الهجمات الإسرائيلية في المنطقة: الضرب بالنيابة

حاتم الفلاحي

خلال نحو خمسة أسابيع، تعرضت مواقع ومستودعات أسلحة وأعتدة خاصة بالحشد الشعبي العراقي إلى سلسلة من التفجيرات اتُّهمت إسرائيل بالوقوف وراءها، كان أولها في 19 يوليو/تموز الماضي (2019) وقد استهدف تفجير كُدس عتاد كبير في (معسكر الشهداء)، في منطقة آمرلي بمحافظة صلاح الدين شمال بغداد، الذي تتواجد فيه قوات اللواء [16] من الحشد الشعبي التركماني. وفي حينه، صرح المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة، العميد يحيى رسول، بأنه تم استهداف مواقع تابعة لكتائب حزب الله العراق، وتحديدًا معسكر الشهداء، وأن القصف تم على مرحلتين عبر طائرة مجهولة(1)، لكن تصريحًا لاحقًا تحدث عن أن لجنة تحقيقية خلصت إلى إن الانفجار كان مجرد حريق لوقود صلب نتيجة خلل داخلي(2) .

وقبل نهاية يوليو/تموز تعرض معسكر (أبو منتظر المحمداوي)، في محافظة ديالى شمال شرق بغداد، لضربة جوية من طائرة مجهولة الهوية استهدفت موقعين داخل المعسكر، أحدهما مخزن للصواريخ ومنصات لإطلاقها، والآخر تجمع كبير لميليشيات الحشد الشعبي، ويعتبر المعسكر من أهم مراكز التدريب التي يشرف عليها ضباط من فيلق القدس الإيراني وميليشيا حزب الله اللبناني لتدريب الميليشيات العراقية والميليشيات الأخرى التي ينقلها الحرس الثوري عبر العراق لسوريا واليمن والبحرين(3)، وقد نقلت وسائل أعلام إسرائيلية من بينها موقع “ناستيف نت” المتخصص بالمعلومات الاستخبارية المفتوحة “أوسينت” أن إسرائيل نفذت قصفًا على المعسكر الذي توجد فيه قوات الحشد الشعبي(4)، بينما نفى مصدر عراقي وجود أي قصف على معسكر أشرف وأن الانفجار كان ناجمًا عن سوء التخزين وارتفاع درجات الحرارة.

بعد ذلك بنحو أسبوعين، تعرض معسكر مشترك تديره الشرطة الاتحادية والحشد الشعبي، جنوبي بغداد، إلى هجوم يوم 12 أغسطس/آب الماضي، وقد ذكرت خلية الخبراء التكتيكية التابعة لوزارة الدفاع العراقية في تصريح صحفي أن طبيعة الانفجار ألحقت دمارًا هائلًا بالمعسكر بعد أن وصلت النيران لعتاد اللواء [14] من الحشد الشعبي حيث أتى الانفجار على مرآب للآليات الثقيلة ومسقفين كبيرين(5)، مما أدى إلى انفجار عدد من الصواريخ أعقبتها انفجارات أخرى شملت أكداس عتاد وذخيرة وصواريخ متوسطة وبعيدة المدى(6)، وقد خلصت لجنة حكومية شُكِّلت لتقصي الحقائق حول أسباب الانفجار إلى أن هناك طائرة مسيَّرة تسببت بهذا الانفجار.

ثم جاء تفجير معسكر للحشد الشعبي في جنوب محافظة صلاح الدين تتشارك فيه (كتائب حزب الله) وميليشيا (جند الإمام) بعد ذلك بنحو أسبوع ليؤدي إلى تدمير واسع في المعسكر شمل مخازن السلاح، وذكر شهود عيان أن ستة انفجارات بينها فواصل زمنية قليلة كانت الشرارة الأولى لموجة الانفجارات المتلاحقة التي شهدها المعسكر(7). ويقع هذا المعسكر بجوار قاعدة بلد الجوية التي تؤوي طائرات إف 16 مع الخبراء والمستشارين الأميركيين الذين يشرفون على تشغيلها وصيانتها، وقد تم إجلاء هؤلاء بصورة مؤقتة بعد الانفجارات.

