مياه مضطربة.. حدود الاشتباك بين روسيا والغرب في البحر الأسود

محمود قاسم

 

تدخل العلاقات الروسية مع الغرب مرحلة شديدة التعقيد، في ظل تصاعد التوتر فيما بينهما خلال الفترات الماضية، إذ بلغ التصعيد ذروته وصولًا إلى أعلى مستوياته على خلفية الأنشطة العسكرية لحلف الناتو في منطقة البحر الأسود، والتي تنظر إليها موسكو بوصفها بحيرة روسية ونفوذًا طبيعيًا ومجالًا حيويًا لها. وقد أثار هذا التوتر تساؤلات عدة يدور أبرزها حول إمكانية نشوب حرب أو صراع مسلح بين الطرفين في تلك المنطقة، فعلى الرغم من صعوبة الوصول إلى هذا الحد، إلا أن السمة الغالبة على تفاعلات الطرفين في البحر الأسود تتسم بالعسكرة ومحاولة استعراض القوة كجزء من الردع المتبادل.

وفي هذا السياق، يمكننا الوقوف على ملامح التوتر التي ساهمت في تأجيج الموقف خلال الأشهر الماضية؛ بهدف معرفة إلى أي مدى يمكن أن يصل التصعيد الراهن، كمحاولة لاختبار فرص وحدود الاشتباك.

مظاهر التوتر

ثمة ملامح يمكن رصدها في إطار التصعيد والتصعيد المضاد بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلفائها في الناتو من جهة أخرى، الأمر الذي يمكن تحديده فيما يلي:

أولًا) عسكرة المياه البحرية، خلال الآونة الأخيرة برزت ملامح لعسكرة البحر الأسود، سواء من خلال التدريبات والمناورات العسكرية، أو عبر الانتشار العسكري للناتو. إذ تشير التقديرات إلى أن الوقت الراهن يشهد الانتشار الأكبر للبحرية الأمريكية في البحر الأسود منذ 2017، فقد دخلت المدمرة “يورتو” (30 أكتوبر) إلى مياه البحر الأسود، قبل أن تنضم إليها الناقلة الأمريكية “جون لينثال” (3نوفمبر)، وبعدها بيوم وصلت سفينة القيادة والسيطرة الأمريكية “ماونت ويتني” وتشارك السفن الثلاث مع سفن حربية للناتو في تدريبات بحرية.

من ناحية أخرى كانت المناورات العسكرية التي يقوم بها الناتو سببًا لتصاعد التوتر؛ فقد عدّها بوتين تمثل تحديًا خطيرًا لموسكو، مؤكدًا أن تلك المناورات لم تكن مقرره. وتُعد المناورات العسكرية رغم أنها تجري في إطار طبيعي وكجزء من التدريبات المشتركة بين الدول، إلا أن السياق الحالي يضعها ضمن مؤشرات العسكرة ومظاهر التوتر بين روسيا والغرب.

على ذات المنوال، رأت موسكو أن مناورات “نسيم البحر” (يونيو 2021) بمثابة تصعيد غير مقبول، خاصة أن تلك المناورة التي تعد الأكبر على مسرح البحر الأسود خلال العقدين الماضيين، شارك فيها نحو 5 آلاف عسكري، بالإضافة إلى نحو 32 سفينة و40 طائرة بجانب 18 فريق كوماندوز. ويمكن قراءة تلك المناورات في ضوء رغبة الولايات المتحدة في استعادة ثقة أعضاء الناتو بعدما تأثرت بفعل سياسات الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، علاوة على التأكيد على طمأنة حلفاء الولايات المتحدة في البحر الأسود ضد أية تهديدات محتملة من جانب موسكو.

من ناحية أخرى، أجرت روسيا وبيلاروسيا (سبتمبر2021) مناورات –زاباد 2021- عسكرية ضخمة في تسع قواعد عسكرية روسية وخمس قواعد بيلاروسية، وقد شهدت المناورات مشاركة كثيفة من القوات المسلحة الروسية؛ إذ أشارت وزارة الدفاع الروسية إلى مشاركة نحو 200 ألف عسكري و80 طائرة ومروحية وما يقرب من 15 سفينة، يضاف إلى ذلك نحو 760 آلية حربية بينها أكثر من 290 دبابة.

ويثير أي تقارب بين روسيا وبيلاروسيا مخاوف دول الناتو، خاصة في ظل محادثات الاندماج التي تجريها البلدان؛ إذ إن نجاح مثل تلك المحاولات يؤدي إلى مزيد من النفوذ الروسي على حدود دول الناتو، الأمر الذي ينظر إليه الحلف بأنها تهديد يجب التصدي له.

