محاولة اغتيال الكاظمي: ما الذي قد تحمله لمستقبل العراق؟

إسلام أبو العز

 

وقائع محاولة اغتيال الكاظمي

بطائرات مُسيرة لا يقل عددها عن ثلاثة، وما لا يقل عن 1000 كجم من المتفجرات، تم استهداف مقر إقامة رئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي. كان هذا الهدف هو التصعيد الأخطر منذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية، والتي أعقبها سلسلة من حوادث العنف المتنوعة، شملت صدامات سقط بها قتلى بين المتظاهرين المعترضين على نتائجها وقوات الأمن؛ وحتى قصف منشآت ومباني تابعة للحكومة العراقية، كان أبرزها مقر المخابرات الوطني العراقي مطلع الشهر الحالي.

ومن ثم، جاءت محاولة اغتيال الكاظمي كذروة لتصاعد معدلات العنف في الصراع الداخلي بين مكونات الاجتماع السياسي العراقي، ومدى اتساق أو تنافر ذلك مع أجواء الحوار بين القوى الإقليمية المعنية بالعراق وعلى رأسها السعودية وإيران.

انطلقت الطائرات المسيرة من نقطة تبعد 12 كيلومترًا عن المنطقة الخضراء التي يقع بها مقر الكاظمي. وبحسب مصادر رسمية وأهلية ومفتوحة، فإن قوات الأمن العراقية تمكنت من إسقاط طائرتين مسيرتين من الطائرات التي انطلقت من منطقة الشعلة شمال غرب بغداد. وتعد هذه المنطقة، وهي الحي السكني المكتظ بالسكان، الحاضنة الرئيسية لكل من “عصائب أهل الحق” و”كتائب حزب الله العراقي”، أبرز فصائل الحشد الشعبي في العاصمة العراقية. وقد شهدت خلال الشهور القليلة الماضية عددًا من الحوادث الأمنية بين تفجيرات واعتقالات ازدادت وتيرتها قبيل وعشية الانتخابات، والتي عكست ليس فقط خلافات بين الحكومة وقادة هذه الميليشيات. وكذلك وقعت بين هذه الفصائل خلافات حول تقاسم الأصوات ومحاولات بلورة موقف موحد، بالقوة، إزاء نتائج هذه الانتخابات، وإزاء الكاظمي نفسه.

 

ردود الفعل العراقية والدولية

زيارات واتصالات مكثفة استقبلها الكاظمي من مختلف القوى السياسية العراقية، بمن فيها المعارضون له، ظاهرها ومضمونها إدانة محاولة الاغتيال والتبرؤ ممن يقفوا وراءها. وعُد ذلك إشارة إلى توافق آخذ في النمو بين الفرقاء العراقيين على شدة تباينهم واختلافاتهم على محورية ما يمثله رئيس الوزراء العراقي كرمز استقرار، في هذا التوقيت الدقيق داخليًّا وخارجيًّا. والأهم، الحاجة إلى كبح جماح العنف المسلح الرامي للانقلاب على نتائج الانتخابات، التي نجم عنها تجريد للحشد الشعبي من غطائه السياسي والبرلماني المتمثل في تحالف الفتح الذي مُنيَ بخسارة فادحة في هذه الانتخابات.

خارجيَّا، أتت مُجمل ردود الأفعال العربية والدولية والأممية مُدينة لمحاولة الاغتيال. وكانت أبرز ملامحها توافق الخصوم الإقليميين والدوليين على تقدير شخص ودور الكاظمي، والتشديد على إبقاء واستمرار العملية السياسية في العراق، وعدم العودة للوراء؛ من حيث استخدام البلاد كساحة للصراعات الدولية والإقليمية، وتكريس مظاهر ومفاعيل الدولة ومؤسستها، والحد من مظاهر انفلات السلاح والميليشيات. ويأتي هذا التأكيد كضمانة لاستمرار مسارات الحوار الإقليمية والدولية، عدم تعقيدها من بوابة اشتعال الفوضى من جديد في العراق، وبروز اتجاه إقليمي جديد آخذ في النمو يستعيد بغداد عربيًّا، وتكريس ذلك عبر حزمة من المشروعات الاقتصادية الضخمة ذات الأبعاد الجيوسياسية الجيوستراتيجية، كما اتضح في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في أغسطس 2021، والتعاون الثلاثي بين مصر والأردن والعراق.

