الغولف في المملكة العربية السعودية موضوع يفوق بأبعاده الرياضة

دينس روس

 

من بين القضايا الثنائية الملحة الأخرى، تحمل الصفقة السعودية الرياضية البارزة في طياتها تداعيات أوسع على عملية التطبيع مع إسرائيل، والانتشار النووي، والحداثة في السعودية.

شكلت الأخبار عن موافقة “رابطة لاعبي الغولف المحترفين” في الولايات المتحدة وبطولة “دي بي ورلد” في أوروبا ورابطة “ليف غولف” على الاندماج والدخول في مشروع تجاري كبير مع “صندوق الاستثمارات العامة” السعودي، صدمة في عالم الرياضة. من المنظور الجيوسياسي، لا تضطلع دوافع مفوض “رابطة لاعبي الغولف المحترفين” الأمريكية جاي موناهان بأهمية، ولكن هذا لا ينسحب على دوافع السعوديين.

يدير ياسر الرميان “صندوق الاستثمارات العامة”، لكن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، هو رئيس مجلس الإدارة. ولا يتعلق الأمر بـ “الغسل الرياضي”، كما يسارع بعض النقاد في الاتهام، بل بتصوير السعوديين على المسرح العالمي كرواد في الرياضة. وصحيح أن هذه الخطوة قد تؤثر في صورة المملكة العربية السعودية دوليًا، لكن الأمر يتجاوز مسألة الصورة إلى حد بعيد.

تروج المملكة رياضة الغولف في إطار نهج أكبر يهدف إلى جعل المملكة العربية السعودية وجهة سياحية. فالسياحة هي إحدى ركائز برنامج التحول الوطني، المعروف أيضًا بـ”رؤية السعودية 2030″، وهي خطة مصممة لتنويع الاقتصاد السعودي وتحديثه والحد من اعتماده على البتروكيماويات. ويعد التعدين والطاقة النووية المدنية وتطوير مصادر الطاقة المتجددة جزءًا من اقتصاد يُفترض أن يكون مختلفًا تمامًا ورياديًا وموجهًا رقميًا أيضًا. ويكمن الهدف من ذلك في تحديث الدولة وجعل القطاع الخاص محركًا للاقتصاد وليس الحكومة.

ومن اللافت بشكل خاص اعتماد السعودية على السياحة لتصبح مستقبلًا محركًا من محركات هذا الاقتصاد الجديد، وتعكس هذه الخطوة أحد أهم التغييرات التي تشهدها المملكة. في الماضي، شكلت السياحة وكل ما من شأنه إضفاء تأثيرات أجنبية على المملكة تهديدًا بنظر النظام الملكي السعودي والمؤسسة الدينية التي ارتبط بها. ولكن هذا الزمن ولّى. فاليوم، تروج المملكة الموسيقى، التي كانت تعتبرها رذيلة أو ملذة قد تلهي المرء عن الصلاة، من خلال الحفلات الموسيقية التي تجذب مئات الآلاف من الأشخاص من داخل المملكة وخارجها. ومع ازدهار دور السينما وتنظيم سباقات الفورمولا 1 وبطولات الغولف الاحترافية وبناء المنتزهات الترفيهية، أصبح الترفيه جزءًا من المملكة العربية السعودية الجديدة، وكذلك الاختلاط الاجتماعي بين الشبان والشابات، وهي ظاهرة غير مألوفة على الإطلاق لكل من زار البلاد في الماضي.

لا تقتصر المسألة على السماح للمرأة بالقيادة فحسب، بل تتخطاها بأشواط. فقد أُلغيت قوانين الولاية على المرأة التي كانت تمنعها من السفر بمفردها، وامتلاك حساب مصرفي خاص بها، وتأسيس شركة تجارية، وامتلاك العقارات، والطلاق، إذ يتعذر تحديث الاقتصاد إذا أُقصيت المرأة منه.

وهذا هو بيت القصيد. شهدت المملكة العربية السعودية على مدى السنوات الماضية ثورة اجتماعية واقتصادية. فقد استحوذ قتل الصحافي جمال خاشقجي، الذي كان عملًا شائنًا لا أخلاقيًا ينم عن أقصى درجات الغباء، على انتباه الجزء الأكبر من المؤسسة السياسية الأمريكية، وأثر في نظرتها للمملكة وولي العهد. فقد أسرت الجريمة بطبيعة الحال انتباه المؤسسة، ولكنها حالت أيضًا دون التفكير في نطاق التغيير الذي تشهده المملكة العربية السعودية وتداعياته إلا من قبل قلة قليلة أذنت لنفسها بذلك.

