ما بعد التصعيد الباكستاني-الإيراني: الحسابات والانعكاسات على العلاقات الثنائية

  • جاء رد باكستان على القصف الإيراني لأراضيها، انطلاقاً من خشية إسلام أباد في حال لجأت إلى ضبط النفس أن يعتمد الحرس الثوري ذلك سياسة بعيدة الأمد، وأن يؤدي ذلك إلى انتهاكات متكررة للسيادة الباكستانية كما يحدث في العراق وسورية. 
  • نجحت الصين في استعادة القنوات الدبلوماسية بين إيران وباكستان، وقدّمت ضمانات أدت في النهاية إلى وساطة ناجحة بين البلدين، لذا استأنفت إيران وباكستان علاقتهما الثنائية، وبالتالي تضاءلت احتمالات حدوث المزيد من التصعيد. 
  • مع أن الجيش الباكستاني يعتقد أنه استعاد قوة الردع بعد الهجوم الانتقامي الأخير ضد إيران، إلّا أنه يريد مُعالجة ثلاثة مخاوف رئيسة: الفشل الاستخباري في توقع الضربات الإيرانية، والحاجة إلى تقليص الإطار الزمني للرد على الضربات المستقبلية من قبل الدول المجاورة، والانخراط مع الحرس الثوري ومكتب القائد الأعلى مستقبلاً لأن الأحداث أثبتت أن السلطة تتركّز في أيديهما. 
  • ستكون للمواجهة الأخيرة بين باكستان وإيران تداعيات مُتعدّدة، من أهمها تراجع القوة الناعمة لإيران لدى الباكستانيين، وبقاء العلاقات التجارية بين البلدين ضحيةً للأولويات الأمنية المتضاربة.        

 

أطلق الحرس الثوري الإيراني مساء يوم 16 يناير 2024 عدة صواريخ ومُسيَّرات على منطقة كوهي-سبز الواقعة في مقاطعة بانجكور بإقليم بلوشستان الباكستاني، وزعمت إيران أن الهجوم استهدف مقرين لجماعة “جيش العدل” البلوشية المعارضة للنظام الإيراني. في حين زعمت باكستان أن الهجمات أدت إلى مقتل طفلين اثنين وجرح ثلاثة آخرين، وأكد الجيش الباكستاني في وقت لاحق مقتل ثلاثة من عناصر الجماعة، لكنَّه لم ينقل هذا الخبر عبر وسائل الإعلام، غير أن التقارير أشارت إلى أن القتلى ليسوا من العناصر البارزة في الحركة. وتقع مقاطعة بانجغور بالقرب من ميناء جوادر الباكستاني قيد الإنشاء، وميناء تشاهبهار في إقليم سيستان-بلوشستان الإيراني.

 

المسوغات الإيرانية

شهدت كلٌّ من إيران وباكستان نمطاً من العنف قبل توجيه الضربات الإيرانية في باكستان، حيث شنَّ “جيش العدل” في 15 ديسمبر 2023 هجوماً إرهابياً ضد مقر للشرطة في منطقة رسك بإقليم سيستان-بلوشستان الإيراني، ما أدى إلى مصرع 11 من عناصر الأمن الإيراني. وأعقب هذا الهجوم عملية قتل لرجل الدين المتشدد المناهض للشيعة مولانا مسعود الرحمن عصماني في إسلام أباد، بتاريخ 6 يناير 2024. وتشير السلطات الباكستانية إلى أن ثلاثة أسباب قد تقف خلف مثل هذه الأعمال العدائية من جانب إيران:

 

  1. تستعد إيران لإجراء انتخابات تشريعية في مارس 2024، حيث ترغب طهران من خلال إظهار عدائيتها إيصال رسالة إلى الشعب الإيراني بأن النظام ما زال يقف بحزم في وجه أي اعتداء خارجي.
  2. ترغب إيران في توجيه رسالة إلى دول المنطقة بأنها قد تواجه وضعاً مماثلاً في حال سماحها للولايات المتحدة وحلفائها باستخدام أراضيها ضد إيران.
  3. تسعى إيران إلى إثارة المشاعر القومية. وتجدر الإشارة إلى أن الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق ضد النظام الإيراني أدت إلى إضعاف موقف النظام كثيراً في الأوساط الشعبية، وأن مثل هذه الأفعال ضد التهديدات أو الهجمات الخارجية قد تؤدي إلى اصطفاف الشعب الإيراني خلف النظام.

