عن “موت الاتفاق النووي”، وهو ما تطرق إليه نصًا الرئيسُ الأمريكي الحالي، جو بايدن، في كلمة أدلى بها أواخر ديسمبر الماضي، مضيفًا أنه فضّل عدم الإعلان عن ذلك رسميًا.

وبصرف النظر عن أية تطورات، إلا أن توقف المفاوضات النووية العام الماضي كان أمرًا جدليًا للغاية وكان في صالح إيران؛ لأنه منحها الفرصة لمواصلة أنشطتها النووية في وقت كانت تواصل فيه بالفعل تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، أي أنه لم يكن خافيًا آنذاك قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم بنسبة أعلى من 60%، وهو ما تحدثت عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقريرها مؤخرًا. بل إن إيران كانت قد امتلكت قبل أغسطس الماضي كميات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% تكفي، من ناحية الكمية، لإنتاج رؤوس نووية. وعلى أي حال، أصبح بإمكان إيران استغلال مدة أكثر من 6 أشهر (حتى الآن) لتطوير أنشطتها النووية، ويساعدها في ذلك كما سبق القول تحول الأولويات الدولية منذ فبراير 2022.

  • الاحتجاجات الداخلية في إيران:

خلال الشهر الذي تلا توقف المفاوضات النووية الإيرانية مع القوى الكبرى، اندلعت أكبر موجة من الاحتجاجات في تاريخ الجمهورية الإسلامية. وعلى غرار الحرب الأوكرانية، حوّلت هذه المظاهرات اهتمام الدول المعنية ووسائل الإعلام والمراقبين الدوليين بعيدًا عن المفاوضات النووية، وأصبح جل التركيز ينصب على هذه الحالة من الاحتجاجات. بل لقد أعلنت مختلف الدول المنخرطة في المفاوضات النووية عن أن هذه المباحثات لم تعد مطروحة على الطاولة الآن وأن الشاغل الأساسي فيما يتعلق بإيران هي احتجاجاتها. وعليه، شكّل هذا التحول تطورًا محمودًا لدى إيران عند تناول ملفها النووي، وذلك على الرغم من المخاطر الجمة التي حملتها هذه الموجة غير المسبوقة من المظاهرات التي يبدو أنها خفتت في الوقت الراهن.

الخطوة التالية: ضربة عسكرية أم استئناف وشيك للمفاوضات النووية ؟

عند الأخذ في الحسبان توقف المفاوضات النووية والتوترات الحادة الحالية بين إيران والغرب وإسرائيل، فإن إعلان الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية والوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن توصل إيران إلى إنتاج يورانيوم مخصب بنسبة 84% قد يقودنا إلى إحدى هذه السيناريوهات الثلاث في المستقبل القريب:

أ‌- استجلاء الموقف عبر آلية التعاون:

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم الإعلان فيها عن تخصيب إيران لليورانيوم بنسبة تقارب 90%. فقد جرت واقعة مشابهة في نوفمبر 2021 حينما تشاركت إسرائيل معلومات حول “استعداد” إيران لتخصيب اليورانيوم بنسبة 90%، إلا أنه وعبر التعاون ثبت أن إيران لا تزال بعيدة عن هذا المستوى. أما من ناحية أخرى، فإن التقرير السري الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية قد قال إن “إيران أبلغت الوكالة بأن التقلبات غير المقصودة في مستويات التخصيب ربما حدثت خلال الفترة الانتقالية وقت بدء عملية التخصيب لدرجة نقاء 60% خلال نوفمبر 2022، أو في أثناء استبدال أسطوانة التغذية”.

