السياسة الأمريكية تجاه إريتريا: بوادِر انفتاح مُحتمَل؟

  • أشارت «الاستراتيجية القُطرية المتكاملة الأمريكية الجديدة» تجاه إريتريا إلى بعض التغيرات الإيجابية في النهج الإريتري على الصعيد الإقليمي، ولمَّحت إلى إمكانية رفع العقوبات الأمريكية على أسمرة، وهذا التحوُّل في الخطاب السياسي الأمريكي يعكس سعي واشنطن للتأثير في الديناميات المتغيرة في منطقة القرن الأفريقي.
  • هناك من يرى بأن الرئيس أسياس أفورقي قد لا يمانع تحسين علاقات نظامه بالإدارة الأمريكية، طالما سيُتاح له أداء أدوار محورية في قضايا القرن الأفريقي، وبشرط عدم التدخل في شؤونه الداخلية وسياساته الخارجية. 
  • التجاوب الإريتري الإيجابي مع التحول الأمريكي المفترض سيكون مرهوناً على الأرجح بمدى جدية واشنطن في ترجمة توجهاتها إلى أفعالٍ وخطواتٍ عمليّة لبناء الثقة، من قبيل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على أسمرة.

 

مَثَّل تقرير «الاستراتيجية القُطرية المتكاملة الأمريكية الجديدة» (ICS) تجاه إريتريا، الصادر أواخر عام 2023، انعطافةً مُحتملةً مهمةً في السياسة الخارجية لإدارة الرئيس جو بايدن، لجهة إمكانية توجهها نحو ترميم العلاقات بالدولة الأفريقية المطلة على باب المندب، والتي عملت الإدارات المتعاقبة في واشنطن لردح من الزمن على معاقبتها وعزلها. وهناك جملة من العوامل والمعطيات التي قد تكون دفعت الإدارة الأمريكية إلى إعادة النظر في علاقاتها بأسمرة، بما فيها حالة عدم اليقين السياسي في السودان مع ارتفاع احتمالات تفكُّكه؛ واستمرار الانكشاف الأمني في الصومال؛ والتوترات الإقليمية التي زادها تصاعد طموحات إثيوبيا في الوصول إلى البحر الأحمر؛ فضلاً عن تصاعد وتائر الاستقطاب والتنافس الدوليَّين؛ لكن الأهم الحرب في غزة وتداعياتها.

 

وبالتالي، يعكس هذا التحوُّل في الخطاب السياسي الأمريكي سعي واشنطن لإيجاد شركاء جدد، كجزء من مساعيها للتأثير في الديناميات المتغيرة في المنطقة، والتصدي لمخاطر عدم الاستقرار والتهديدات المتصاعدة لأمن الملاحة البحرية من قبل جماعة الحوثيين في اليمن.

 

إعادة مُعايرة السياسة الأمريكية تجاه إريتريا

تضمَّنت “الاستراتيجية القُطرية المتكاملة الأمريكية الجديدة” تجاه إريتريا، التي رُوجِعَت وحُدِّثَت في 17 نوفمبر 2023، خروجاً لافتاً عن سابقتها المعتمدة في 5 مايو 2022. ويُمكِن تلمُّس أهم ملامح هذا التَّغير على النحو الآتي:

 

1. من تشديد العزلة على إريتريا إلى تشجيعها على الخروج منها: أشارت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة إلى بعض التغيرات الإيجابية في النهج الإريتري على الصعيد الإقليمي، لافتةً مثلاً إلى أنَّ اتفاق بريتوريا للسلام الذي أنهى حرباً مدمرة استمرت عامين شمال إثيوبيا، في نوفمبر 2022، “عجَّل بانسحاب القوات الإريترية من منطقة تيغراي”، وأشادت بالجهود الإريترية “لتسهيل الحل السلمي للصراع في السودان”، فضلاً عن “عودة إريتريا إلى الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد)”، من بين أمور أخرى. وهي تغيرات وفق واشنطن يمكن البناء عليها للعدول عن مساعيها السابقة الرامية لتكريس عزلة أسمرة إقليمياً ودولياً، وبدلاً من ذلك تشجيع العلاقات الإيجابية والبنّاءة بين إريتريا وجيرانها والمنظمات الإقليمية، لجهة تعزيز حلحلة مسائل القرن الأفريقي. وبناءً على ذلك فقد تصدَّر أهداف ومهام البعثة الأمريكية المعتمدة في أسمرة “تشجيع إريتريا على أن تصبح عضواً استباقياً وبنَّاءً في المجتمع الدولي، بما في ذلك دعم المبادرات العالمية ذات القواسم المشتركة بين إريتريا والسياسة الأمريكية”.