 

ولا يمكن إنكار حقيقة أن باكستان تؤوي “جيش العدل” في منطقة تُربات (مقاطعة كيش في إقليم بلوشستان)، بهدف مواجهة جماعات التمرد البلوشية، وبخاصة في المناطق القريبة من كيش وبنجكور وجوادر. وتجدر الإشارة إلى أن “جيش العدل” مجموعة مسلحة دينية سنية بلوشية، في حين أن “جيش تحرير بلوشستان”، و”جبهة تحرير بلوشستان”، و”جيش بلوشستان الجمهوري”، ومجموعات بلوشية متمردة أخرى في باكستان تُعَدُّ مجموعات قومية بلوشية ذات ميول يسارية. ويقف “جيش العدل” والمجموعات البلوشية الباكستانية على طرفي نقيض من بعضهما بعضاً، وينخرطان في قتال مسلح كلما حانت الفرصة. وعمل “جيش العدل” منذ إعادة نشره في منطقة بنجكور وتربات على بناء العديد من الكمائن في الجبال، وبخاصة في كوهي-سبز، حيث تمكن من قتل عشرات المسلحين الباكستانيين البلوش، لذلك فإن “جيش العدل” يخدم -بشكل غير مباشر- مصالح الجيش الباكستاني، غير أنه في الوقت نفسه استمر بالتخطيط لشن هجمات داخل إيران، الأمر الذي لم يكن مقبولاً بالنسبة لطهران.

 

الضربات الباكستانية والتقدير الاستراتيجي

شَنَّت باكستان خلال الساعات الأولى من يوم 18 يناير 2024 ضربات ضد مخابئ داخل إيران يستخدمها إرهابيون ومتطرفون مسؤولون عن هجمات وقعت مؤخراً في باكستان. ويستخدم المخابئ المستهدفة شخصيات متهمة من قبل السلطات الباكستانية بممارسة الإرهاب، مثل دوستا المعروف باسم “الرئيس”، وبجار المعروف باسم “سوغات”، وسهيل المعروف باسم “شفق”، وأصغر المعروف باسم “باشام”، ووزير المعروف باسم “وازي” إلى جانب آخرين. ويرتبط هؤلاء بـ “جبهة تحرير بلوشستان”. واستخدمت إسلام أباد مُسيرات وصواريخ لاستهداف الجبهة في منطقة سرفان في إقليم سيستان-بلوشستان الإيراني. واستخدم سلاح الجو الباكستاني قاعدة شهباز الجوية في جاكوب أباد لضرب أهداف دقيقة بناء على مصادر استخباراتية.

 

واستغرق الأمر باكستان نحو 26 ساعة لتوجيه ضربات ضد المسلحين البلوش داخل إيران. وكان أمام إسلام أباد خياران رئيسان: ضبط النفس، أو شنَّ ضربات داخل إيران باستخدام المسيرات والصواريخ. وتجدر الإشارة إلى أن إيران تحظى بنفوذ وقوة ناعمة قوية داخل باكستان مقارنة بدول الجوار الأخرى مثل الهند وأفغانستان، لكنَّ الجش الباكستاني أخذ في الاعتبار كل العواقب قبل شنّ هذه الضربات.

 

أولاً، ساد قلق حقيقي أنه في حال لجوء إسلام أباد إلى ضبط النفس عسكرياً والامتناع عن شنِّ ضربات صاروخية أو جوية، فإن هناك احتمالاً كبيراً بأن الحرس الثوري الإيراني قد يفسر ذلك على أنه “ضعف”، واحتمال اعتماد ذلك سياسة بعيدة الأمد. وقد يؤدي هذا إلى انتهاكات متكررة لسيادة باكستان كما يحدث في العراق وسورية.