ولم يمض على هجوم بلد غير أسبوع آخر قبل أن يتعرض موقع للحشد في مدينة القائم، أقصى غرب العراق على الحدود مع سوريا، إلى هجوم هو الخامس من نوعه، وأعلن العراق مقتل أربعة مقاتلين من صفوف (كتائب حزب الله) من بينهم القيادي أبو علي الدبي، إثر استهداف طائرة مسيَّرة مجهولة المصدر لمركبتين عسكريتين.

في هجوم القائم تخلى المسؤولون العسكريون أخيرًا عن ادعاءات الحوادث العَرَضية وراء انفجارات مواقع الحشد، وأكدوا هذه المرة مسؤولية إسرائيل عن الهجمات من خلال طائرات مسيرة، بل إن أحد قادة الحشد أكد “أن القصف الجوي طال ما يقارب 13 معسكرًا للحشد الشعبي خلال عام”(8)، وهي معلومة لم تتأكد من مصدر آخر.

القصف في خضم التوتر الأميركي-الإيراني

لم تؤكد إسرائيل رسميًّا قيامها بكل هذه الهجمات ضد الحشد العراقي، لكنها لم تنف أيضًا، وألمح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حينما سُئل عن مسؤولية تل أبيب بقوله: إن “إسرائيل تعمل في الكثير من المناطق ضد إيران بالطبع”، وقال أيضًا: “إننا نتصرف في العديد من الساحات ضد بلد يسعى إلى تدميرنا. بالطبع، لقد منحت قوات الأمن حرية التصريح والتعليمات للقيام بما هو ضروري لإحباط هذه الخطط الإيرانية”. واتهم نتنياهو إيران بـ”محاولة إنشاء قواعد ضدنا في كل مكان، في إيران نفسها، في لبنان، في سوريا، في العراق، في اليمن”، وأضاف نتنياهو: “أنا لا أمنح إيران الحصانة في أي مكان”(9).

ويكرر نتنياهو بتصريحه معلومات حول قيام إيران بنقل صواريخ بالستية إلى داخل العراق، وذكر تقرير لوكالة رويتر أن إيران، منذ عام 2014، قامت بإرسال صواريخ باليستية قصيرة المدى إلى عدد من الفصائل الشيعية العراقية الأكثر ولاءً لها كما قامت بتخزين عدد من الصواريخ الباليستية في مناطق تخضع لسيطرة شيعية فعالة. وحسب تقرير “رويترز”، فإن إيران اتخذت قرارًا قبل [18] شهرًا باستخدام الميليشيات لإنتاج الصواريخ بالعراق والتي يتراوح مداها من (200 إلى 700 كيلومتر)، مثل صواريخ “زلزال” و”ذو الفقار” مما يضع تل أبيب والرياض تحت مرمى هذه الصواريخ خصوصًا إذا تم نشرها بمناطق جنوب العراق وغربه، كما أن إيران قامت، في عام 2017، بإدخال مصانع أخرى لغرض إنتاج صواريخ بعيدة المدى(10). ويقع قسم من هذه المصانع في كل من الزعفرانية وجرف الصخر بجنوب بغداد، ونقلت “رويترز” عن مصدر في المخابرات العراقية، قوله: إن مصنع الزعفرانية أنتج رؤوسًا حربية وإن جماعات شيعية محلية جدَّدت نشاط المصنع عام 2016 بمساعدة إيرانية(11).

وتمتلك فصائل معينة في الحشد الشعبي، هي عادة القريبة من إيران، أسلحة لا يمتلكها الجيش العراقي مثل الصواريخ الباليستية التي استعرضت بها هذه الفصائل في مدينة النخيب بجنوب العراق قرب الحدود مع السعودية. ويبدو أن الضربات الإسرائيلية استهدفت بشكل خاص مواقع تخزين هذه الصواريخ، وقد يفسر هذا الأمر تطاير الصواريخ خلال الانفجارات وسقوطها في المناطق المحيطة بالمعسكرات المستهدفة، وسقوط عدد كبير من المدنيين لاسيما عند قصف معسكر (الصقور) جنوب بغداد، وكذلك معسكر بلد.

