مقامرة سياسية: لماذا تحرص إيطاليا على دعم حكومة منتهية الولاية في ليبيا؟

محمد فوزي

 

عبرت زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني الأخيرة إلى ليبيا، والتي التقت خلالها برئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، وإبرامها معه اتفاقات طاقوية تاريخية، عن تبني إيطاليا تحت حكم “ميلوني” لمقاربة في ليبيا تقوم على تبني مبدأ الانحياز لبعض أطراف الصراع، وهي مقاربة لا تتناسب مع طبيعة التعقيدات الموجودة حاليًا في ليبيا، وهي التعقيدات التي تفرض على القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في المشهد الليبي، تبني مقاربات ديناميكية تنفتح على كافة أطراف الأزمة، بما يضمن الوصول لتسوية للأزمة السياسية الراهنة، وتنفيذ الاستحقاقات المؤجلة وعلى رأسها الانتخابات.

استنساخ “الدبيبة” لنهج حكومة “السراج”

بعيدًا عن مساعي “الدبيبة” لترسيخ نفوذ حكومته عبر توقيع مثل هذه الاتفاقات مع بعض الدول، إلا أن الاتفاقية الأخيرة مع الحكومة الإيطالية، تمثل استنساخًا لنهج الحكومة السابقة بقيادة فايز السراج، على مستوى توقيع اتفاقات غير قانونية وغير معترف بها مع بعض الأطراف الخارجية، وقد تصاعد التركيز على أوجه عدم شرعية هذه الاتفاقية، في ضوء الاعتبارات التالية:

1- أن حكومة عبد الحميد الدبيبة حكومة منتهية الولاية قانونًا، منذ 24 ديسمبر 2021، وفور انتهاء ولاية هذه الحكومة كلف البرلمان الليبي فتحي باشاغا بتشكيل حكومة جديدة، حظيت بثقة مجلس النواب، لكن “الدبيبة” سعى إلى تكريس أزمة ازدواجية في السلطة في ليبيا، واستمر في أداء مهامه مدعيًا أنه يمثل الشرعية في ليبيا، وفي سبيل ذلك بدأ الاستقواء ببعض الأطراف الخارجية كتركيا وإيطاليا.

2- أعلنت العديد من القوى والاتجاهات السياسية الليبية عن أن الاتفاقية الأخيرة مع إيطاليا باطلة، وغير ملزمة للدولة الليبية، فقد وجه رئيس حكومة الاستقرار الليبية المكلف من قبل البرلمان، فتحي باشاغا، انتقادات للتحركات الإيطالية الأخيرة في طرابلس، معتبرًا أن اتفاقية الغاز التي أبرمتها روما مرفوضة وأنها تعبر عن سلوك إيطالي انتهازي، فيما عبر بعض أعضاء مجلس النواب الليبي عن رفضهم لهذا الاتفاق، باعتبار أن حكومة الدبيبة غير شرعية وغير مخولة بإبرام أي اتفاقيات جديدة.

وفي سياق متصل، انتقد وزير النفط بحكومة الدبيبة، محمد عون، صفقة الغاز، معتبرًا أنها غير قانونية، على أساس أن الدبيبة لم يتشاور مع وزارته قبل إبرام الاتفاق. كذلك، أعلن بعض مشايخ القبائل رفضهم لهذا الاتفاق الجديد، بسبب تعديل الصفقة الجديدة للاتفاقية القديمة بين البلدين، التي كانت شركة إيني الإيطالية قد وقعتها مع نظام معمر القذافي.

3- تأتي صفقة الغاز الأخيرة التي وقعتها الحكومة منتهية الولاية مع إيطاليا، في إطار محاولاتها لاستنساخ تجربة حكومة فايز السراج، التي لجأت للاستقواء بالخارج بعد أن فقدت شرعيتها، وسعت عبر هذا الاستقواء إلى فرض واقع جديد في ليبيا يخدم على وجودها واستمرارها، وفي هذا السياق وقع عبد الحميد الدبيبة مع الحكومة التركية اتفاقيتين في أكتوبر 2022، الأولى في مجال النفط والغاز، والثانية في مجال الأمن والدفاع، وهي الاتفاقات التي لاقت رفضًا واسعًا من كافة الأطراف الليبية، على اعتبار أنها من طرف واحد فاقد للشرعية بالأساس.