 

ثانياً، جرى إطلاق حملة دعائية من جانب حزب سياسي محدد (حركة إنصاف الباكستانية) ومؤيديها تثير تساؤلات حول أولويات الجيش الباكستاني، حيث بدأت هذه الحملة تكتسب زخماً. وتمحور النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي حول المخاوف بأن الجيش الباكستاني قد يُفضِّلُ التدخل السياسي على الدفاع الوطني، لذلك كان لزاماً مواجهة هذه الحملة الدعائية من خلال شنَّ ضربات مضادة وإجراءات ملموسة ضد إيران لمنع إثارة المشاعر الشعبية.

 

ثالثاً، في حال لجوء إسلام أباد إلى ضبط النفس ضد إيران فإن هذا سيشجع دول مجاورة أخرى، وبخاصة الهند والصين، على تبني مواقف عدائية ضد باكستان في المستقبل. وأصدرت الهند بياناً في أعقاب الضربات الجوية الإيرانية داخل الأراضي الباكستانية دعمت فيه نيودلهي خيار طهران باستهداف الإرهابيين داخل باكستان. كما شهد العقد الماضي حالات متنوعة استهدف المسلحون البلوش خلالها مهندسين صينيين. لذلك فلو أظهرت إسلام أباد ضبط النفس تجاه طهران فإن الصين قد تتشجع في المستقبل للقيام بردود مماثلة أو عمليات مشتركة ضد الإرهابيين على الأراضي الباكستانية، وهو سيناريو ترغب باكستان في تجنُّبه.

 

وفي غضون ذلك، من المرجح أن تكون التقديرات الباكستانية قد قللت من إمكانية لجوء طهران إلى تصعيد الموقف في حال قيام باكستان بالرد على الضربات الإيرانية، لأنه ليس بوسع إيران تحمل شنّ حملة عسكرية على الحدود مع باكستان نظراً لانشغال طهران بالفعل على جبهات أخرى في الشرق الأوسط. كما أراد الجيش الباكستاني توجيه رسالة واضحة بأن إسلام أباد ليست دولة ضعيفة مثل العراق وسورية. لذلك جرى اللجوء إلى الخيار المحسوب تماماً بتوجيه ضربات باستخدام الصواريخ والمسيرات داخل إيران ضد المتطرفين البلوش. وعمدت باكستان من أجل مواجهة الدعاية الداخلية على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تسليط الضوء على الرد العسكري ضد إيران لإعادة بناء الشعور بـ “السِّيادة” الذي تضرر نتيجة الضربات الإيرانية.

 

دعم إيران للإرهاب ومخاوف باكستان

لطالما امتلكت إيران برنامجاً سرياً داخل باكستان للتجنيد لمصلحة جماعاتها المسلحة في سورية، إذ تمكنت طهران عام 2015 من تجنيد نحو 5,000 شاب متشدد باكستاني شيعي للذهاب إلى سورية، لكنَّ نصف هؤلاء المجندين عادوا إلى باكستان خلال الفترة 2019-2021. وتُواصل طهران دعمها المالي والأيديولوجي لهؤلاء المتشددين الشيعة داخل باكستان. وتعتقد أجهزة الاستخبارات الباكستانية أن إيران ترغب في تشكيل “حزب الله باكستان” بوصفه ذراعاً لها يخدم أغراض طهران السياسية والدينية داخل باكستان. وتشتكي إسلام أباد منذ مدة طويلة، وبخاصة بعد عام 2007، من أن إيران تؤوي على أراضيها مجموعات بلوشية باكستانية مسلحة، ما يتسبب في مشكلات كبيرة لتنفيذ مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني بشكل ناجح. وتعمل حوادث العنف على منع إقامة المشروع وتدفق الاستثمارات الأجنبية.

 

قدمت إسلام أباد العديد من الحالات والأدلة حول تورط إيران المباشر وغير المباشر في نقل الأسلحة عبر الحدود إلى المسلحين البلوش. ويعتقد الجيش الباكستاني أن الهند أرسلت أيضاً أسلحة خفيفة متنوعة عبر إيران خلال الفترة 2016-2020، وجرى نقل هذه الأسلحة عبر مُهربي مادة الديزل، ويقوم حرس الحدود الإيراني بمساعدة هؤلاء الأشخاص. وكانت الحكومة الإيرانية خلال الفترة 2014-2020 على علم بنقل الأسلحة الخفيفة من جانب الهند إلى التنظيمات الانفصالية البلوشية عبر إيران. لكنْ بحسب الجيش الباكستاني فإن الحكومة الإيرانية توقفت منذ عام 2020 عن دعم مثل هذه الأنشطة السرية نتيجة الضغط الصيني.

