التصعيد العكسي.. تفاصيل ومآلات هجوم “فاجنر” في جنوب غرب روسيا

محمد منصور

 

ربما يمكن اعتبار التطورات المتلاحقة والمستمرة منذ فجر هذا اليوم في الجانب الغربي من روسيا بمثابة دليل آخر على المعضلات الكبيرة التي تواجه الدول التي تضع ضمن منظومتها العسكرية وحدات غير نظامية، وهو ما يسفر -في أغلب الحالات- عن تصادم هذه الوحدات مع القوة العسكرية النظامية، تحت عناوين عدة، تتشابه جميعها في عنصر أساسي ألا وهو التأثيرات المدمرة التي تنتج عن هذا التصادم على الأوضاع الداخلية في هذه الدولة أو تلك.وعلى الرغم من أن حالة التوتر القائمة بين مجموعة “فاجنر” والقيادة العسكرية العليا للجيش الروسي كانت واضحة للعيان خلال الأشهر الأخيرة، خاصة بعد التصريح الحاد الشهير لقائد فاجنر -يفغيني بريغوجين- الشهر الماضي، أثناء العمليات القتالية في مدينة “باخموت”، والذي هدد فيه بسحب عناصره من المدينة نتيجة إحجام القيادة العسكرية الروسية عن تزويده بما يحتاجه من ذخائر؛ إلا أنه لم يكن من المتوقع أن تقدم قيادة “فاجنر” على القيام بخطوة حادة “عكسية”، نحو الأراضي الروسية، بعد أن ظلت منذ عام 2014 تقاتل في المحيط الإقليمي والدولي لروسيا.

فقد بدأت وحدات “فاجنر” فجر اليوم -الرابع والعشرين من يونيو 2023- تحركات مفاجئة نحو الأراضي الروسية انطلاقًا من إقليم “دونيتسك” شرق أوكرانيا، من نقطتي عبور أساسيتين بين “لوهانسك” في إقليم “الدونباس” شرقي أوكرانيا ومقاطعتي “روستوف” و”فورونيج” الروسيتين، الأولى هي معبر “Bugaevka” المتاخم لحدود مقاطعة “فورونيج” مع لوهانسك، حيث استسلمت القوة الروسية المتمركزة في هذا المعبر -والمقدرة بنحو 180 جنديًا- لعناصر فاجنر دون مقاومة. أما نقطة العبور الثانية فتقع جنوب “لوهانسك”، قبالة مدينة “شاختي” في إقليم “روستوف”.بمجرد عبور عناصر فاجنر من جنوب “لوهانسك”، تحركت هذه العناصر بشكل سريع جنوبًا على طريق “M-4” نحو مدينة روستوف، وتمكنت، بعد جولة قتالية محدودة، من السيطرة على كافة المرافق الموجودة داخل المدينة، بما في ذلك مقر القيادة الرئيسي للمنطقة العسكرية الجنوبية للجيش الروسي، والذي يعد مقر قيادة رئيس للعمليات العسكرية في أوكرانيا، وتوجد بداخله مقار أخرى تابعة للوحدات العسكرية التي تقاتل في جنوب أوكرانيا، وتحديدًا الوحدات التابعة للجيش الثامن والخمسين. كذلك أعلن قائد “فاجنر” عن سيطرة وحداته على مطار عسكري داخل المدينة، لم تتضح حتى الآن ماهيته أو مدى صحة هذا الادعاء، ويرجح أنه إما قاعدة “شمال روستوف” الجوية، التي تضم وحدات جوية للنقل ومروحيات تابعة للجيش الجوي الرابع، أو قاعدة “زيرنوجراد” الجوية، وهي مقر اللواء الجوي السادس عشر.تحرك عناصر “فاجنر” كان إلى حد ما مفاجئًا للقوات الروسية، وهذا يظهر بشكل كبير من خلال قصر المدة الزمنية التي استغرقتها عناصر فاجنر للسيطرة على “روستوف”، وكذلك اعتقالهم كل من نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكوروف، والنائب الأول لرئيس مديرية المخابرات الرئيسة التابعة، لهيئة الأركان العامة، الفريق فلاديمير أليكسيف. على المستوى اللوجستي، استخدم عناصر فاجنر بشكل عام ناقلات جند مدرعة من نوع “بي تي آر-82” و”بي ام بي-1″، بجانب عربات محلية الصنع مقاومة للألغام من نوع “Z-ST” و”Chekan”. اللافت كان رصد وجود دبابات من نوعي “تي-72 بي3″ و”تي-80” ضمن الوحدات التي دخلت مدينة “روستوف”، بجانب وجود عدة منظومات ذاتية الحركة للدفاع الجوي، وتحديدًا “بانتسير” و”استريلا-10″، تم من خلالها إسقاط ثلاث مروحيات كانت تحلق في أجواء فورونيج، إحداها قتالية من نوع “Mi-35” تم تأكيد سقوطها، بجانب إسقاط طائرة واحدة على الأقل، ويرجح أنها طائرة نقل من نوع “أنتونوف-26”. اللافت أن عددًا كبيرًا من العربات التي استخدمتها وحدات “فاجنر” في هذا التحرك كانت تحمل لوحات ترقيم تعود للوحدات العسكرية التابعة لإقليم “لوهانسك”.