مقامرة إيطالية في ليبيا

أجرت “ميلوني” مباحثات مكثفة مع رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، وهي المباحثات التي ركزت على ملفي الطاقة والأمن ممثلًا في الهجرة غير الشرعية، وقد أسفرت هذه المباحثات عن بعض المخرجات الرئيسة ومنها: توقيع صفقة غاز بين شركة إيني الإيطالية والمؤسسة الوطنية للنفط الليبية، بقيمة بلغت نحو 8 مليارات دولار، وهي الصفقة التاريخية التي تشكل أكبر استثمارًا منفردًا في ليبيا خلال العقدين الأخيرين، وتهدف إلى تعزيز إمدادات الغاز نحو القارة الأوروبية، وتشمل تطوير حقلين بحريين للغاز في شمال ليبيا، وبالإضافة لذلك اتفقت رئيسة الحكومة الإيطالية مع “الدبيبة” ومسؤولي حكومته المنتهية ولايتها، على تكثيف أوجه التعاون والتنسيق بخصوص مواجهة الهجرة غير الشرعية.

ويمكن القول إن هذا التوجه الإيطالي نحو تبني سياسة الانحياز لأحد أطراف الأزمة الليبية، يقوم على جملة من الاعتبارات، وذلك على النحو التالي:

1- وجود تنسيق أمريكي – إيطالي: جاءت زيارة وزيرة الخارجية الإيطالية ولقائها بعبد الحميد الدبيبة، في أعقاب زيارة مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية ويليام بيرنز إلى ليبيا، التي التقى خلالها بعبد الحميد الدبيبة  في طرابلس، وخليفة حفتر في بنغازي، وقد تزامنت زيارة المسؤول الأمريكي لليبيا مع زيارة مماثلة لوفد عسكري إيطالي رفيع المستوى، ضم كل من رئيس أركان القوات المشتركة ورئيس دعم العمليات، حيث التقى الوفد الإيطالي بالمسؤولين العسكريين في غرب ليبيا، وهو ما أعقبه الإعلان عن زيارة مرتقبة لرئيس أركان القوات التابعة لحكومة الدبيبة، محمد الحداد، إلى بنغازي للقاء رئيس أركان الجيش الوطني الليبي، عبدالرزاق الناظوري، لبحث ملف توحيد المؤسسة العسكرية، وقد عبرت هذه التحركات المتزامنة عن وجود تنسيق محتمل بين إيطاليا والولايات المتحدة في الملف الليبي.

2- فك الارتباط بين “الدبيبة” وفلول “القذافي”: ربطت بعض التقديرات بين الموقف الإيطالي المنحاز لحكومة “الدبيبة”، وبين التقدم الغربي المحرز على مستوى فك الارتباط بين “الدبيبة”  وأنصار العقيد الراحل معمر القذافي عن طريق إعادة فتح قضية لوكيربي وتسليم بو عجيلة مسعود، وقد ذهبت التقديرات في هذا السياق إلى أن هذا المتغير يمهد  الطريق لتحالف بين القائد العام للجيش المشير خليفة حفتر والدبيبة، خصوصًا وأن تقارير تحدثت عن لقاء جمع صدام نجل المشير حفتر وقيادات من ميليشيات طرابلس في العاصمة الأردنية عمان في الأسابيع الماضية، وقد أشارت بعض التقارير إلى أن هذا اللقاء يمثل تمهيدًا لتسوية جديدة شبيهة بما تم عندما تم تعيين فرحات بن قدارة رئيسًا لمؤسسة النفط، مقابل تسديد الدبيبة لديون المؤسسة العسكرية، فضلًا عن أن الفترات الماضية حملت مؤشرات على وجود تفاهمات بين “الدبيبة” و”حفتر”، ومنها ما جرى من عملية تبادل للأسرى تم بموجبها  إطلاق سراح الطيار بالقوات المسلحة عامر الجقم، مقابل إطلاق سراح 15 أسيرًا لدى الجيش.