 

شواهد من وراء محاولة الاغتيال

شيوع استخدام الطائرات المسيرة في العراق لم يعد محصورًا على صراعات الخارج عبر الأراضي العراقية. كما أنه لم يعد مرتبطًا داخليًّا حصراً بميادين القتال والمعارك، وكذلك شيوع امتلاكها بين مختلف القوى والتنظيمات العسكرية هناك. لقد شهدت السنوات القليلة الماضية قفزة نوعية خطيرة في التلويح بها كنوع من الحوار الخشن بين مكونات الاجتماع السياسي العراقي؛ فسجلت لأول مرة استخدامها في هذا الإطار في ديسمبر 2019، حيث حلق عدد كثيف من تلك الطائرات في أجواء القصر الرئاسي كنوع من استعراض القوة والضغط في سياق تسمية “قصي السهيل”، مرشح تحالف الفتح التابع للحشد الشعبي كبديل للكاظمي، وذلك إبان انتفاضة أكتوبر من نفس العام. وعقب ذلك بأقل من أسبوعين، تم استخدامها في قصف منزل زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، في مدينة النجف. وبالتالي، جاءت محاولة اغتيال الكاظمي الأخيرة لتشكل سابقة من حيث استخدام هذا السلاح في تفجير المشهد السياسي داخليًّا.

كان الكاظمي قد ذكر في تصريحات إعلامية له عقب الحادث  أن “المسيرات والصواريخ لا تبني الأوطان”، وذلك في إشارة إلى ما يمثله بشخصه وموقعه في بناء عراق وطني، وليس طائفيًّا قائمًا على المحاصصة كما هو الحال منذ 2003 وحتى اجتياح الموصل من جانب داعش 2014. وقد استطاع الكاظمي تحقيق هذه الغاية نسبيًّا – من حيث التوقيت ومقارنة بأسلافه -؛ وهو ما قد يجعل الكاظمي نموذجًا من الممكن استدامته حتى إن لم يكن بشخصه.

يمثل الكاظمي لمكونات الاجتماع السياسي العراقي منطقة وسط يمكن لمعظم الأطراف من مختلف الطوائف والعرقيات والعشائر الالتقاء فيها على قاعدة الفوز للجميع. وهي المعادلة التـي يقبل بها ويدعمها معظم الخارج الإقليمي؛ حيث نجح الكاظمي في الانفتاح على الجميع وبناء صلات مع كافة القوى الإقليمية والدولية المعنية بالعراق. وهو ما يؤشر بقوة وعلى ضوء الأحداث الأخيرة، لاحتمالية تعاظم دوره في المستقبل القريب من حيث استعادة الدولة واعتماد المؤسساتية كبديل لاستمرار بيئة ومناخ المحاصصة وارتهان القرار السياسي داخليًّا وخارجيًا لبندقية الميليشيات ووتيرة التصعيد والتهدئة بين القوى الإقليمية.

لقد كرست العديد من المليشيات والجماعات السياسية سلطتها على حساب سلطة الدولة، وهو ما جعل “مشروع” وشخص الكاظمي بمثابة تهديد لشبكات المصالح التي تعاظمت طيلة العقدين الماضيين وبلغت ذروتها إبان مواجهة داعش. وقد جردت الانتخابات الأخيرة معظم هذه الجماعات من غطاء سياسي، من المؤكد أن غيابه سيضعفها؛ خاصة مع استمرار الاستقواء بالخارج في إطار تنافس إقليمي كان العراق أبرز ساحاته. لقد تغيرت مسببات الصراع وحل محلها حوار ما زال حتى كتابة هذه السطور يسير بشكل جيد مقارنة مع السنوات الماضية، وبالتالي، فإن هذه الجماعات والميليشيات تخشى أن يتم إسقاطها من معادلات التسوية المتنوعة المرتقبة، وخسارة امتيازات ليس أقلها اخضاعهم لسلطة الدولة والقانون.

تشكل الخلافات بين هذه الجماعات أيضًا دافعًا قويًّا لما حدث قبيل وعشية إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة.  فمن ناحية، يتلاشى الاستثناء القانوني/الدستوري بل وحتى الديني -فتوى الجهاد الكفائي للسيستاني- الذي شكل المرتكز الذي ضاعف قوة هذه الجماعات ونفوذها، وهو ما ارتد على مكونات الشيعية السياسية العراقية التي باتت الجماعات والأطر الموالية لإيران في أدنى موقع سياسي لها بعد لصالح التيار الصدري. جعل هذا الخلافات بين هذه الجماعات تطفو على السطح بشكل متسارع، وجعل الصدام والتهديد المستمر بالتصعيد بمثابة الوسيلة الوحيدة لشد عصب هذه الجماعات وإبقائها تحت سيطرة قادتها، وتوجيه فائض القوة الآتي من واقع امتلاك السلاح، ودحر داعش نحو مشروع الدولة الوطنية الذي يحمله الكاظمي والتيار الذي يعبر عنه.