وقت كتابة هذه السطور، تتحرك وحدات فاجنر “شمالًا” على طريق “M-4″، وتمكنت من عبور مدينة “فورونيج”، ووصلت وقت كتابة هذه السطور إلى مقاطعة “ليبيتسك” الواقعة شمالها، والتي تبعد نحو 350 كيلو متر عن العاصمة، وهذا يشير إلى أن هدف هذه الوحدات الوصول إلى مدينة “تولا”، وهي المحطة الأخيرة قبل موسكو. الوحدات المتحركة على هذا الطريق، تتسلح براجمات صواريخ، وقد تعرض لبعض الهجمات الجوية خلال تحركها على هذا الطريق، ولكن هذا لم يبطئ تحركها، الذي تحاول من خلاله تحييد المدن التي تمر بها.الجيش الروسي من جانبه، حاول قدر الإمكان تفعيل بعض الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الاختراق غير المتوقع، فنفذت مروحياته عدة ضربات جوية على الأرتال التابعة لفاجنر، وأوقف رحلات الحافلات المتجهة من إقليم لوهانسك إلى روسيا؛ تحسبًا لانتقال تعزيزات “فاجنر” عبرها، خاصة أن هذا الإقليم يعد المصدر الرئيس حاليًا لتعزيزات فاجنر التي تتدفق منه منذ فجر هذا اليوم. يضاف إلى ذلك تشديد الحرس الوطني الروسي الإجراءات الأمنية داخل العاصمة، وقيام القوات الخاصة الروسية بمداهمة المركز الرئيس لشركة فاجنر، وسط مدينة سانت بطرسبرغ، وإقامة الحرس الوطني الروسي خطًا دفاعيًا على طول نهر “أوكا”، الذي يقع على بعد 50 كيلو مترًا جنوب موسكو. كذلك استدعت موسكو القوات الشيشانية، التي بدأت في التدفق على التخوم الشمالية الشرقية والشمالية الغربية لمدينة “روستوف”، وهو ما ينذر بقرب اشتعال معركة حامية لاستعادتها، ستكون جنبًا إلى جنب مع المعركة المتوقعة على التخوم الجنوبية لموسكو.بشكل عام، تتفاوت التقديرات المتاحة حول أعداد المقاتلين العاملين ضمن شركة “فاجنر”، لكن تشير التقديرات الحالية إلى أن أعدادهم تتراوح بين 25 و50 ألف عنصر، وقد أشارت إحدى الوثائق المسربة التابعة للبنتاجون أن إجمالي عدد مقاتلي المجموعة الذين يقاتلون في مدينة “باخموت” هو 22 ألف مقاتل. يقع المقر الرئيس لهذه المجموعة في مدينة سانت بطرسبرج، وتقوم هذه المجموعة بتدريب منتسبيها الجدد في منشأة للتدريب تابعة لوزارة الدفاع الروسية، تقع قرب قرية “مولكين” قرب مدينة “كراسنودار كراي”. ينتمي أغلب المنتمين إلى هذه المجموعة إلى روسيا، بجانب وجود مقاتلين من دول أخرى مثل صربيا والنرويج وبعض الدول الأفريقية.