 

وقدمت مستشفيات مدينة سرفان الإيرانية الرعاية الصحية لمقاتلي التنظيمات البلوشية الانفصالية الذين يتعرضون للإصابة. وتمكن المسلحون البلوش الباكستانيون من تطوير علاقات ودية وشبكات مع الأطباء البلوش في سرفان الإيرانية لمعالجة المقاتلين البلوش المصابين. ونقلت باكستان بشكل متكرر خلال السنوات الست الماضية هذه المخاوف إلى إيران دون أي إجراء جوهري من جانب طهران. وبالرغم من هذه المخاوف لم تحاول إسلام أباد انتهاك سيادة إيران.

 

 

عامل الصين

أدت بيجين دوراً محورياً في نزع فتيل التوتّرات الأخيرة بين باكستان وإيران. وفي الواقع، ظلّت الصين على اتصال مع كلا البلدين خلال النزاع. ويرجع ذلك أساساً إلى أن لدى الصين مصالح اقتصادية واستراتيجية كبيرة في باكستان وإيران. وتسعى الصين إلى توسيع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني في باكستان بعد الانتخابات العامة المُقبلة، واستثمرت بالفعل بشكل كبير بهذا الخصوص في البلاد. وبالمثل، وقّعت بيجين شراكة استراتيجية لمدة 25 عاماً مع إيران؛ وبالتالي، لم ترغب الصين في رؤية تصعيد بين البلدين.

 

وبعد فترة وجيزة من الضربات الإيرانية الأخيرة، طلبت بيجين من باكستان ضبط النفس. لكن إسلام أباد لم تلتفت إلى رسائل بيجين لضبط النفس ولجأت إلى تنفيذ ضربات انتقامية ضد إيران. ومع ذلك، وبعد فترة وجيزة من ضرباتها الانتقامية، بعثت إسلام أباد إلى بيجين برسالة إيجابية، وقد ضَمنت الصين استعادة القنوات الدبلوماسية بين إيران وباكستان وقدّمت ضمانات أدت في النهاية إلى وساطة ناجحة بين البلدين.

 

الآثار المُترتّبة على النزاع

بعد 48 ساعة من المواجهة بين الطرفين وتوتر العلاقات الدبلوماسية، استأنفت إيران وباكستان علاقتهما الثنائية. وظلّت الاتصالات عبر الهاتف بين وزيري خارجية البلدين ووزيرين إضافيين من كلا الجانبين تتّسم بالإيجابية. وقرّرت باكستان إرسال سفيرها إلى طهران؛ وبالتالي، تضاءلت احتمالات حدوث المزيد من التصعيد. ومع ذلك، سيكون لتلك المواجهة بين البلدين تداعيات مُتعدّدة.

 

أولاً، كانت أكبر ضحية لهذا الحادث النوايا الحسنة الهائلة التي أوجدتها إيران لنفسها بين الباكستانيين العاديين. لقد استخدمت إيران على مر السنين المشاعر المُعادية للولايات المتحدة والقضية الفلسطينية ودعم طهران لقضية كشمير لبناء قوة ناعمة لها بين المُثقّفين والمواطنين العاديين في باكستان. وقد تشوّهت هذه النوايا الحسنة بشدة بسبب الضربات الأخيرة، والتي يراها كثير من الباكستانيين غير مُبرّرة، وعَدُّوها عملاً حربياً ضد بلادهم.

