موسكو في قمة معاهدة الأمن الجماعي.. دلالات وتحديات

داليا يسري

 

انعقدت قمة منظمة الأمن الجماعي الأخيرة في العاصمة الأرمينية يريفان، 23 نوفمبر 2022، برئاسة الرئيس الأرمني، “نيكول باشينيان”، وبحضور الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، والرئيس البيلاروسي، “ألكسندر لوكاشينكو”، ورئيس جمهورية كازاخستان، “قاسم زومارت توكاييف”، ورئيس جمهورية قيرغيزستان، “صدير جاباروف”، ورئيس جمهورية طاجيكستان، “إمام علي رحمان”. وجاءت هذه القمة في توقيت حرج يعيشه العالم أجمع بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، وتعيشه المنطقة بفعل الاشتباكات المسلحة التي اندلعت خلال العام الجاري بين أربعة أعضاء في المنظمة من جهة أخرى. بشكل يُلقي بظلاله على طبيعة المشهد السياسي المتوتر في الفناء الخلفي لروسيا خلال الوقت الراهن، ويطرح تساؤلات حول دلالات انعقاد القمة على قبضة موسكو الأمنية على المنطقة.

دلالات الحضور الروسي في القمة

حرص الكرملين منذ لحظة اندلاع الحرب الأوكرانية، أواخر فبراير من العام الجاري، على عدم السماح للأوضاع الدولية بعزل روسيا عن العالم، غير أن الحرب وما اتصل بها من وقائع لابد وأن تكون قد تركت بصمتها على زيارات الرئيس الروسي الخارجية؛ ففي حين امتنع الرئيس الروسي عن حضور قمم دولية مهمة مثل قمة دول الآسيان في كمبوديا نوفمبر 2022″، و”قمة العشرين في إندونيسيا نوفمبر 2022″، وقمة كوب 27 في مِصر نوفمبر 2022″، نجد أنه الطابع الأبرز الذي تتميز به القمم التي حضرها “بوتين” بدء ًامن فترة ما بعد الحرب يرتبط بشكل وثيق بأمرين؛ أولهما: أن تكون الدولة المضيفة دولة من الحلفاء الموثوق بهم لدى موسكو. وثانيهما: أن تكون القمة المزمع حضورها تخلو من أي أطراف غربية أو حضور لدولة تمتلك توجهات مناوئة للسياسة الروسية.

هذا بشكل يُلقي بظلاله على عدم رغبة الكرملين إرسال الرئيس إلى دولة حتى وإن توافر فيها العنصر الأمني الملائم لاستقبال ضيف بحجم الرئيس الروسي، فإنه من الضروري منع وجوده في مكان قد يتلقى به انتقادات بشكل مباشر أثناء حضوره. وهي العوامل التي تنطبق على حضوره قمة طهران مع رئيسي إيران وتركيا في يوليو 2022.

وبالنظر إلى القمة الحالية موضع النقاش، نجد أن الرئيس الروسي ألقى كلمة مطولة خلال اجتماعه مع رؤساء المنظمة، توقف من خلالها عند عدد من المحطات المهمة في علاقاته مع الدول الأعضاء؛ والتي نتوقف عند أبرز معالمها بالنظر والرؤية والتحليل فيما يلي:

● نال الجانب العسكري والتعاون الدفاعي مع دول المنظمة نصيبًا وافرًا من كلمة الرئيس الروسي خلال القمة، حيث قال: “يستمر تحسين نظام الانتشار السريع الجماعي، وقوات الاستجابة السريعة، والطيران الجماعي، وقوات حفظ السلام. ويتم على أساس مستمر اتخاذ تدابير للحفاظ على استعدادهم القتالي، وتحسين نظام القيادة والسيطرة وزيادة تدريب الأفراد العسكريين”. وأوضح الرئيس الروسي أن التعاون العسكري التقني بين الدول الأعضاء في المنظمة آخذ في التوسع. مشيرًا إلى أن “اللجنة العسكرية- الاقتصادية المشتركة التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والتي تم إنشاؤها بمبادرة من روسيا، تشارك بنشاط في الأنشطة ذات الصلة”. وتابع، “يتم اتخاذ تدابير عملياتية مشتركة لمكافحة الإرهاب والتطرف والجريمة والهجرة غير الشرعية والاتجار بالمخدرات”.