أثارت الهجمات الإسرائيلية تكهنات كثيرة بشأن طبيعة التطور اللاحق في التوتر القائم فعليًّا بين الولايات المتحدة وإيران، وكانت أولى النتائج الواضحة للهجمات أنها سحبت مركز الاهتمام من منطقة الخليج العربي ومضيق هرمز إلى العراق وسوريا ولبنان حيث تمركزت الضربات الإسرائيلية، وبدا أن التصعيد العسكري -إن حدث- فسيجري في هذه المناطق. كما أثيرت تساؤلات عن الدور المحتمل للولايات المتحدة في التصعيد الإسرائيلي، فالطيران الأميركي يسيطر فعليًّا على الأجواء العراقية منذ الغزو عام 2003، ولا يمكن من الناحية العسكرية قيام إسرائيل باستخدام الطيران أو الطيران المسير لقصف أهداف داخل العراق دون علم الولايات المتحدة.

وحسب مصادر صحفية، فإن واشنطن أبلغت الحكومة العراقية حول وجود نوايا إسرائيلية لضرب أهداف إيرانية في العراق، حيث أبلغ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، بأن إسرائيل قد تقصف في أي وقت، أهدافًا داخل الأراضي العراقية، ترتبط بفصائل مسلحة تقاتل في سوريا، وأن واشنطن لن تستطيع أن تقف إلى الأبد، في وجه الرغبة الإسرائيلية بقصف مقرات داخل العراق. وحسب نفس المصادر، فإن بومبيو نقل أيضًا وجهة النظر الإسرائيلية التي تقول بعدم جدوى مهاجمة مقرات الفصائل العراقية المرتبطة بإيران داخل سوريا لأنها تعود كل مرة إلى تنظيم صفوفها والانطلاق من العراق مجددًا، وبالتالي يتوجب ضربها داخل العراق. وأضاف أن واشنطن لن تتدخل إذا قصفت إسرائيل مواقع الحشد الشعبي(12).

في الوقت نفسه، حرصت الولايات المتحدة على نفي أية علاقة أو دور في الهجمات الإسرائيلية، وفي مقابل اتهامات من أطراف مختلفة داخل العراق بالتواطؤ مع إسرائيل، ردَّ البنتاغون بالقول: إن جميع الاتهامات بهذا الصدد باطلة وإن القوات الأميركية لم تقم بأية هجمات أخرى أدت إلى تفجير مستودعات ذخيرة في العراق، و”الحديث بعكس هذا الأمر، خاطئ ومضلل ومثير للاشمئزاز”. وأشار البيان إلى أن “واشنطن تدعم سيادة العراق”(13)، كما ردَّ غابرييل ساموا، عضو المجلس الاستشاري للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على الفتوى التي أصدرها آية الله كاظم الحائري بإخراج القوات الأميركية، بأن “الفتاوى الدينية تعبِّر عن آراء أصحابها”، وردًّا على المطالبات السياسية بإخراج القوات الأميركية من العراق، قال: إن “تلك القوات موجودة بطلب من الحكومة العراقية”، مبيِّنًا أن “أميركا ترى أن إيران تهدد الأمن العراقي، وأن هناك ميليشيات بالحشد تستمد قوتها من إيران وتشكِّل تهديدًا للعراق وأميركا”(14).

وتعرضت الحكومة العراقية، وكذلك الولايات المتحدة، إلى انتقادات بسبب الفشل في بناء منظومة دفاع جوي متطورة وقادرة على حماية الأجواء العراقية، فالعراق لا يمتلك سيطرة على أجوائه، ويعاني من خلل في مفهوم مراقبة الأجواء التي يجب أن تبنى على مسرح عمليات متكامل، ويشمل ذلك تحديدًا وتغطية للأهداف المهمة من خلال مراصد جوية أرضية وأجهزة إنذار مبكر ومراكز قيادة وسيطرة وشبكة من أسلحة الدفاع الجوي؛ وهذا ما يُعرف بالدفاع القُطري بالإضافة إلى الدفاع الجوي التعبوي لمسرح العمليات سواءً كانت برية أو بحرية. ومن المفترض عسكريًّا أن يقسَّم الدفاع الجوي إلى قطاعات سواء كان ثابتًا أو متحركًا على أن تتسم معركة الدفاع الجوي بالقدرة على العمل في الظروف الجوية الصعبة والحرب الإلكترونية وهذه التقسيمات تبيِّن تخلف منظومة الدفاع الجوي وفشلها في حماية الأجواء العراقية. وحتى لو امتلك العراق منظومات إس 300 أو إس 400 فهناك إمكانية كبيرة لخرقها من قبل طائرة (إف 35)، وما يحصل في سوريا هو خير دليل حيث يوجد لديها منظومة إس 300 ولكنها فشلت في وقف الخرق الجوي الإسرائيلي. لقد أثارت الغارات الإسرائيلية كل هذه الأسئلة التي لم تكن مطروحة من قبل، لكن السؤال المباشر كان عن سبب إحجام (قوات التحالف الدولي) عن إبلاغ العراق بالخرق الجوي، وكذلك عن دور مركز المعلومات المشترك الذي يضم كلًّا من روسيا وإيران وسوريا والعراق وفائدته في حماية الأجواء العراقية.