ثانيًا) التحرش بسفن الناتو، اتخذت ساحة المواجهة بين روسيا والغرب نمطًا آخر ساهم في زيادة حدة التوتر، فخلال عبور السفينة الحربية ” إتش إم إس ديفندر” التابعة لبريطانيا (يونيو2021) بالقرب من شبة جزيرة القرم، قامت السفن الحربية الروسية بإطلاق طلقات تحذيرية، علاوة على إلقاء الطائرات الحربية الروسية قنابل بالقرب من السفينة لإبعادها عن تلك المنطقة التي ترى موسكو أنها جزء من مياهها الإقليمية، إلا أن بريطانيا ترى عكس ذلك، حيث تراها جزءًا من الأراضي والمياه الأوكرانية. وعلى الرغم من أن بريطانيا قد نفت الرواية الروسية بشأن اعتراض السفينة ومحاولة إجبارها على الخروج عن هذا المسار، إلا أن الحادث في مجمله قد ساهم في تأجيج الموقف، وإضفاء مزيد من التوتر على العلاقة بين موسكو والغرب.

وفي تعليقه على الحادث قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “إن حادثة المدافع لم تكن لتثير صراعًا عالميًا حتى لو أغرقت روسيا السفينة البريطانية لأن الغرب يعلم أنه لا يمكنه الفوز في مثل هذه الحرب”. ويشير هذا التصريح ضمنيًا إلى أنه في حال تكرار مثل هذه المحاولات قد يكون الرد صداميًا، خاصة أن موسكو نظرت إليه بوصفه اختبارًا للقدرات الروسية. وقد ينتهي الأمر حال تكراره مرة أخرى بالتدخل الخشن أو الاحتكاك العسكري.

ثالثًا) التخوف من الحشد العسكري، تدخل التحركات العسكرية وعمليات الحشد وإعادة الانتشار العسكري الروسي ضمن مظاهر التوتر، في ظل مخاوف وقلق الولايات المتحدة الأمريكية وأعضاء الناتو من أي توغل عسكري يمكن أن تقوم به موسكو في ظل النشاط العسكري المتصاعد، على غرار ما حدث في ضم شبه جزيرة القرم 2014، أو من خلال دعم موسكو لانفصاليين في إقليم “دونباس”. إذ تشير تقديرات إلى تعزيز النفوذ العسكري الروسي في المنطقة، وذلك من خلال نشر نحو 100 ألف جندي روسي بالقرب من الحدود الأوكرانية.

وقد حذر عدد من الدول الأوروبية موسكو من أي محاولات للتصعيد على خلفية هذا الحشد، إلا أن روسيا رأت أن لها مطلق الحرية والحق الكامل في حشد أي قوات داخل أراضيها. وتشير التقديرات إلى أن الأنشطة الروسية تأتي كرد فعل ومحاولة إظهار أدوات لردع الناتو في ظل أنشطته المتصاعدة في البحر الأسود في الآونة الأخيرة.

وعليه، تحفز عمليات الحشد والأنشطة العسكرية سواء الروسية أو التي يقوم بها الناتو من التصعيد والتوتر بين الطرفين، في منطقة كانت ولا تزال مركزًا للتنافس وساحة للاشتباك بين روسيا والغرب، خاصة بعد موجات التوظيف الروسي للأداة العسكرية في تلك المنطقة والتي تكررت أكثر من مرة منذ 2008.

رابعًا) ابتعاد موسكو عن الناتو، ساهم قرار انفصال روسيا عن الناتو وقطع العلاقات مع الحلف على خلفية سحب اعتماد 8 موظفين روس من البعثة الدائمة لدى الناتو بتهمة أنشطتهم الاستخباراتية، في فرض مزيد من التعقيد على تلك العلاقة. فقد أعلنت موسكو أنها ستغلق مهمتها في مقر الناتو، وأمرت موظفي الناتو بمغادرة موسكو.

وقد تباينت التقديرات بشأن تلك الخطوة، إذ ذهبت بعض الاتجاهات لاعتبار أن مثل هذا الإجراء قد يفاقم من الأوضاع ويحد من التفاهمات بين الجانبين إذ ما تم الوصول إلى مرحلة المواجهة، خاصة أن تلك الآلية كانت تستهدف وضع حد بين التصعيد والصراع المفتوح. من ناحية أخرى ترى تقديرات أن ما حدث يعد خطوة غير مفاجئة؛ نظرًا إلى اتساع الفجوة بين الجانبين، وأن محاولة بناء نموذج تعاوني لم تكن واقعية في ظل الاختلافات والتباينات الكبيرة بين الطرفين، وعليه يأتي الانفصال كترجمة للتفاعلات على أرض الواقع.