 

2. من معاقبة النظام الإريتري إلى إبداء الرغبة في التعاون معه: ففي حين درَجت واشنطن، وبخاصة خلال آخر عامين، على تبنِّي سياسات صارمة لمعاقبة النظام الإريتري الحاكِم وعزله، وبينما تُبقِي على عقوباتها المفروضة على أسمرة، إلَّا أنَّ استراتيجيتها الجديدة تنطوي على العديد من التلميحات إلى إمكانية رفع تلك العقوبات، وبدء صفحة جديدة من العلاقات التعاونية، حيث عَدَّت أن سلوك النظام الإريتري مؤخراً “يوفر فرصة لإعادة تشكيل العلاقات الثنائية مع إريتريا إلى نهاية أكثر إنتاجية، بما في ذلك السلام والتنمية في القرن الأفريقي”. وأوصت بعثتها الدبلوماسية بالسعي إلى “فتح خطوط اتصال لإقامة قواسم مشتركة تخدم مصالح شعبي البلدين”، بما في ذلك من خلال “تبادل المعلومات حول القيم والمصالح الأمريكية، والبحث عن فرص لزيادة برامج التبادل الثقافي والمهني بين الأمريكيين والإريتريين، والاستماع إلى وجهات النظر الإريترية حول القضايا الإقليمية والدولية، وتعزيز الإدماج الإيجابي للإريتريين في المبادرات الإقليمية”.

 

3. لَهجة أكثر ليونة ودبلوماسية بشأن الشواغل الأخرى مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان: السياسات الداخلية لإريتريا، التي يصفها صناع القرار والمنابر الإعلامية في الولايات المتحدة والغرب بـ”كوريا الشمالية القرن أفريقية”، وبأنها “إحدى أكثر الدول ديكتاتورية وقمعاً وعدائية للولايات المتحدة في أفريقيا والعالم”، جرى التطرق لها هذه المرة بأسلوب نقدي ناعم، يُركِّز على المخاطر والتبعات على الشعب الإريتري وعلى سياسة واشنطن ومصالحها، وكيف أنَّها تُشكِّل عائقاً أمام مساعي الولايات المتحدة لتحسين العلاقات الثنائية بإريتريا، وتعزيز المشاركة مع القرن الأفريقي والقارة الأفريقية ككل. وفي هذا الصدد، وعلى سبيل المثال، بينما تؤكد النسخة الأحدث من استراتيجية واشنطن على أنَّ “هدفنا هو إثبات أن النهوض بالفضاء المدني وحقوق الإنسان لن يُقوض السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية لإريتريا”، ستعمل سفارتها في أسمرة على تشجيع الحكومة الإريترية على توسيع الحيز المدني وإصلاح نظام الخدمة المدنية (الذي يفرض تجنيداً قسرياً غير محدد المدة)، باعتبارهما سببين رئيسيَن لهروب الشباب الإريتري، وتقويض إمكانات التنمية في إريتريا.