يفتقر العراق لمنظومة دفاع جوي قادرة على حماية الأجواء العراقية من الاختراق لذا فهي عرضة للاختراق من قبل إيران وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، كما أن العراق يحتاج مدة زمنية طويلة لشراء منظومة دفاع جوي متطورة وإعداد وتدريب الكوادر الفنية القادرة على استخدامها بما فيها شراء أسراب من الطائرات التي تُستخدم لمعالجة الخرق الجوي كمتصديات للهجمات الجوية المعادية، وهذا يحتاج إلى إمكانيات وقدرات مالية عالية غير متوفرة الآن، ناهيك عن التعقيدات السياسية المرتبطة بقضية التسليح وظاهرة الفساد التي تؤثر عليها.

عجلة عسكرية تابعة للحشد الشعبي العراقي تعرضت لضربة جوية على الحدود مع سوريا وقتل فيها أحد قادة الحشد (الجزيرة)

الوجود الأميركي في العراق

سبق الضربات الإسرائيلية محاولاتٌ لإعادة النظر في جدوى الوجود العسكري الأميركي في العراق، أقدم على ذلك عدد من النواب والسياسيين وقادة الحشد المعروفين بقربهم من إيران، وبدا الأمر وكأنه جزء من الصراع النفسي والسياسي بين واشنطن وطهران، غير أن هذه الدعوات ازدادت بعد الهجمات الإسرائيلية، وتحولت إلى تبعات مباشرة لهذه الحوادث، على أساس اتهام القوات الأميركية بالتواطؤ مع إسرائيل، وفي أحسن الأحوال عدم تنفيذ الاتفاق الأمني مع العراق الذي يتضمن حماية أجوائه من أية اختراقات أو هجمات.

صدر الاتهام بالتواطؤ من نائب رئيس الحشد الشعبي، أبومهدي المهندس، المقرب بقوة من إيران، والذي يعتبر القائد الفعلي للحشد. قال المهندس في بيان شديد: إن الطيران الأميركي قام باستطلاع مقرات الحشد، وجمع معلومات تخص مخازن الأسلحة والأعتدة، واتهم القوات الأميركية بأنها أدخلت على العراق أربع طائرات مسيرة إسرائيلية لتعمل ضمن أسطولها(15).

لم تتبنَّ الحكومة العراقية هذا البيان، وسرعان ما أصدر رئيس هيئة الحشد، فالح الفياض، بيانًا آخر لم يأت فيه على ذكر الولايات المتحدة واعتبر فيه موقف (نائبه)، المهندس، مجرد رأي شخصي، وتبين من ذلك الحين وجود تباين بين موقف فصائل الحشد القريبة من إيران التي تتهم القوات الأميركية وتطالب بخروجها من العراق، وبين موقف الحكومة التي لا تريد خسارة علاقاتها مع واشنطن، وأن تبقى على الحياد فيما يتعلق بالصراع بين الدولتين.