تمتلك هذه المجموعة من المقاتلين الذين كان أغلبهم من المدانين في قضايا متنوعة، خبرات قتالية مهمة، تراكمت على مدار السنوات الماضية، بداية من المشاركة في عملية السيطرة على شبه جزيرة القرم عام 2014، والانخراط بعد ذلك -مع القوات الانفصالية في الدونباس- في الحرب ضد الجيش الأوكراني، وفي هذا التوقيت كانت أعداد مقاتلين هذه المجموعة محدودة ولا تتعدى 1000 فرد. كانت مشاركة عناصر هذه المجموعة ضمن المجهود العسكري الروسي في سوريا بدءًا من عام 2015، بمثابة نقلة كبيرة في خبراتهم القتالية، حيث قاتل أفراد هذه المجموعة إلى جانب الجيش السوري في العديد من العمليات العسكرية الرئيسة التي نُفذت خلال هذه الفترة، خاصة الحملة العسكرية للسيطرة على مدن تدمر ودير الزور والرقة.كذلك قاتل عناصر هذه المجموعة في عدة دول أفريقية، من بينها: أفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وليبيا، ومالي، وموزمبيق، بجانب القتال في فنزويلا. وقد كانت تجربة هذه المجموعة في ليبيا الأكثر تنوعًا؛ نظرًا إلى أنها شملت استخدام المدرعات ووسائط الدفاع الجوي ذاتية الحركة والطائرات المقاتلة والقاذفة. منذ بداية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022، شارك عناصر هذه المجموعة بشكل كبير وفعال في عدة معارك رئيسة، منها: معركة السيطرة على مدينة “سفيرودونيتسك”، وعملية السيطرة على مدينة “بوباسنا”، ومؤخرًا عملية السيطرة على مدينة “باخموت”.على مستوى التسليح، حصلت المجموعة على الأسلحة والقدرات المدرعة من عدة مصادر، أساسها الجيش الروسي، بجانب عمليات شراء الأسلحة السوفيتية الأصل من الدول الأفريقية، خاصة مالي. وقد أظهرت وثائق البنتاجون المسربة حديثًا أن مندوبين عن المجموعة قد تواصلوا بشكل سري مع “جهات تركية” في فبراير الماضي؛ بهدف الحصول منها على أسلحة ومعدات قتالية، حسب مقترح تضمن الإشارة إلى دولة “مالي” التي توجد فيها هذه الجماعة بشكل كثيف، كموقع يتم استخدامه كوكيل للحصول على هذه الأسلحة.وهذا يشير إلى تمتع المجموعة بقدر من الاستقلالية “التسليحية” عن موسكو، وأظهر في نفس الوقت أنها باتت تعاني من نقص حاد في الذخائر والأسلحة منذ بداية العمليات في أوكرانيا. كذلك تم ذكر مجموعة فاجنر في وثائق اخرى، من بينها ما يتحدث عن رصد تحركات لها في أفريقيا وهايتي، ترمي إلى تقويض الوجود الأمريكي، وأخرى تتحدث عن جمع الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية معلومات حول الشخصيات الشريكة لمؤسس المجموعة، ورصدهم الاتصالات الخاصة بهم، ومن بينهم أحد مساعديه الذي قال في محادثة هاتفية في فبراير الماضي إنه يخطط لتجنيد مجموعة جديدة من السجناء في صفوف المجموعة.القدرات التسليحية التي تمتلكها هذه المجموعة، تتركز بشكل أساسي على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، بجانب ناقلات الجند خفيفة التدريع من نوع “بي أم بي-1″، و”بير دي أم” و”بي تي آر-82″، لكن مع بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا العام الماضي، دخل ضمن تسليحها أنواع أخرى من الأسلحة، بما في ذلك الطائرات الاستطلاعية بدون طيار “أورلان-10″، والعربات المقاومة للألغام، بجانب دبابات “تي-62″، وراجمات الصواريخ “غراد”. جدير بالذكر أن عناصر هذه المجموعة يمتلكون خبرة سابقة في تشغيل منظومات الدفاع الجوي ذاتية الحركة، وتحديدًا منظومات “بانتسير” التي قاموا بتشغيلها في ليبيا وأوكرانيا، وكذلك منظومات “ستريلا-10”. كذلك قام عناصر هذه المجموعة بتشغيل طائرات مقاتلة ومروحيات نقل في كل من ليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى، بما في ذلك قاذفات “سوخوي-24” ومقاتلات “ميج-29” ومروحيات “مي-17” و”مي-35″، لكنها جميعًا وسائط جوية إما تابعة للدول التي توجد بها، أو أنها تابعة بشكل مباشر للقوات الجوية الروسية.