● كعادة أغلب الخطابات الرئاسية الموجهة من موسكو إلى دول الجوار، شدد الرئيس الروسي على وحدة التاريخ التي تجمع بين دولته والدول الأعضاء، حيث قال “نحن جميعًا متحدون حقًا من خلال العمل على الحفاظ على ذاكرة التاريخ المشترك لدولنا، وحقيقة أن شعوبنا انتصرت معًا في الحرب الوطنية العظمى”.

● تكثيف التركيز على التعاون العسكري في خطاب “بوتين” يعكس عمق المخاوف الأمنية التي تفاقمت لدى دول الجوار في أعقاب تهديدات ما سيتركه تراخي القبضة الأمنية الروسية على المنطقة. وهو شيء أيضًا لم يخفه الرئيس الروسي، بل صرح به علانية في الخطاب نفسه عندما لفت إلى مشكلات ومخاوف دول الجوار ولكنه أشار إلى ضرورة عدم الحديث عنها أمام الكاميرات.

● بالنظر إلى محتوى خطاب الرئيس الروسي، من الممكن اعتبار الصراع بين أرمينيا وأذربيجان القضية الرئيسة التي استحوذت على اهتمام الدول الأعضاء خلال الاجتماع، وبالتأكيد على اهتمام روسيا على رأسهم. ذلك على الرغم من عدم خلو حديث القادة من تفاصيل دارت عن الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ أنه من الجدير بالذكر أن الرئيس الروسي أشاد بجهود قوات حفظ السلام التابعة للمنظمة في كازخستان خلال يناير من العام الجاري والتي ساعدت على استقرار الأوضاع السياسية الداخلية هناك. وأشاد أيضًا بالدور الروسي في قمة قادة أذربيجان وأرمينيا التي انعقدت في سوتشي خلال أكتوبر الماضي والتي قال “بوتين” عنها إنها انعقدت بـ “حضور خادمكم المطيع، رئيس روسيا”. في دلالة واضحة تعكس مدى حرص روسيا على الانغماس في حل القضايا الأمنية في فضائها رغم انهماكها في حرب كبرى هي طرف مباشر فيها.

● لم يخلُ خطاب بوتين من دلالات خاصة بمكافحة الإرهاب في آسيا الوسطى كذلك، خاصة في الأجزاء المتعلقة بالأوضاع في أفغانستان ومناقشة انعكاساتها على الوضع الأمني لدى الدول الأعضاء. حيث قال “بوتين”: “لا يزال هناك خطر كبير من تغلغل مقاتلين من مختلف المنظمات الإرهابية الدولية في أراضي دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وانتشار الفكر المتطرف بين سكان دول آسيا الوسطى يزيد من خطر تفعيل الحركة السرية الراديكالية في المنطقة”. مُشددًا على أن المخاطر الأمنية الواردة من الوضع المتوتر في أفغانستان تحل أيضًا على قائمة أولويات القيادة الروسية.

● وفي ختام كلمته، أكد “بوتين” أن بلاده ستعمل على تقديم كل المساعدات اللازمة وستواصل الإسهام بكل الطرق الممكنة في توسيع العلاقات بين الدول المتحالفة في منظمة معاهدة الأمن الجماعي.

مُخرجات القمة

نجحت القمة في الخروج بنحو 15 وثيقة تم توقيعها خلال الجلسة، من أبرزها: قرار بشأن الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، وقرار بشأن رئيس اللجنة المشتركة للتعاون العسكري الاقتصادي، وقرار بشأن تزويد قوات حفظ السلام التابعة للمنظمة بأسلحة ومعدات عسكرية حديثة، وقرار بشأن التشكيل المشترك للحماية من الإشعاع والوقاية الكيميائية والبيولوجية والدعم الطبي، وقرار بشأن اللوائح المتعلقة بنظم الاتصالات للمنظمة، وقرار بشأن تحسين نظام الاستجابة للأزمات في المنظمة.

وفيما يتعلق بالوصول إلى تسوية سلمية بين أرمينيا وأذربيجان، وعلى الرغم من أن “بوتين” شدد خلال كلمته على أنه من الضروري للطرفين المتنازعين الاستناد إلى المخرجات الأساسية التي نجمت عن القمة المنعقدة بينهما في سوتشي نهاية أكتوبر المنصرم بشأن الخلافات الجوهرية بينهما، بالإضافة إلى ضرورة الالتزام بتنفيذ الاتفاقيات الثلاث التي تم التوصل إليها بين البلدين في الفترة ما بين عامي 2020- 2021؛ فإن رئيس الوزراء الأرمني، “نيكول باشينيان”، خرج الخميس 24 نوفمبر ليعلن رفض بلاده التوقيع على البيان الختامي لمجلس منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ودعا المنظمة إلى الإسراع بالعمل السياسي والدبلوماسي مع أذربيجان من أجل “الانسحاب الفوري وغير المشروط للقوات الأذربيجانية من أراضي أرمينيا إلى ما قبل الـ 11 من مايو 2021”.