ويوجد في العراق نحو 5200 عسكري أميركي(16)، لغرض التدريب والاستشارة العسكرية والأمنية، وقوات خاصة لتنفيذ مهام مختلفة داخل العراق وسوريا تنتشر في مناطق شمال وغرب ووسط البلاد؛ ففي إقليم كردستان هناك خمس قواعد أميركية، هي: (سنجار، وأتروش، والحرير، وحلبجة، والتون كوبري)، وقاعدة كركوك “رينج” كما أسَّست الولايات المتحدة قاعدة كبيرة لقواتها في مطار “القيارة” العسكري، بالإضافة إلى قاعدة بلد الجوية وقاعدتين أساسيتين بمحافظة الأنبار، هما: قاعدة “عين الأسد”، و”الحبانية”، واتخذت قاعدة فكتوري داخل حدود مطار بغداد الدولي مقرًّا لها، تستخدمه للقيادة والتحكم والتحقيقات والمعلومات الاستخبارية(17)، ولديها انتشار في أكثر من 13 موقعًا عسكريًّا آخر مثل بسماية والتاجي والحميرة والقائم وكيوان وغيرها، كما يوجد لديها في بغداد أكبر سفارة في العالم، وهي موقع استخباري لجمع المعلومات وتحليلها.

وتسيطر القوات الأميركية على الأجواء العراقية منذ احتلاله عام 2003، وتقوم بالرصد والمراقبة الجوية والأرضية وخاصة تحركات تنظيم الدولة الذي لا يزال يشكِّل تهديدًا خطيرًا للعراق ويمتلك طائرات مسيَّرة قد يستخدمها لضرب القواعد والقوات الأميركية. لذا، لن تسمح القوات الأميركية بخرق الأجواء من قبل طائرات مجهولة إلا إذا كانت صديقة أو معروفة هويتها سواءً كانت طائرة مقاتلة أو مسيَّرة، ولذا فمن المؤكد من الناحية العسكرية أن تكون القوات الأميركية على دراية مسبقة بالضربات التي حصلت. وقد سبق أن أبلغ وزير الخارجية الأميركي رئيس الوزراء العراقي بأن “واشنطن لن تتدخل إذا قصفت إسرائيل مواقع الحشد الشعبي؛ حيث أبدى رئيس الوزراء انزعاجه من ذلك”(18)، كما أن (مسؤولين أميركيين)، كما وصفتهم صحيفة “نيويورك تايمز”، هم الذين أكدوا للصحيفة قيام إسرائيل بتنفيذ “عدة ضربات في الأيام الأخيرة على مخازن ذخيرة لجماعات مدعومة من إيران في العراق(19).

الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في المنطقة

إسرائيل تخوض حربًا إقليمية حديثة بما تمتلكه من قدرات عسكرية كبيرة ومتطورة لا تعتمد على مسك الأرض وإنما على تدمير التهديد المحتمل بعيدًا عن مسرح العمليات الميداني وعلى جبهات مختلفة بما تمتلكه من ترسانة عسكرية تمكِّنها من القيام بذلك؛ لذا، وسَّعت دائرة استهدافها لدول المنطقة ووجهت ضربات جوية وصاروخية داخل أراضي ثلاث دول عربية في وقت واحد تقريبًا (العراق، وسوريا، ولبنان)، وبغضِّ النظر عن تبعات هذه الضربات واحتمالات تصاعدها إلى مواجهة عسكرية إقليمية واسعة، فإن الهدف الإسرائيلي المعلن يتمثل بمحاصرة امتدادات إيران بالمنطقة وتقطيع أوصالها من خلال استهداف القوى المسلحة المتمثلة بميليشيات مرتبطة بطهران بشكل مباشر، ويبدو أن هذا يجري بتنسيق مع روسيا في سوريا وبتنسيق وغطاء أميركي في العراق(20).

تعلن إسرائيل أن هدفها هو تدمير الصواريخ الإيرانية التي تحاول طهران نقلها إلى الدول الثلاث لتكون منصة إطلاق محتملة باتجاه إسرائيل، وتعتمد إيران على قوتها الصاروخية كسلاح ردع أساسي يعوض عن النقص الواضح في قدرات قوتها الجوية في مواجهة إسرائيل المتفوقة في هذا السلاح.

