نقطة تحول: قمة «بريكس» ومستقبل الشراكة مع أفريقيا

مثَّلت قمة تجمع «بريكس» الخامسة عشرة، نقطة تحول مهمة في مسار التجمع، ليس فقط بسبب ما فرضه السياق الدولي من أهمية، ولكن كذلك بسبب التحركات الجادة للتجمع لتوسيع مساحة الحضور في القارة الأفريقية، باعتبار ذلك خطوة استراتيجية قد تسهم على المدى البعيد في صياغة نظام دولي أكثر توازناً وأقل استقطاباً.

 

واكتسبت قمة بريكس التي انعقدت في 22 أغسطس في جوهانسبرغ الجنوب أفريقية هذا الزخم، مع ارتفاع التطلعات بمساهمة التجمع في إعادة صياغة نظام عالمي أكثر تعددية، ما اجتذب اهتمام العديد من المتحمسين لدور التجمع والمتحفظين بشأنه على السواء. وأدى هذا الربط بين قمة تجمع بريكس وبين تحولات النظام الدولي إلى إغفال الطبيعة الخاصة لهذه القمة على وجه الخصوص، والتي حملت اسماً رسمياً هو “بريكس وأفريقيا”، وشهدت مشاركة عشرات القادة والرؤساء الأفارقة، فضلاً عما شهدته من مكانة مركزية للموضوعات المتصلة بأولويات الدول الأفريقية.

 

تسعى هذه الورقة لاستكشاف ملامح الشراكة الجديدة بين مجموعة البريكس ودول القارة الأفريقية في ضوء القمة، مع رصد الفرص والمخاطر الكامنة في هذه الشراكة، وطرح السيناريوهات المحتملة لمستقبلها.

 

قمة جوهانسبرغ لدول بريكس: السياق واتجاهات التفاعل

1. السياق الإقليمي والدولي

عقدت قمة تجمع بريكس في جوهانسبرغ، في سياقٍ تأثَّر بعدد من العوامل، تمثل أهمها في الآتي:

 

  • استمرار حالة التوتر والاستقطاب على الساحة الدولية الناجمة عن مواصلة الأعمال العسكرية بين روسيا وأوكرانيا.
  • تصاعد حدة التوترات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتمدد نطاقها لتشمل كامل الساحل الشرقي لأفريقيا.
  • التحول التدريجي لتجمع بريكس إلى منظمة نشطة للتعاون الدولي تركز على الجانب الاقتصادي والتنموي.
  • تفاقم الأزمة الاقتصادية لدى العديد من الدول الأفريقية مع التعافي البطيء من تداعيات جائحة كورونا وتضرر سلاسل الإمداد العالمية من استمرار الحرب الروسية الأوكرانية.
  • تجدد نشاط السياسة الخارجية الجنوب أفريقية بعد سلسلة من مظاهر التراجع بفعل الأزمة الداخلية والتي أدت لتقلص دورها في محيطها الإقليمي.

 

2. اتجاهات التفاعل مع القضايا الأفريقية

يمكن رصد عدد من الاتجاهات الرئيسة لتفاعل قمة “بريكس وأفريقيا” مع قضايا القارة على النحو الآتي:

 

  • الحضور الأفريقي البارز على مستوى المشاركين والقضايا: تجاوزت قمة بريكس الخامسة عشرة وضعها التقليدي بوصفها اجتماعاً دورياً لقادة الدول الخمس الأعضاء، إلى التحول لمؤتمر موسع يجمع قادة الدول الخمس بعدد كبير من القادة الأفارقة، وذلك من خلال سابقة الحضور الأفريقي الكبير رفيع المستوى، حيث حضر القمة وشارك في أعمالها رؤساء 12 دولة أفريقية. واحتلت القضايا الأفريقية مكانة بارزة في جدول أعمال التجمع. كما ركز “إعلان جوهانسبرغ الثاني لتجمع بريكس” على عدد من القضايا وثيقة الصلة بتعزيز التعاون بين المنظمة والدول الأفريقية، بإعلان التأييد الكامل لأجندة الاتحاد الأفريقي 2063، ولمنطقة التجارة الأفريقية الحرة. وإجماع دول بريكس على أهمية تحقيق التكامل بين جهود التجمع والجهود الأفريقية في مجالات التصنيع والبينة التحتية والأمن الغذائي والتنمية المستدامة.