وهاجم باشينيان المنظمة قائلًا: “إن عدم وجود تقييم سياسي واضح للوضع من قبل المنظمة قد يعني تخليها عن التزاماتها أمام الحلفاء، وقد تنظر إليه أذربيجان بمثابة ضوء أخضر للعدوان اللاحق ضد يريفان”. وأضاف أنه “بناء على ذلك يعتبر مشروع إعلان مجلس الأمن الجماعي لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي حول الإجراءات المشتركة لمساعدة جمهورية أرمينيا غير مكتمل، وبصيغته الراهنة وبكل احترامي، لست مستعدًا للتوقيع على هذه الوثيقة”. وأشار إلى أنه لم يتم التوافق على جميع القضايا، وتم إقرار 15 من أصل 17 بندًا.

وفي خطوة لاحقة من الممكن عدّها تحديًا جديدًا للنفوذ الروسي في المنطقة، تقدمت أرمينيا بطلب للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، 25 نوفمبر، لرئاسة محادثات السلام مع أذربيجان. وعلى الرغم من رفض أذربيجان للتدخل الفرنسي على خلفية اتهام باكو لباريس بتحيزها ليريفان، فإن هذه الخطوة بحد ذاتها تعكس دلالات على مدى تأثر النفوذ الروسي في الفضاء ما بعد السوفيتي بالحرب الروسية الأوكرانية.

من اللافت للانتباه كذلك، وبما يتسق مع الطريقة التي تتفاعل بها السياسة الروسية مع السياسية البيلاروسية، باعتبار الأخيرة تلعب دور النسخة الناطقة بما لا ترغب الأولى بقوله؛ تجدر الإشارة إلى أن سببًا مهمًا من أسباب مشاركة الرئيس الروسي في القمة هو رغبته في إنشاء تحالفات سياسية دولية تتشابه في طريقة عملها وتنسيقها مع وحدة وطريقة عمل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؛ رغبة منه في توحيد الموقف الدبلوماسي الدولي وتشكيل جبهات مناوئة للنفوذ الغربي بقيادة أمريكية في أي محفل دولي.

ويتجسد هذا التوجه بشكل دامغ في تصريحات الرئيس البيلاروسي خلال القمة، على وجه الخصوص، عندما ذكّر “لوكاشينكو” زملاءه في المنظمة بضرورة التصويت الجماعي في المنظمات الدولية بشكل موحد. مُلمحًا إلى أن بعض الدول الأعضاء في الدفاع لا تدعم مواقف الحليفين روسيا وبيلاروسيا. مؤكدًا، أن دول الناتو تعمل بشكل أكثر تنسيقًا. حيث قال، “إذا تصرفت دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي كجبهة موحدة، فلا يمكن فرض العقوبات الحالية عليها”. وأكد “لوكاشينكو”، “أن دول الناتو لديها تضامن قوي داخل الكتلة، وعلينا أن نحذو حذوهم”. ففي رأيه، ينبغي من أجل تعزيز دور المنظمة أن يتم تعزيز التنسيق السياسي واتخاذ مواقف موحدة، مثال على ما يتحدث عنه “لوكاشينكو”، حدث أثناء تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة –مارس 2022- على قرار إدانة العملية العسكرية الخاصة والمطالبة بانسحاب روسيا من أوكرانيا، صوتت روسيا وبيلاروسيا ضد القرار بينما امتنعت أرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان عن التصويت.

وختامًا، يعكس المشهد العام الذي خيّم على الاجتماع الأخير لقمة معاهدة الأمن الجماعي حجم التحديات التي تواجه بقاء المنظمة ومستقبلها من جهة، وقبضة روسيا الأمنية وريادتها بين دول المنظمة من جهة أخرى؛  فحتى الآن، لم تتمكن المنظمة من التعامل باحترافية مع الصراعات المسلحة التي اندلعت بين أربع دول أعضاء بها. علاوة على ذلك، انغماس روسيا في حرب طويلة الأمد مع أوكرانيا لا يُبشر بدلالات قوية بشأن إمكانيات موسكو في الحفاظ على نفس سيطرتها على المنظمة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74166/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M