وتعتبر إسرائيل أن الردع الإيراني المقابل يهدد بفقدانها ميزة استراتيجية، كما أنه يعرضها لمخاطر أمنية جسيمة لاسيما على الحدود مع كل من لبنان وسوريا، وهو ما استخدمته حكومة بنيامين نتنياهو في الضربات المتواصلة في سوريا، وامتداد ذلك مؤخرًا في العراق ولبنان، معتبرة أنها ضربات جوية استباقية وقائية دفاعية، ضد أهداف وتهديدات محتملة وبعيدة نسبيًّا والتي تسمى بالمصطلح العسكري عمليات تجريد جوي أو هجمات إجهاضية، وهو النمط الأمني الإسرائيلي الجديد الذي لا يعتمد على مسك الأرض وإنما على الضربات المباغتة مستفيدًا من القدرات العسكرية الضخمة والتطور الكبير في الحرب الإلكترونية والقوة الصاروخية.

وترتكز إسرائيل في تنفيذ هذه الهجمات على:

• الطائرات المسيرة: حيث تعتبر إسرائيل من أكبر الدول المصدِّرة لهذا النمط من الطائرات، وتعتمد عليها بشكل كبير لإدارة عملياتها الاستراتيجية والتكتيكية بما تمتلكه من تقنية متطورة ورخيصة التكلفة وفرت لها العديد من المزايا القتالية فهي قوة جوية بتكلفة بسيطة وبمميزات قتالية عالية، وقد حققت نجاحًا كبيرًا على أرض الواقع خاصة في الحروب غير المتكافئة، كما أن لها استخدامات متعددة كالاستطلاع والتصوير والقصف والمراقبة والاغتيال والرصد والتعقب.

• قوتها الجوية النوعية التي تعتمد على أحدث الطرز من المقاتلات الأميركية، وأبرزها اليوم طائرة إف 35، وهي مقاتلة تتميز بالقدرة الكبيرة على المناورة وتفادي رصد الرادارات والتخفي لذلك تسمى بالشبح، وتستطيع أداء مهام قتالية متعددة دفاعية وهجومية بمختلف الظروف الجوية الصعبة وتستطيع التحليق لمسافات بعيدة دون الحاجة للتزود بالوقود وتُستخدم لضرب أهداف بعيدة جدًّا، وللطائرة قدرة على تفادي المضادات الأرضية، مثل صواريخ (إس 300، وإس 400) الروسية المتطورة.

الاستراتيجية العسكرية الإيرانية في المنطقة

تقوم الاستراتيجية العسكرية الإيرانية على فرضيات الحرب غير المتكافئة، لمواجهة خصوم متفوقين عليها بالقدرات العسكرية والحرب الإلكترونية؛ كالولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وحلفائهما، وتعمل على توظيف الجغرافيا والعمق الاستراتيجي وقبول الخسائر وتوظيف البُعد الديني والمذهبي بخوض معارك نوعية تعتمد على القوة الصاروخية والطائرات المسيرة والميليشيات المسلحة التابعة لها في دول المنطقة باستخدام استراتيجية غير مباشرة (حرب العصابات) والاشتباك مع العدو عن بُعد في جبهات متعددة؛ فقد صرَّح القائد العام السابق للحرس الثوري الإيراني، اللواء محمد علي جعفري، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017، بأن “مصير جبهة المقاومة مترابط والجميع يقفون متحدون وإذا هاجمت إسرائيل أي طرف منها، سيهبُّ الطرف الآخر من الجبهة لمساعدته”(21).

وتستند الرؤية الإيرانية إلى تحويل دول المنطقة إلى ميدان لأي صراع محتمل بدلًا عن إيران ذاتها. وفي ذلك، قال اللواء حسين سلامي، قائد الحرس الثوري الإيراني: إن “أفضل استراتيجية للاشتباك مع العدو تكون عن بُعد”(22)، وهو ما تجسد ميدانيًّا في نقل إيران مركز مواجهتها مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى أراضي كل من العراق وسوريا ولبنان، بوصفها خط الدفاع الأول عن أمن إيران.

ويمثِّل استخدام الأراضي العراقية أهمية خاصة بالنسبة لإيران للأسباب التالية:

• فتح جبهة جديدة بتهديد إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وخاصة الدول الخليجية باستخدام الأراضي العراقية كمنصة لضرب إسرائيل ودول المنطقة مباشرة.