 

ثانياً، غيّرت تلك المواجهة تماماً الخطاب الرسمي الثنائي، على الأقل في الوقت الحالي؛ فقبل الضربات الإيرانية، كان البلدان يعملان على تحسين التجارة وتسهيل أنشطة قطاع الأعمال بين الجانبين. كما كانا يعملان على بعض الاتفاقيات لتعزيز التجارة الثنائية. ومع ذلك، قرّرت لجنة الأمن القومي الباكستانية أنها ستُعطي الأولوية للأمن على التجارة. وفي هذا السياق، ستُناقش باكستان بعض الترتيبات للتخفيف من حدة التحدّيات الأمنية. وعلى سبيل المثال، سيكون لاتفاق تسليم المُجرمين مع إيران، وبخاصة المُسلّحين البلوش، أولوية قصوى بالنسبة لباكستان. علاوة على ذلك، وبمُساعدة بيجين، ستعمل باكستان على وضع ترتيبات خاصة لإطار مشترك لمكافحة الإرهاب حتى لا يتعرّض أمن الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني للخطر بسبب اختباء المُسلّحين البلوش في إيران. ومن المُرجّح أن تظل العلاقات التجارية بين البلدين ضحيةً للأولويات الأمنية في ظل هذا الوضع برمته.

 

ثالثاً، سعت باكستان في الماضي إلى تحقيق توازن دقيق في علاقتها مع إيران ودول الخليج العربية؛ فعلى المستوى الاستراتيجي، امتنعت باكستان عن دعم دول الخليج العربية بقوة ضد وكلاء إيران وموقف طهران العدواني في منطقة الخليج. وعلى سبيل المثال، قرّرت باكستان البقاء على الحياد في الحملة التي قادتها السعودية ضد المُتمرّدين الحوثيين في اليمن. وجاء ذلك الموقف بشكل أساسي لأن إسلام أباد لم ترغب في استعْداء إيران، وبسبب حسن نية طهران تجاه إسلام أباد. ومع ذلك، فإن المواجهة الأخيرة بين الجانبين، غيّرت منظور الجيش الباكستاني بهذا الخصوص؛ فثمة ميل أكبر داخل الجيش إلى فكرة أنه يجب على باكستان أن تمنح الدول العربية الأولوية على إيران خلال أي توتّرات أو صراعات بين الطرفين المُتحاربين.

 

رابعاً، على الرغم من أنه قد يبدو أنه تم نزع فتيل الأزمة الإيرانية-الباكستانية، إلا أن باكستان تخشى من أن تلجأ إيران إلى إعادة تنشيط وكلائها في باكستان. وينطوي على هذه الاستراتيجية بالنسبة لطهران كُلف أقل بكثير على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي، في حين يُمكنها أن تُزعزع الاستقرار في باكستان.

 

خامساً، أدّت الضربات الباكستانية في إيران إلى مقتل عناصر من “جبهة تحرير بلوشستان”. ونتيجة لذلك أعلنت الجبهة في 19 يناير عن تنفيذ هجمات مُضادة داخل بلوشستان ضد مصالح باكستان؛ لذا، قد يكون الجيش الباكستاني والرعايا الصينيين المُرتبطين بمشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني أهدافاً مُحتملة لجبهة تحرير بلوشستان في الإقليم.

 

مخاوف الجيش الباكستاني الاستراتيجية

يعتقد الجيش الباكستاني أنه استعاد قوة الردع بعد الهجوم الانتقامي الأخير ضد إيران، إلّا أنه يُريد مُعالجة ثلاثة مخاوف رئيسة:

 

أولاً، لا يُمكن التغاضي عن الفشل الاستخباراتي الذي مُني به؛ فلدى الجيش الباكستاني شبكة استخبارات بشرية قوية داخل إيران، وبخاصةٍ على طول المنطقة الحدودية لمُراقبة الوضع الأمني بانتظام. ومع ذلك، فإن عدم تمكّن باكستان من الحصول على مثل هذه المعلومات مُسبقاً يُعدّ فشلاً استخباراتياً.