وقد فسره البعض كنتيجة لتحركات الناتو تجاه دول البحر الأسود، خاصة بعدما قامت إدارة “بايدن” بتعزيز المساعدات الأمنية والعسكرية لكل من جورجيا وأوكرانيا. يضاف إلى ذلك زيارة وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” (أكتوبر2021) لدول البحر الأسود، إذ تشير التحليلات إلى أن تلك زيارة “أوستن” إلى رومانيا وجورجيا هي الأولى لوزير دفاع أمريكي منذ عام 2014، وأول زيارة إلى أوكرانيا منذ آخر زيارة قام بها وزير الدفاع الأمريكي -آنذاك- “جيمس ماتيس” عام 2017. ومثل هذا التقارب يقلق روسيا نظرًا لأنه قد يعزز نفوذ الناتو في الجوار الحيوي لموسكو، وقد يمهد لانضمام أوكرانيا لحلف الناتو وهو ما تعده موسكو خطًا أحمر لا يمكن التهاون فيه.

خامسًا) اتهام موسكو بشن صراع هجين، تتهم الدول الأوروبية روسيا بتوظيف عدد من الأدوات للضغط عليها وممارسة ما يمكن وصفه بالصراع الهجين، سواء عبر الأدوات العسكرية، في ظل تطوير وتحديث موسكو المستمر لأسلحة الأجيال القادمة كنجاح الاختبارات الأولى لصاروخ “تسيركون” فرط الصوتي (أكتوبر2021)، والغواصات الكهرومغناطيسية، علاوة على التجارب الفضائية لموسكو. من ناحية أخرى، ترى دول أوروبا أن روسيا توظف الطاقة كسلاح سياسي للضغط وممارسة الابتزاز للدول الأوروبية، خاصة في ظل الاحتياج الدائم للغاز الروسي والذي يمثل نحو 40% من احتياجات الدول الأوروبية.

وقد جاءت اتهامات بعض العواصم الغربية لموسكو بوقوفها وراء أزمة المهاجرين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا لتزيد من القضايا الخلافية بين الجانبين؛ إذ ترى الأطراف الغربية أن محاولات بيلاروسيا لتوظيف تلك الورقة ضد الدول الأوروبية والسماح لآلاف اللاجئين من أفغانستان والعراق بالمرور عبر بلادهم وصولًا إلى أوروبا جاءت بضوء أخضر من موسكو.

وتفاديًا لأية اختراقات محتملة، قامت بولندا ودول البلطيق بوضع أسلاك شائكة، وتخطط لبناء جدار عازل لصد الموجات المحتملة من الهجرة إلى بلاده. من ناحية أخرى فرضت بولندا حالة الطوارئ ونشرت نحو 15 ألف جندي على حدودها. وعليه يُنظر للسياق المصاحب لتلك الأزمة ضمن ملامح التوتر والعسكرة، خاصة بعد قيام موسكو برفض العقوبات المفروضة على بيلاروسيا، علاوة على قيام قاذفتين من طراز “Tu-160″ بدوريات وطلعات في المجال الجوي لبيلاروسيا. وقد جاءت تلك التحركات وفقًا لوزارة الدفاع الروسية من أجل ضمان الأمن العسكري لدولة الاتحاد الروسي حسبما جاء في بيان (10 نوفمبر).

حدود الاشتباك والتصعيد

من غير المرجح أن يصل التصعيد الحالي بين الطرفين إلى مرحلة المواجهة العسكرية المفتوحة أو المباشرة، والتفاعلات القائمة بين الطرفين على الأقل في المدى القصير والمتوسط قد لا تتجاوز مرحلة الحشد والحشد المضاد، ومحاولة استعراض القوة بين الطرفين، وستظل معادلة الاشتباك وفرص التصعيد محكومة بعدد من الاعتبارات، من بينها: نية موسكو شن هجومًا أو تحركًا عسكريًا تجاه أوكرانيا، وعلى الرغم من صعوبة ذلك حاليًا، إلا أنه يظل احتمالًا قائمًا، خاصة أن الرئيس الروسي “بوتين” يرى أن أوكرانيا لا تنفصل عن روسيا، وقد عبر عن هذه النظر خلال مقاله المنشور على موقع الكرملين (يونيو2021) عبر وصفه روسيا وأوكرانيا بالدولة الوحدة، الأمر الذي ينظر إليه البعض على وجود نية لدى الرئيس الروسي في ضم أوكرانيا إليه. من ناحية أخرى لا تستبعد التجربة التاريخية قيام موسكو بمثل هذا التحرك، كما حدث في ضم القرم 2014 أو عبر التدخل العسكري في جورجيا 2008.