بالعودة إلى تطورات جنوب غرب روسيا، يمكن القول إن القراءة الأولية لما يحدث في هذا النطاق تشير إلى ان هذه الأحداث بمثابة تطور طبيعي لحالة من “التوتر المكتوم” بين قائد فاجنر ووزير الدفاع الروسي، تختلط بين ثناياها الطموحات السياسية والتنافس الشخصي، وهو ما يمثل في المحصلة -أيًا كانت النتيجة الميدانية لما يحدث حاليًا على الأرض- ضربة قوية للمنظومة العسكرية الروسية على المستويين المعنوي والاستراتيجي، حيث سقط بشكل سريع ويسير مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية، ومعه مدينة “روستوف” بأكملها، وهو الحدث الذي -رغم أنه من المرجح أن يستعيد الجيش الروسي توازنه في هذا النطاق خلال الساعات القادمة- إذا وضع جنبًا إلى جنب مع سلسلة الأحداث السابقة، بدءًا بالهجوم على جسر القرم، مرورًا بالهجمات المسيرة المتكررة على الأراضي الروسية، وصولًا إلى الهجوم بالمسيرات على مقر الكرملين؛ نصل إلى نتيجة مفادها أن ارتدادات الحرب في أوكرانيا باتت تضغط بشكل أكثر ضراوة على الداخل الروسي، بشكل قد يكون له تأثيرات حادة على مستقبل موسكو وقيادتها السياسية.الأكيد أن تجربة القوات شبه العسكرية أو “الرديفة”، أصبحت في حاجة ماسة إلى إعادة التقييم بشكل عام، في ضوء نتائج التجارب التي خاضتها الجيوش النظامية معها على مدار العقود الماضية؛ فمن ناحية ترى بعض الآراء أن الاعتماد على هذه القوات يبقى أمرًا مهمًا تفرضه بعض الاعتبارات اللوجستية والميدانية، نظرًا لسرعة حركة هذه القوات وتحررها من القيود النظامية واللوجستية، في حين ترى آراء أخرى أن افتقار هذه القوات للانضباط العسكري وميل بعض عناصرها إلى اتخاذ نزعات إجرامية أو متطرفة يسهم في خلق صراعات بين هذه القوات والجيوش النظامية، نظرًا لأن نظرة القيادات العسكرية النظامية لهذه القوات تبقى دائمًا سلبية، وهو ما يؤدي في المحصلة إلى تطورات سلبيات عدة، مهما كانت الإيجابيات التي تنشأ عن دخول هذه القوات ضمن المنظومة العسكرية.وبرغم أن سيناريو “الحرب الأهلية” في روسيا يبقى بعيدًا جدًا عن التحقق، فإن الوضع القائم حاليًا بين المؤسسة العسكرية الروسية وقيادة “فاجنر”، يطابق إلى حد بعيد المشهد الحالي في السودان، ويوجب دخول كافة الأطراف في معادلة “الغائية”، يجب فيها إنهاء وجود طرف واحد من طرفي النزاع، خاصة بعد وصول الوضع بين هذه الأطراف إلى حد الاشتباك الميداني بمختلف أنواع الأسلحة.لكن ستكون المعضلة الأساسية أمام القيادة الروسية هي كيفية ترميم صورة المؤسسة العسكرية الروسية من جهة، ومن جهة أخرى تحييد خطر مجموعة فاجنر، وفي نفس الوقت استمرار الاعتماد عليها؛ نظرًا إلى الحاجة الماسة لجهودها في أوكرانيا ودول أخرى، وبالتالي قد يكون السيناريو الأقرب هو تصفية رأس شركة “فاجنر”، وإعادة ترتيب أوراقها مرة أخرى، هذا طبعًا في حالة ما إذا تمكنت موسكو سريعًا من إزالة آثار التحرك “الناجح” لفاجنر نحو “روستوف”، والذي سيبقى علامة فارقة في التاريخ الروسي، مماثلة لقصف الدبابات السوفيتية مبنى الكرملين عام 1991.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/78152/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M