• استخدام العراق كشريان لوجيستي وممر بري استراتيجي يسمح لطهران بتوريد السلاح الإيراني إلى سوريا ولبنان بما فيها جعل العراق مستودعًا لتخزين الصواريخ ثم نقلها حسب الحاجة إلى حلفائها.

• استخدام العراق كخط دفاعي عن طهران وساحة صراع بديلة لردع الهجمات المحتملة على مصالحها في الشرق الأوسط ولتخفيف الضغط على إيران.

• إمكانية المناورة والحرب بالوكالة: إن وجود ميليشيات مسلحة في العراق لها نفوذ سياسي وعسكري ترتبط بالولي الفقيه في إيران يزيد من هامش المناورة باعتبارها أحد المخالب الإيرانية التي يمكن استخدامها لضرب خصومها بالمنطقة من جبهات متعددة.

فرضيات المواجهة المحتملة

فرضت الضربات الإسرائيلية واقعًا جديدًا في المنطقة قد تكون له تداعيات مستندة إلى إحدى الفرضيات التالية:

الفرضية الأولى: أن الحشد الشعبي العراقي يمتلك بالفعل صواريخ قادرة على تهديد إسرائيل، وهو ما يعني أنه سيكون بمقدوره الرد بقصف إسرائيل، لكن مثل هذه الفرضية تبدو ضعيفة جدًّا، لأنها من ناحية ستحرج الحكومة العراقية بشكل كبير وتظهرها كطرف ضعيف وعاجز عن كبح جماح قوات الحشد، ومن ناحية ثانية ستؤكد الدعوى الإسرائيلية بتخزين صواريخ إيرانية في الأراضي العراقية.

الفرضية الثانية: أن الصواريخ التي بحوزة الحشد هي صواريخ ميدانية قصيرة المدى (20 -50 كيلومترًا)، وهذا يعني أن أية عمليات انتقامية لا يمكن أن تطول إسرائيل، لكنها يمكن أن تستهدف القوات الأميركية في العراق، وهي فرضية يعززها تعرض مواقع أميركية عسكرية ودبلوماسية لهجمات مسلحة، مثل صواريخ الكاتيوشا التي تعرضت لها كل من القنصلية الأميركية في البصرة، وقاعدة عين الأسد غربي العراق، والسفارة الأميركية في بغداد.

وتثير مثل هذه الفرضية فرص مواجهة محدودة مع القوات الأميركية داخل العراق، وهو ما يخفف الضغط السياسي والحصار الاقتصادي على إيران، وذلك بغضِّ النظر عن التكاليف العالية التي يمكن أن يتكبدها العراق جرَّاء ذلك.

الفرضية الثالثة: الاكتفاء برد حزب الله في عملية قصف آلية عسكرية إسرائيلية على طريق ثكنة أفيميم في الأول من سبتمبر/أيلول الماضي (2019)، وهي عملية انتهت في يومها دون تداعيات ضخمة، بعد قصف إسرائيلي مضاد، لكن كثيرًا من القوى المؤيدة لإيران في المنطقة اعتبرتها كافية للتعويض معنويًّا على الأقل عن القصف الإسرائيلي لدول المنطقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*حاتم كريم الفلاحي، خبير عسكري وأمني عراقي.

مراجع

(1) طائرات مجهولة تستهدف الحشد الشعبي العراقي للمرة الثانية، أخبار الدفاع والتسليح، أين تاريخ النشر؟، (تاريخ الدخول 21 أغسطس/آب 2019):https://defense-arab.com/news/30014

(2)لجنة التحقيق تنهي الجدل بشأن تفجير معسكر آمرلي: الحادث نتيجة خلل داخلي، المدى، 21 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول 22 أغسطس/آب 2019):https://www.almadapaper.net/view.php?cat=220259

(3) 40 قتيلًا بثاني غارة مجهولة تستهدف حرس إيران الثوري وأتباعه بالعراق، العين الإخبارية، 28 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول 24 أغسطس/آب 2019):https://al-ain.com/article/forty-elements-crowd-killed-iraq

(4) ما حقيقة تعرض معسكر “أشرف” في ديالى للقصف؟، بغداد اليوم، 2 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 22 أغسطس/آب 2019):https://bit.ly/2kraUTD