 

  • توسيع عضوية المنظمة بمراعاة التوازنات البينية الأفريقية: شكلت قمة جوهانسبرغ لتجمع بريكس نقطة تحول رئيسة في تطور التجمع منذ انعقاد قمته الأولى عام 2009، حيث أُعلِن رسمياً عن توسيع عضوية التجمع بضم ستة أعضاء جدد هم مصر وإثيوبيا والإمارات والسعودية وإيران والأرجنتين، بحيث تبدأ مشاركتهم الفعلية في يناير 2024.

 

  • التمهيد لظهور نظام مالي عالمي بديل أكثر استجابة للمشكلات الأفريقية: عقدت قمة بريكس وأفريقيا في وقت تعاني فيه العديد من الدول الأفريقية من مشكلات تتعلق بوقعها الهامشي غير المؤثر من النظام المالي العالمي. وقد تبني بيان جوهانسبرغ الثاني مقاربة واقعية بشأن السيادة المالية من خلال التأكيد على تشجيع المنظمة الدول الأعضاء لاستخدام عملاتها المحلية في التبادل التجاري البيني، فضلاً عن تعزيز قدرة الشبكات البنكية التي يمكن استخدامها في التحويلات المالية الآنية استناداً للعملات المحلية. كما كلفت قمة جوهانسبرغ وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية للدول الأعضاء بالشروع في دراسة آليات تعزيز التبادل التجاري بالعملات المحلية وتطوير آليات ومنصات جديدة للتسويات المالية، وذلك تمهيداً لعرضها على القمة السادسة عشرة التي ستعقد في روسيا العام المقبل.

 

  • تلبية الحاجة لمنصة بديلة للإدارة الرشيدة للتنافس الدولي في أفريقيا: حيث قدمت قمة جوهانسبرغ لتجمع بريكس آليتين مفيدتين لترشيد التنافس الدولي في أفريقيا، بدعم مقاربة تعدد الأقطاب العالمية Global Multilateralism، والمساهمة في ضبط التنافس الدولي في القارة الأفريقية، باعتبار أن التجمع يضم ثلاثة من أهم المتنافسين الدوليين في أفريقيا وهم الصين وروسيا والهند، ليقدم ذلك منصة متاحة لبناء التوافق بين الدول الثلاث بما يتوافق مع سعي كل دولة لتعظيم عوائدها، لكن بمنطق يغلب عليه التضامن بين القوى الدولية الصاعدة وبعضها البعض.

 

تجمع البريكس والشراكة مع أفريقيا: الفرص والتحديات

1. الفرص المتوقعة

حملت القمة الأخيرة لتجمع البريكس والتوجه نحو تطوير الشراكة مع القارة الأفريقية العديد من الفرص المهمة التي يمكن البناء عليها مستقبلاً على المستويين السياسي والاقتصادي، وهي:

 

  • التحول التدريجي لتجمع بريكس من مجرد منتدى لتبادل الأفكار على نطاق واسع بين عدد من القوى الدولية الصاعدة، إلى منظمة نشطة للتعاون الدولي تركز على الجانب الاقتصادي والتنموي وتتمتع بالأذرع التنظيمية المساعدة مثل بنك التنمية الجديد.
  • الاستفادة من استخدام العملات المحلية في التسويات التجارية، وهو ما يعني تخفيف الطلب على الدولار بالنسبة لبعض الدول التي تعاني أزمات مالية، مثل الأرجنتين، ومصر، وإيران وإثيوبيا.
  • استخدام العملات الرقمية في تسوية التجارة المستقبلية بين دول البريكس، حيث تستعد روسيا والصين والهند لإطلاق عملاتها الرقمية للاستخدام المشترك بحلول أوائل عام 2025.
  • توجيه القضايا الاقتصادية العالمية في تجمعات اقتصادية أخرى أكبر وأكثر تأثيراً من خلال الاستفادة من رئاسة الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا لمجموعة العشرين في الفترة من 2023 إلى 2025.