 

محاصرة النفوذ الصيني في إريتريا، وعموم القرن الأفريقي، قد تكون إحدى دوافع الانفتاح الأمريكي المحتمل على أسمرة (POOL / AFP)

 

دوافع واشنطن المحتملة للتقارب مع أسمرة

تعكس معالم التحول في السياسة الأمريكية تجاه إريتريا، مساعي واشنطن للتكيُّف مع التغيُّرات الدينامية في المنطقة التي تقع في قلب التجاذبات الإقليمية والدولية. ومن بين أبرز الشواغل والدوافع الأمريكية الآتي:

 

1. احتواء أسمرة وتحفيز تعاطيها الإيجابي مع أزمات الإقليم: تتمتع إريتريا بقدر من التماسك والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، وأظهرت قدرةً على تجاوز عزلتها وأداء أدوار مهمة في قضايا المنطقة التي تعج بالصراعات والحروب داخل الدول وفيما بينها، نظراً لما تزخر به من عرقيات متداخلة ومتنافسة، وعوامل ديمغرافية وسياسية أخرى عديدة، تسهم في تغيُّر الديناميات باستمرار وتجعل المنطقة عالقة وسط شبكة متحولة من قضايا الأمن الإقليمي. وبالتالي يبدو أن إدارة بايدن أخذت تدرك أهمية ترميم العلاقات بإريتريا واحتوائها وتوجيهها نحو التعاطي الإيجابي مع أزمات المنطقة، والمساهمة في إطفاء بؤر التوتر فيها، كجزء من استراتيجيتها للتركيز المتزايد على الاستثمار في ترسيخ الاستقرار والسلام في القرن الأفريقي، باعتبار اضطراباته تؤثر بشدة في مصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي.

 

2. تحجيم نفوذ “محور المقاومة” ووضع ترتيبات جديدة محتملة لأمن البحر الأحمر: في سياق الأزمة الحادة والتداعيات التي خلقتها الحرب الإسرائيلية في غزة، واحتمالات توسُّعها لتشمل أذرع إيران في المنطقة، وفي ظل تزايد التهديدات على حركة الملاحة بسبب هجمات الحوثيين ضد السفن العابرة في البحر الأحمر، وعودة القرصنة قبالة السواحل الصومالية، تسعى واشنطن لضمان تعاون أسمرة ضمن أطر الأمن الجماعي الإقليمي والترتيبات التي يعمل البنتاغون لإعادة تشكيلها وتوسيعها للحد من قدرة ما يسمى “محور المقاومة” على تهديد خطوط الملاحة وممرات التجارة في هذه المنطقة الحيوية.

 

3. خفض التوترات الإقليمية حول قضايا المياه والمنافذ البحرية: إذ يتزامن التوجه الأمريكي الجديد المحتمل للتقارب مع إريتريا مع تزايد شعور الأخيرة بالتهديد لسيادتها وسلامتها الإقليمية جراء تصاعد طموحات إثيوبيا في الحصول على منفذ بحري، والتحوُّل في نهجها الذي تضمَّن لهجة صارمة باستخدام كل الخيارات لتحقيق مثل هذا المنفذ، على نحوٍ وتَّر علاقات أديس أبابا بجاراتها الساحلية على البحر الأحمر وخليج عدن، وبخاصة مع إريتريا، وفَجَّر مطلع هذا الشهر أزمة كبرى مع الصومال بعد توقيع الحكومة الإثيوبية مذكرة تفاهم مع حكومة أرض الصومال (صوماليلاند) بهذا الشأن اعتبرتها مقديشو انتهاكاً صارخاً لسيادتها ووحدتها. وفي هذا السياق، تبدو الولايات المتحدة حريصة على التحوُّط والتوازن، تماشياً مع محاذير حلفاء آخرين مثل مصر والسعودية، في تعاطيها مع الطموح الإثيوبي البحري. بيد أن أسمرة لا تستبعد قيام واشنطن بإعطاء الضوء الأخضر للإثيوبيين لتغيير الخارطة الجغرافية الإريترية. وبالتالي قد ترغب الإدارة الأمريكية في تطمين أسمرة بأنَّها لا تؤدي دوراً سلبياً لتحفيز أي توجهات إثيوبية ضدها، بل إنها ملتزمة بكبحها وخفض التوترات التي تهدد أمن إريتريا والمنطقة عموماً.