 

ثانياً، بحسب التقديرات الباكستانية، فإن الضربات الإيرانية الأخيرة نفّذها الحرس الثوري الإيراني من دون إبلاغ إبراهيم رئيسي وحكومته. ويرجع ذلك أساساً إلى أن وفداً إيرانياً رفيع المستوى، بقيادة المبعوث الخاص للبلاد إلى أفغانستان، حسن كاظمي قمي، أجرى في اليوم السابق للهجوم مُحادثات مُكثّفة مع كبار مسؤولي وزارة الخارجية في إسلام أباد. وعلاوة على ذلك، كان حاكم السند، كامران تيسوري، يترأس وفداً من رجال الأعمال إلى معرض الصادرات في مدينة مشهد الإيرانية.  كما كان رئيس جمارك بلوشستان، إلى جانب أعضاء غرف التجارة والصناعة في المُقاطعات، وكبار ضباط الأمن والحكومة، في تشابهار لحضور اجتماع لجنة الحدود المُشتركة. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو حقيقة أنه قبل ساعات من الهجوم الإيراني، عقد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، اجتماعاً ودياً مع رئيس الوزراء الباكستاني المؤقّت، أنوار الحق كاكر، على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. لذا، قدّر المسؤولون العسكريون في باكستان أن المسؤولين والوزراء الإيرانيين لم يكونوا على علم بهذا الهجوم وواصلوا عقد اجتماعات رفيعة المستوى مع أقرانهم الباكستانيين. وهذا يقود إلى حقيقة إلى أن الحرس الثوري الإيراني، الذي يُعدّ بمنزلة دولة داخل دولة، هو المسؤول عن الهجوم. وثمة أصوات قوية داخل الجيش تدعو إسلام أباد إلى الانخراط مع الحرس الثوري ومكتب القائد الأعلى في المستقبل في إيران بدلاً من تطوير العلاقات مع الإدارات السياسية في طهران، لأن السلطة تتركّز في أيدي الحرس الثوري ومكتب القائد الأعلى.

 

ثالثاً، يشعر الجيش أيضاً بقلق بالغ من طول “وقت الاستجابة” الذي استغرق باكستان للرد على الهجمات في عامي 2019 و2023؛ لذا فإن هناك على ما يبدو توجهاً جدياً لتقليص الإطار الزمني لمثل هذا النوع من الرد على الضربات المُستقبلية من قبل الدول المجاورة.

 

الاستنتاجات 

سلّطت المواجهة الأخيرة بين باكستان وإيران الضوءَ على الشبكة المُعقّدة من المشهد الجيوسياسي الإقليمي، والمخاوف الأمنية، والحسابات الاستراتيجية. ويبدو أن المنطق الإيراني وراء الضربات الصاروخية في باكستان مُتجذّر في الاعتبارات المحليّة، واستحضار المشاعر القومية، واستعراض القوة، وبعث رسائل إلى الفاعلين الإقليميين. إن سياسة باكستان المُتمثّلة في إيواء جماعة “جيش العدل” بوصفها رادعاً ضد الجماعات المُتمرّدة البلوشية زادت من تعقيد الوضع، ما أدّى إلى دوّامة العنف تلك.

 

تضمَّنت عملية التفكير الاستراتيجي لباكستان في الرد على الضربات الإيرانية دراسة دقيقة للعواقب المُحتملة، على الصعيدين المحلّي والدولي. فقد كان قرار باكستان بشن ضربات انتقامية مدفوعاً بمخاوف بشأن الضعف المُتصوّر للبلاد، والدعاية المحليّة، وتشجيع الدول المجاورة على تبنّي مواقف عدوانية ضد إسلام أباد.

 

لقد برز دور الصين باعتباره عاملاً مُهماً في نزع فتيل التوتّر بين البلدين، ما يعكس مصالح بيجين الاقتصادية والاستراتيجية في كل من باكستان وإيران. وأدت جهود الوساطة الصينية، إلى جانب الضمانات من خلال القنوات الدبلوماسية، دوراً حاسماً في استعادة العلاقات الثنائية بين إيران وباكستان. وتشمل الآثار المُترتّبة على تلك المواجهة تحولاً في الخطاب الثنائي من التجارة إلى الأولويات الأمنية، وإعادة تنشيط مُحتملة للوكلاء من قبل إيران، وتغيُّر مواقع “جيش العدل”، مع ما يرتبط بذلك من تداعيات أمنية واجتماعية.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/altaseid-bayn-pakistan-wa-iran-alhisabat-walaineikasat-ala-alalaqat-althunayiya

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M