 

2. التحديات والمخاطر

يتوافر عدد من التحديات التي يمكن أن تعطل تعزيز الشراكة الأفريقية مع التجمع، بالإضافة إلى المخاطر الناتجة عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية العالمية، وكذا المخاطر المتعلقة ببنية التجمع نفسه وطريقة إدارة العلاقات السياسية والاقتصادية داخله، وتتمثل هذه التحديات والمخاطر في الآتي:

 

  • تزايد الاستقطاب داخل القارة الأفريقية بما يعطل آليات التعاون الاقتصادي، حيث ارتفعت حدة التنافس والاستقطاب بين دول القارة نتيجة للتنافس الدولي على الموارد والمصالح المتوفرة في القارة الأفريقية، ما قد يؤدي إلى خلق حواجز تعطل آليات التعاون الاقتصادي بين دول القارة بعضها البعض وبينها وبين التجمعات الاقتصادية الكبرى.

 

  • غياب آليات للتكامل الاقتصادي داخل تكتل البريكس، حيث لا يملك تكتل البريكس حتى الآن صورة واضحة لآليات للتكامل الاقتصادي يمكن البناء عليها في شراكته مع القارة الأفريقية، ويعتمد التكتل في الأساس على قواعد منظمة التجارة العالمية، لذا فإن التكتل بحاجة لتطوير هذه الآليات للدخول في أشكال متقدمة من الشراكة مع دول القارة الأفريقية، خاصة منطقة أفريقيا جنوب الصحراء بحكم رغبة جنوب أفريقيا في تسريع التكامل الاقتصادي والتعاون مع البريكس، لأنها عضو مؤسس به.

 

  • عدم وضوح معايير ضم الأعضاء الجدد، حيث ظهر في عملية التوسع الأخيرة غياب المعايير التي بُنيَ عليها ضم الأعضاء الجدد، وخاصةً على مستوى القارة الأفريقية، فلم تُضَمّ اقتصادات مهمة كانت طالبة للعضوية مثل نيجيريا والجزائر، في الوقت الذي ضُمَّت اقتصاديات تعاني من أزمات اقتصادية حادة مثل مصر والأرجنتين أو حروباً أهلية مثل إثيوبيا؛ فتجربة الاتحاد الأوروبي بوصفه نموذجاً للتكتلات الاقتصادية الناجحة تمنح لأعضائها فترة تأهيل للعضوية من خلال تحسين بيئة ومناخ الاستثمار، أو تطوير البنى التشريعية، أو الأوضاع المالية والنقدية، لكن لم يحدث ذلك على مستوى البريكس، ما يجعل تقييم مدى الاستفادة التنموية والاقتصادية التي ستجنيها الدول بانضمامها لعضوية التكتل غير واضحة.

 

  • هيمنة الصين على العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين دول التجمع والدول الأفريقية، وهو ما يعني توجيه سياسات التجمع تجاه أفريقيا وفقاً للسياسات الصينية بشكل كبير، ومركزية الصين في رسم التوجهات الخاصة بالتجمع تجاه القارة الأفريقية.