3- سيطرة “الدبيبة” على قطاع الطاقة: أحد الاعتبارات المهمة التي يمكن في ضوئها فهم سياسة الانحياز الإيطالية للحكومة المنتهية ولايتها بقيادة عبد الحميد الدبيبة، تتمثل في سعي الحكومة الإيطالية لاستغلال نفوذ وسيطرة حكومة الدبيبة على ملف الطاقة في ليبيا، حيث أعلن “الدبيبة” في يوليو 2022، عن تعيين  فرحات بن قدارة كرئيس للمؤسسة الوطنية للنفط، وفي ديسمبر 2022، قام “الدبيبة” بإعادة تشكيل المجلس الأعلى لشؤون الطاقة تحت رئاسته، على أن يتكفل بجميع مصادر الطاقة واستخدامها، كما يشرف على القضايا السيادية المتعلقة بأنشطتها، التي تضم النفط والغاز والمنتجات والبتروكيماوية والطاقة الذرية، والطاقة المتجددة والطاقة الكهربائية، وقد مهدت هذه التحركات من حكومة “الدبيبة” لعقد الاتفاق الأخير مع شركة “إيني” الإيطالية، وفي هذا السياق لوح رئيس المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، فرحات بن قدارة، بأنه يجري حاليًا التفاوض مع عدد من الشركات الأجنبية الأخرى بشأن الاستثمار في البنية التحتية للطاقة في ليبيا، ما يعكس الحرص الإيطالي على بناء تفاهمات مع حكومة “الدبيبة” سعيًا للحفاظ على المكاسب الطاقوية الإيطالية في الأراضي الليبية.

خطورة المقاربة الإيطالية في ليبيا

تحمل المقاربة الإيطالية الجديدة تجاه ليبيا، لا سيما على مستوى دعم أحد أطراف الأزمة على حساب باقي الأطراف، ما ينزع صفة الحياد عن هذه المقاربة، العديد من التداعيات السلبية على المشهد السياسي الليبي، وذلك على النحو التالي:

1- توظيف الحكومة منتهية الولاية للدعم الإيطالي: أحد الارتدادات الرئيسة التي ستترتب على هذه المقاربة، تتمثل في سعي الحكومة المنتهية ولايتها بقيادة عبد الحميد الدبيبة، إلى توظيف هذا الموقف الإيطالي، بما يعزز من وزنها النسبي، ويُطيل عمرها، وهو الأمر الذي يتعارض ومساعي حلحلة الأزمة.

2- زيادة حدة الاستقطاب بين أطراف الأزمة: تدفع هذه السياسات الإيطالية باتجاه زيادة حدة الأزمة السياسية التي تشهدها الساحة الليبية، في ضوء الاعتراضات الداخلية على هذه المقاربة، والنظر إليها على أنها محاولة لدعم حكومة غير شرعية، وتعرقل مساعي تسوية الأزمة الليبية سواءً على مستوى السعي لتشكيل لجنة حوار، على غرار ملتقى الحوار السياسي السابق بغية اختيار سلطة تنفيذية جديدة، أو على مستوى الدعوات لتشكيل حكومة جديدة تتولى إدارة المشهد الليبي لحين إجراء الانتخابات، فضلًا عن أن التجربة الليبية منذ إسقاط نظام “القذافي” تُشير إلى أن دعم أحد الأطراف وتبني سياسات انحيازية، هي سياسة تُعرقل الوصول إلى تفاهمات سياسية.

3- إعادة إنتاج سياسات الاستقواء بالخارج: ترتبط خطورة النهج الإيطالي الجديد في ليبيا، بشكل رئيس بما يمثله هذا النهج من عامل محفز لإعادة تبني القوى الدولية لسياسات انحيازية إزاء المشهد الليبي، بمعنى أن هذا النهج قد يدفع بعض القوى الدولية الأخرى المنخرطة في الأزمة إلى دعم بعض الأطراف على حساب أطراف أخرى، وهو النهج الذي سيكرس حالة “ازدواج السلطة” في ليبيا، وما يترتب عليه من سعي كل طرف في ليبيا إلى فرض أمر واقع جديد سواءً عبر تحركات ميدانية، أو التوقيع بشكل منفرد على اتفاقات مع أطراف خارجية، فضلًا عن أن هذا النهج يعرقل عمليات إنجاز الاستحقاقات السياسية المهمة في ليبيا وعلى رأسها الانتخابات التشريعية والرئاسية.

وفي الختام، يمكن القول إن الحكومة الإيطالية الجديدة بقيادة جورجيا ميلوني، تسعى إلى تعزيز وزنها النسبي في الأزمة الليبية، والحفاظ على وتعزيز مصالحها الاقتصادية والطاقوية في ليبيا، عبر تبني سياسة “الانحياز” المتمثلة في دعم حكومة منتهية الولاية في ضوء بعض الاعتبارات، مستغلةً في ذلك نهج حكومة “الدبيبة” القائم على الاستقواء ببعض الأطراف الخارجية في استنساخ لممارسات حكومة “السراج”، وهي مقاربة إيطالية تُساهم إلى جانب بعض الاعتبارات الأخرى في إعادة تدوير الأزمة في ليبيا، عبر العودة إلى مربع “الثنائيات الحكومية” وتنازع الشرعية فيما بينها.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75460/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M