وفي كل الأحوال، يصب ميزان القوى العسكري في صالح روسيا على حساب القوى الغربية وحلف الناتو، ما يجعل أي تصعيد مباشر للناتو محفوفًا بالمخاطر وغير محسوب، ويمكن أن تُوضع تحركات الناتو في البحر الأسود في إطار جس النبض ومحاولة طمأنة الحلفاء، خاصة في ظل عدد من التحديات والمعوقات التي قد تحول دون امتلاك الناتو لزمام الأمور، ومن بينها: أولًا) صعوبة الاحتفاظ بوجود دائم أو طويل الأجل في البحر الأسود بسبب القيود التي تفرضها اتفاقية “مونترو” 1936 على الدول التي لا تنتمي للبحر الأسود، إذ لا يسمح بعبور أكثر من 9 سفن حربية لدول لا تنتمي للبحر الأسود يبلغ إجمالي حمولاتها 30 ألف طن، ولا تسمح الاتفاقية أيضًا بوجود سفن حربية لمدة لا تزيد عن 21 يومًا.

من ناحية أخرى، تبقى للخلافات بين أعضاء الناتو وحسابات المصالح المتباينة عائقًا أمام تعزيز الحضور في البحر الأسود، خاصة في ظل العلاقات بين تركيا وموسكو من ناحية والتفاهمات المشتركة بينهما في عدد من الملفات من ناحية أخرى. فضلا عن الخلافات بين واشنطن وأنقرة، واتهام دول الناتو للأخيرة بالخروج عن المظلة الجماعية للناتو على خلفية شرائها منظومة “إس400”.

يضاف إلى ذلك رغبة واشنطن في تكثيف جهودها تجاه منطقة الإندو-باسيفيك، ما برز من خلال تشكيل تحالف الأوكوس والذي تسبب في غضب واستياء عدد من الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا، إذ رأت بعض التحليلات أن هذا التحالف قد يكون بديلًا للناتو، أو على أقل تقدير قد يؤدي إلى تراجع فاعلية الحلف.

يضاف إلى ذلك التفوق الكبير والانتشار العسكري المحكم لموسكو في البحر الأسود، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام؛ فبحلول عام 2018 كان الأسطول الروسي في البحر الأسود يتكون من نحو 21 سفينة قتالية و7 غواصات، علاوة على ما يقرب من 200 سفينة دعم. وتتوزع هذه القوات في ثلاث قواعد وهي قاعدة “سيفاستوبول” وقاعدة “فيودوسيا” بالإضافة إلى قاعدة “نوفوروسيسك”. ونشرت روسيا بحلول عام 2017 نحو 28 ألف جندي في شبة جزيرة القرم، علاوة على مساعيها الدائمة لتحديث وتطوير أسطولها البحري. وكل هذه الأسباب تقف عائقًا أمام دخول الناتو في مواجهة مفتوحة أو حرب عسكرية بمفومها التقليدي مع روسيا في البحر الأسود، نظرًا إلى أن الغلبة في هذه الحالة ستكون لموسكو.

في الأخير، وصلت العلاقة بين موسكو والناتو إلى أدنى مستوياتها؛ إذ زادت مساحات التباين وبرزت مؤشرات عدة لتوتر، ومع ذلك تظل فرص الاشتباك محدودة على الأقل في الوقت الراهن. وسينظر كل طرف لتحركات الآخر بنوع من الحذر والترقب، خاصة بعدما وافق وزراء دفاع الناتو (أكتوبر2021) على خطة دفاع جديدة تستهدف مواجهة أي هجوم روسي محتمل في عدد من الجبهات. وعلى أية حال يدرك الطرفان كلفة المواجهة المفتوحة، لذا سيبتعد كل منهما عن الانتقال من مرحلة التصعيد للاشتباك، كما سيعمل كل طرف على استعراض قوته ومحاولة إظهار القدرة على ردع الآخر وقلب موازين القوى حال الوصول إلى نقطة الاحتكاك المباشر.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/64944/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M