 

  • تفاوت الإمكانات والقدرات الاقتصادية داخل المجموعة وعدم وجود توازن اقتصادي بين أداء الأعضاء؛ ففي الدول الخمس المؤسسة تتمتع الصين بناتج محلي يصل إلى 18 تريليون دولار، مقابل 480 مليار دولار لجنوب أفريقيا، وعلى المنوال نفسه هناك تفاوت بين الأعضاء الجدد، إذ يصل الناتج المحلي في السعودية إلى 1.18 تريليون دولار، بينما لا يتجاوز 126 مليار دولار في إثيوبيا، وهو ما يفرض تحدي الأخذ بيد الاقتصادات الضعيفة لتحسين أدائها الاقتصادي بشكل عام، حتى تصبح عضواً فاعلاً في التكتل.

 

السيناريوهات المستقبلية

بناءً على تحليل الفرص والتحديات المتوقعة؛ يعتمد تحقق السيناريوهات المستقبلية للشراكة بين تجمع بريكس والدول الأفريقية على عدداً من المحددات، وهي:

 

  • التوترات الجيوسياسية والاستقطاب العالمي.
  • مدى جاذبية الحلول الاقتصادية والفرص المقدمة من جانب المجموعة للدول الأفريقية.
  • القدرة على خلق آليات للتكامل الاقتصادي والنقدي عبر خلق روابط تجارية أو عملات مشتركة.

 

وفي ضوء الفرص والتحديات المتوقعة، وفي ضوء المحددات سالفة الذكر، فإن مستقبل الشراكة بين بريكس وأفريقيا يمكن أن يسير باتجاه أحد السيناريوهات الآتية:

 

السيناريو الأول: شراكة شاملة بين دول التجمع ومعظم دول القارة الأفريقية، ويمكن أن يتحقق هذا السيناريو في حال قدمت دول تجمع البريكس حلولاً للدول الأفريقية للحصول على التمويل الميسر وزيادة الاستثمارات الخارجية. يواجه هذا السيناريو تحديات عدة أبرزها المنافسة القوية من جانب العديد من الأطراف الدولية على الشراكة مع القارة الأفريقية، ما قد يُقيِّد أو يُبطئ حدوث هذه الشراكة الشاملة.

 

السيناريو الثاني: تعثُّر الشراكة بين دول التجمع والقارة الأفريقية، تتزايد احتمالية تحقق هذا السيناريو في حال تبنَّت دول التجمع النظرية الضيقة القائمة على توجيه الشراكة مع دول القارة الأفريقية بناء على المصالح الوطنية والأهداف الخاصة ببعض أعضاء البريكس داخل القارة (مثل جنوب أفريقيا أو الصين). وعليه فإن التجمع سيخسر فرصة للتوسع، لكن الإصرار الصيني والهندي قد يدعم تسريع الشراكة مع دول القارة الأفريقية.

 

السيناريو الثالث: تباطؤ الشراكة بين دول التجمع والقارة الأفريقية، وذلك بالنظر إلى استمرار تجمع بريكس دون آليات واضحة للتكامل الاقتصادي والنقدي، من ناحية أخرى قد يزيد الاستقطاب الدولي حول أفريقيا والتحديات التي تواجه النظام العالمي الاقتصادي والسياسي والمشكلات التي تعاني منها القارة من احتمالية تحقق هذا السيناريو.

 

وفي ظل حالة الاستقطاب التي يمر بها النظام العالمي، ومع استمرار حالة عدم الاستقرار في العديد من دول القارة الأفريقية التي تأتي أيضاً في سياق صراع دولي على المصالح في هذه الدول. يشير هذا السياق إلى ترجيح السيناريو الثالث، ما قد يؤكده دخول الأعضاء الجدد للتجمع بداية عام 2024، وما سوف ينتج عن القمة المقبلة للتجمع في روسيا، ما يعني احتمالات تبلور هيكل مؤسسي واضح للتجمع وآليات للتكامل الاقتصادي يمكن البناء عليها وليس فقط مبادرات اقتصادية وسياسية ومجموعة من التوجهات المشتركة.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/scenario/nuqtat-tahawl-qimati-brics-wamustaqbal-alsharaka-mae-afriqia

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M