 

التداعيات المحتملة على مسار العراق

بات أقصى يمين الشيعية السياسية، أي الجماعات والميليشيات الموالية لإيران، بعد نتيجة الانتخابات في حالة من التوجس والخوف من أن تكون التفاهمات وجولات الحوار الإقليمية والدولية المتقاطعة مع العراق على حسابهم، خاصة مع ضغوط متنامية من جانب طهران لضبط إيقاعها المنفلت قبل وبعد الانتخابات. لقد اتجه قادة هذه الجماعات إلى  التهديد بالفوضى واللعب على حافة الهاوية لمحاولة اقتناص موقع في معادلة المتغيرات الإقليمية، وظهر هذا بقوة في عدد من الحوادث في الشهور الأخيرة، التي جعلت خلافات شخصية تتضخم بصبغة طائفية وعشائرية. وهو ما يرجح أن التصعيد المنفلت مؤخراً يأتي في إطار التفاوض مستقبلاً على صفقة تسوية تشابه ما اعتادته الطبقة السياسية في لبنان على سبيل المثال.

سارع “إسماعيل قآني،” قائد فيلق القدس، بزيارة عاجلة للعراق، حمل خلالها رسائل متعددة، داخلية وخارجية، مفادها ضبط التصعيد من جانب التنظيمات والميليشيات الموالية لطهران. وكذلك حذرت تلك الرسائل من تفاقم تداعيات خسارة المليشيات للانتخابات؛ إذا ما استمرت في نمط اللعب على حافة الهاوية. ترى طهران حاليًا أن هذا الاتجاه قد يضر حسابات علاقاتها بالعراق، وكذلك التحولات الجارية والمتعلقة بالتفاوض مع واشنطن في سبيل العودة إلى الاتفاق النووي، ومحادثات التقارب مع الرياض، وتمتد كذلك لملفات وسط آسيا وأفغانستان، والتي تشكل أولوية قصوى لإيران في الوقت الراهن، وتتقزم بجوارها نتائج الانتخابات العراقية. كذلك حملت زيارة قآني إشارة قوية بأن طهران هي الطرف الوحيد القادر على كبح جماح هذه الميليشيات والجماعات إذا ما عادت الأوضاع في العراق لمربع الفوضى.

تماشت الرسائل التي حملها قآني مع موقف إيران الرسمي وشركائها الإقليميين كحزب الله اللبناني، من حيث اعتبار محاولة اغتيال الكاظمي “اعتداء على إيران” وتهديدًا لأمن واستقرار العراق. وبحسب وسائل إعلام متنوعة، فإن قآني أوضح للكاظمي حرص بلاده على استقرار العراق في هذه اللحظة الحرجة، وأنها تقف على مسافة واحدة من الجميع، وأن “الرؤوس الصلبة” بأوساط الجماعات الموالية والتابعة لطهران ستخفف من خطابها وتصعيدها في الشارع على خلفية نتائج الانتخابات التي لم تقتنع طهران بتزويرها حسب ادعاء الموالين لها في العراق. وقابل الكاظمي هذه التطمينات الإيرانية برسائل احتواء مشروطة بالقبض على من وراء محاولة اغتياله وتقديمهم للمحاكمة. يعني هذا إمكانية البدء في عملية تطهير واستبعاد للعناصر الأكثر تطرفًا داخل الوسط الشيعي المؤيد لإيران.

 كمحصلة واستشراف، فإن محاولة الاغتيال وتداعياتها وتعاطي الأطراف الداخلية والخارجية معها، يشي بأن العراق  ما يزال بيئة خصبة لاستئناف الصراعات الإقليمية عبر أراضيها؛ وأن مناخ الحوار والتهدئة الراهن لايسمح بأكثر من تأهيل وتثمين نموذج الكاظمي كمرحلة انتقالية هشة بين اللادولة والدولة، وهو ما ستتبلور ملامحه في المستقبل القريب بناء على عدة محددات داخلية وخارجية. ويتقاطع هذا مع ما يمثله الكاظمي من احتمالات واعدة لاستعادة العراق كرقم هام اقتصاديًّا – من خلال مشروع التعاون العربي  الثلاثي – وسياسيًّا  في معادلات المتغيرات الإقليمية والدولية. يعني هذا ضرورة الحد من انفلات المليشيات والجماعات الطائفية باعتبارها أدوات الصراع الإقليمي. ولا يعني هذا تخلي القوى الإقليمية عن هذه الأدوات، بل سيتم الحفاظ عليها، وشبكة مصالحها، لإعادة تنشيطها في حال انهارت سبل الحوار مع الخصوم.

 

.

رابط المصدر:

https://ewc-center.com/2021/11/11/%d9%85%d8%ad%d8%a7%d9%88%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d8%ba%d8%aa%d9%8a%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a7%d8%b8%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%8a-%d9%82%d8%af-%d8%aa%d8%ad%d9%85%d9%84%d9%87-%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%aa%d9%82%d8%a8%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82%d8%9f/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M