(5) خلية الخبراء التكتيكية توضح طبيعة الانفجار الهائل جنوبي بغداد، آفاق، 12 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 24 أغسطس/آب 2019):https://afaq.tv/contents/view/details?id=95246

(6) انفجار معسكر “الحشد” جنوب بغداد: تعددت الروايات والحصيلة قتيل و29 جريحًا، القدس العربي، 13 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 24 أغسطس/آب 2019)https://bit.ly/2kruGyj

(7) مصدر عراقي: أميركا تجلي عددًا من مستشاريها جوًّا من قاعدة بلد، مصراوي، 20 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 24 أغسطس/آب 2019)https://bit.ly/2krsoiG

(8) قتلى بصفوف الحشد العراقي في غارات إسرائيلية، نيوز، 26 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 1 سبتمبر/أيلول 2019)https://bit.ly/2lOWddo

(9) نتنياهو يلمِّح لهجوم العراق: نعمل ضد إيران في مواقع عدة، عربي 21، 23 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 1 سبتمبر/آب 2019):https://bit.ly/2lB2Uj2

 (10) إيران تستعد لمواجهة مع أميركا بقدرات باليستية في العراق، الشرق الأوسط، العدد [14522]،  1سبتمبر/ أيلول 2018، (تاريخ الدخول 24 أغسطس/آب 2019)https://bit.ly/2ltwFCG

(11) هل هذه المرة الأولى التي تُنقل فيها صواريخ باليستية إلى العراق؟، المدى، العدد (2464)، 2 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول 25 أغسطس/آب 2019):https://almadapaper.net/view.php?cat=212829

(12) مصدر يكشف لـ “ناس” مضمون رسالة واشنطن لبغداد بشأن غارات إسرائيلية متوقَّعة ضد أهداف عراقية، ناس، 1 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول  25أغسطس/آب 2019)https://bit.ly/2kf9ZWy

 (13) البنتاغون ينفي تورط واشنطن في الهجمات الأخيرة في العراق، ناس، 27 أغسطس/آب 2019، (28 تاريخ الدخول أغسطس/آب 2019):https://bit.ly/2k05HlG

(14) أول تعليق أميركي على فتوى الحائري، ناس، 24 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 26 أغسطس/آب 2019)https://bit.ly/2lXJWnd

(15) بيان من نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، أبومهدي المهندس، بشأن استهداف قاعدة بلد، الموقع الرسمي للحشد الشعبي، (تاريخ الدخول 1 سبتمبر/أيلول 2019)https://bit.ly/2lWR3ME

(16)واشنطن تعلن وجود خمسة آلاف جندي أميركي في العراق، الحياة، 18 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول 1 سبتمبر/أيلول 2019):https://bit.ly/2rKU4PS

 (17) الخليج أونلاين: قصف إسرائيلي وتهديد للميليشيات، 28 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 29 أغسطس/آب 2019):.http://khaleej.online/LAKJZk

(18) مصدر يكشف لـ “ناس” مضمون رسالة واشنطن لبغداد بشأن غارات إسرائيلية متوقعة ضد أهداف عراقية، ناس، 16 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 25 أغسطس/آب 2019)https://bit.ly/2kf9ZWy

 (19) مسؤولان أميركيان: إسرائيل شنت غارات ضد أهداف عسكرية مرتبطة بإيران في العراق، سبوتنيك، 23 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 25 أغسطس/آب 2019):https://sptnkne.ws/9yQu

(20) توافق أميركي-روسي على أمن إسرائيل يشمل سوريا والعراق، الشرق الأوسط، 21 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول 2 سبتمبر/أيلول 2019)https://bit.ly/30kmRu1

(21) جعفري: إيران وأذرعها ستدعم حزب الله ضد عدوان إسرائيلي، عرب 48، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول 2 سبتمبر/أيلول 2019):  https://bit.ly/2lXA6ln

(22)  الحرس الثوري: جيشا سوريا والعراق هما عمقنا الاستراتيجي، عربي 21، 4 فبراير/شباط 2018، (تاريخ الدخول 2 سبتمبر/أيلول 2019):  https://bit.ly/2lsJwVJ

 

رابط المصدر:

 

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M