 

4. محاصرة النفوذين الصيني الروسي في المنطقة: فخلال جولته الأفريقية الأولى التي شملت جيبوتي وكينيا وأنجولا، أواخر سبتمبر الماضي، كرر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، التأكيد على أنَّ بلاده لا تطلب من الدول الاختيار بينها وبين منافسيها، وإنما تعمل على إثبات قيمة الشراكة معها. وهو خطاب دبلوماسي تُروّج له إدارة بايدن ويُجاريها فيه منافسوها الآخرون، مثل بيجين وموسكو، لكنه يُحدِث أثراً إيجابياً أو سلبياً حال مقارنته بالأفعال، خصوصاً في أفريقيا، وتحديداً في الدول الأكثر استعداءً للغرب وانفتاحاً وتعويلاً على خصومه الدوليين، مثل إريتريا التي ربما تفكر حالياً في إتاحة موطئ قدم للقوتَين العظمَيَين (روسيا والصين) في أراضيها. وعليه، فإن التحول الأمريكي إزاء الأخيرة له بعد براغماتي، ويأتي في سياق ما تُجريه الإدارة الأمريكية من مراجعات وتقييم لسياساتها السابقة لإعادة تحديد أولوياتها في القرن الأفريقي وأفريقيا بصفة عامة، والتي تندرج في إطار التنافس الدولي المحموم وصراع النفوذ المتزايد في المنطقة والمسرح الأفريقي عموماً.

 

رد الفعل الإريتري: المتوقَّع والمُمكِن

تواصل إريتريا حتى الآن اتخاذ موقف غير ودِّي تجاه السياسات الأمريكية، ولم تُبدِ مؤشراً رسمياً واضحاً على اكتراثها بالتغير الحاصل في مضمون «الاستراتيجية الأمريكية الجديدة» تجاهها، ولذا لم يكن من المستغرب أن يصدر عن بعض المؤسسات المقربة من السلطات الإريترية بيانات تُندد بالمقاربة الأمريكية التقليدية إزاء أسمرة، كما يتبين من البيان الذي أصدره ما يسمى المجلس الوطني للأمريكيين الإريتريين (NCEA)، والذي نشره موقع وزارة الإعلام الإريترية في 6 يناير الجاري، ويُدين ما اعتبره مواصلةَ وزارة الخارجية الأمريكية روتينها السنوي بدوافع سياسية “في اتهام إريتريا بالتعصب الديني، والذي يظهر مدى ضآلة معرفة المسؤولين الأمريكيين المعنيين بإريتريا وشعبها وقيمها”، بحسب البيان.

 

مع ذلك، هناك من يرى بأن الرئيس أفورقي قد لا يمانع تحسين علاقات نظامه بالإدارة الأمريكية، طالما سيُتاح له أداء أدوار محورية في قضايا القرن الأفريقي، وبشرط عدم التدخل في شؤونه الداخلية وسياساته الخارجية، لاسيما في ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتوقف عن محاولة إبعاده كلياً عن الصين وروسيا والانحياز إلى رؤى النظام الإثيوبي، وبمعنى آخر سعي واشنطن إلى تبني علاقات متوازنة مع كلٍّ من أسمرة وأديس أبابا، وهو ما قد يكون كفيلاً بطي صفحات الخلافات الأمريكية-الإريترية.

 

وعليه، سيبقى التجاوب الإريتري الإيجابي مع التوجه الأمريكي الجديد على الأرجح، مرهوناً بمدى جدية واشنطن في ترجمة توجهاتها إلى أفعال وخطوات عملية لبناء الثقة مع أسمرة، بما في ذلك على سبيل المثال، رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وفتح المجال أمام إريتريا لأداء دور أكثر فعالية في المنطقة، بما يعود عليها بالنفع الاقتصادي والسياسي والأمني.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/alsiyasa-alamrikia-tujah-eretria-bawadir-ainfitah-muhtmal

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M