وهنا، قد يلجأ المجتمع الدولي إلى آلية التعاون والحوار مع إيران من أجل استجلاء الموقف والتعامل الفوري مع أي عملية تخصيب لليورانيوم تتخطى مستوى 60%، خاصة إذا ما تم التهديد باستخدام القوة العسكرية المباشرة. وقد بدأ المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافئيل جروسي، بالفعل زيارة إلى إيران يوم 3 مارس الجاري من أجل “استئناف الحوار”، حسب تعبير أحد الدبلوماسيين المعنيين. وسيلتقي جروسي مسؤولين رفيعي المستوى في طهران من أجل بحث هذه التطورات، من بينهم الرئيس إبراهيم رئيسي. يعني هذا أن آلية الحوار مع طهران بشأن هذا التطور قد تكون الخيار الأمثل للتعامل مع الأنشطة النووية الإيرانية بعد التقرير الأخير بشأن التخصيب بنسبة 84%.

ب‌- استئناف وشيك للمفاوضات النووية: 

قد يدفع إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير إلى سرعة استئناف المفاوضات النووية بين إيران والقوى الكبرى من جديد بعد توقفها منذ أغسطس الماضي، وهو سيناريو ترمي إليه إيران منذ أشهر؛ إذ أن حدوث تعاون واستجلاء للموقف من جانب إيران مع المجتمع الدولي والقوى المعنية الخارجية بشأن العثور قبل أشهر على آثار يورانيوم مخصب في 3 مواقع غير معلن عنها مسبقًا، علاوة على تقرير الوكالة الدولية الصادر منذ أيام حول مواد نووية مخصبة بنسبة تصل إلى 84%، يُرجح بشدة أن يعقبه استئناف للمفاوضات النووية مرة أخرى في فيينا؛ إذ ستحاول القوى الكبرى التأكيد على تقييد الأنشطة النووية الإيرانية بعد ظهور هذه التطورات الأخيرة.

ج- ضربة عسكرية إسرائيلية: 

قبل حوالي 10 أعوام، عبّر وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك عن مخاوفه من أن تصبح “إيران نووية” أمرًا واقعًا أمام الإسرائيليين قائلًا، خلال زيارة له إلى واشنطن ولقائه مع مسؤولين في إدارة باراك أوباما، “إنني أخشى أن يستمر ذلك يتردد على مسامعنا حتى يُقال لنا إن الأوان قد فات ولم يعد بوسعنا أن نفعل شيئًا وعلينا التعايش مع الأمر”، يقصد مع تحول إيران لدولة نووية. تعبر هذه الكلمات عن مدى قلق إسرائيل من امتلاك طهران لسلاح نووي ما يجعلها من بين أهم المراقبين لهذه الأنشطة.

ومؤخرًا، تقوم حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بمساعٍ واتصالات وعملية تنسيق دولية من أجل مواجهة الأنشطة النووية الإيرانية، من بينها زيارة قام بها وزير الخارجية إيلي كوهين إلى ألمانيا في 28 فبراير 2023 كان عنوانها الرئيس ملف إيران النووي. حيث تشعر إسرائيل بالتهديد من وراء توقف المفاوضات النووية ومواصلة طهران أنشطتها النووية في الوقت نفسه، وما يبدو من عدم تأثير عمليات الاغتيال النووية على هذا المسار.

إن هذه القضايا كلها قد تقود إسرائيل إلى توجيه ضربة عسكرية استباقية إلى المنشآت النووية الإيرانية ومن بينها منشأة فوردو؛ من أجل ضمان عدم تحول إيران إلى دولة نووية؛ لأن إسرائيل تعد ذلك “الخط الأحمر”، ولا يمكن الاعتقاد بأنها قد تصمت إزاءه. ولكن إسرائيل ستلجأ في إطار هذا السيناريو إلى التعاون مع قوى دولية أخرى من أجل ضمان تكوين جبهة دولية موحدة وقوية يمكنها التعامل لاحقًا مع أي عمليات انتقامية إيرانية. وعلى الرغم من ذلك، يظل هذا السيناريو مستبعدًا في الوقت الراهن؛ إذ إنه سيكون الملجأ الأخير إن لم تنجح آليات التعامل السياسي أو الدبلوماسية مع طهران.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75855/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M