وتجدر الإشارة إلى أن ولي العهد السعودي لا يقود هذه التغييرات لاسترضائنا أو استرضاء أي طرف آخر، بل إدراكًا منه أن المملكة العربية السعودية تحتاج إلى تنويع اقتصادها الذي يعتمد على مورد سينضب مع مرور الوقت. فهو ليس ديمقراطيًا، لكنه ووزراءه يقودون ثورة اجتماعية واقتصادية من القمة إلى القاعدة. ويحظى التحرر الاجتماعي بتأييد شعبي بين السكان، علمًا أن الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا يشكلون 67 في المئة من السكان.

لقد فهم ولي العهد أن الوهابية، وهي نسخة أصولية متشددة وغير متسامحة من الإسلام، ولم يعد بإمكانها تشكيل مصدر الشرعية إذا ما أريد تحديث المملكة. لا يمكن للوهابية أن تحدد المملكة من الداخل أو أن تكون صادر المملكة الرئيسي إلى الخارج. فجعل إذًا محمد بن سلمان من القومية والتحديث، وليس الوهابية، مصدر الهوية والشرعية في المملكة حاليًا.

وترتبت عن هذه الخطوة تداعيات واضحة. فالسعودية اليوم تدحض الأيديولوجية التي ارتكز عليها تنظيم “القاعدة” و”الدولة الإسلامية” وغيرهما من الإسلاميين المتطرفين المسؤولين عن الجزء الأكبر من الإرهاب، ولم تعد تمولها، وهذا أمر جيد طبعًا. ولكن السعوديين أصبحوا أكثر حزمًا أيضًا. فقد أخبرني مسؤولون سعوديون رفيعو المستوى أن زمن تقديم الخدمات للولايات المتحدة قد ولّى: “تطلبون خدمة منا، نطلب مقابلها خدمة منكم”.

سيعمل السعوديون بما يخدم مصالحهم. فهم لن يغيّروا علاقتهم مع الصين، وهي أكبر شريك تجاري لهم، لإرضائنا. ولكنهم يدركون أيضًا أنهم إذا واجهوا تهديدات حقيقية، فالصين لن تنقذهم. فهم ما زالوا يعتقدون أن الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على إنقاذهم.

ويسمح لنا ذلك بتحديد مجالات معينة، مثل شبكات الهاتف المحمول اللاسلكية العالية السرعة، قد يهدد فيها التعاون بين السعودية والصين أمننا وقدرتنا على مساعدة السعودية.

لقد اختار السعوديون شركة “هواوي” الصينية لتجهّز جزءًا من بنيتهم التحتية الخاصة بالاتصالات للأجهزة الذكية. ولكن المملكة تعمل الآن مع الولايات المتحدة على تقنيات جديدة لتطوير الجيل السادس، خلَف الجيل الخامس. فقد أدركت إدارة بايدن أنها لا تستطيع التغلب على منافستها من دون تقديم شيء وهي بالتالي تعمل اليوم على مجموعة من التقنيات الجديدة مع السعوديين، بما في ذلك الترددات الإذاعية العالية السرعة والتقاط الكربون والهيدروجين الأخضر.

وتسعى الولايات المتحدة أيضًا إلى التوسط في تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. إذا رأى محمد بن سلمان أن التطبيع مع إسرائيل يخدم مصالح المملكة، فسيُقدم عليه، ولكن مقابل ثمن سيتعيّن على الأمريكيين دفعه في المقام الأول، وليس الإسرائيليين، ويتمثل بالتزام أمريكي رسمي تجاه الأمن السعودي، والوصول إلى أسلحتنا الأكثر تطورًا، وشراكة أمريكية في تطوير الصناعة النووية السعودية حتى تتمكن المملكة من أن تصبح مورّد وقود للمفاعلات النووية. وقد تطرح كل هذه الأمور إشكالية، لا سيما إذا تطلبت موافقة الكونغرس بشكل أو بآخر.

سيغيّر التطبيع السعودي الإسرائيلي قواعد اللعبة في الشرق الأوسط وخارجه، إذ سيدفع دول عربية سنّية أخرى إلى إقامة علاقات مع إسرائيل، وسيشجّع أيضًا دولًا ذات أغلبية مسلمة مثل إندونيسيا وماليزيا على حذو حذوها. لن يحل التطبيع القضية الفلسطينية، ولكن السعوديين سيرغبون في إجراءات إسرائيلية تجاه الفلسطينيين تهدف إلى الحفاظ على إمكانية إقامة دولتين.

ونظرًا لأهمية هذا الإنجاز، يجب أن تتبنى إدارة بايدن نهجًا مبتكرًا في تعاملها مع الشروط السعودية. على سبيل المثال، يمكنها التأكيد على أن الشراكة في المجال النووي يجب أن تقوم على مشاركة أمريكية، تشمل مهندسين وفنيين نوويين، في كل مرحلة من مراحل تطويرها وتشغيلها المستمر. يجب أن نتشارك في تحمل مسؤولية أمن الوحدات النووية المعيارية والمرافق ذات الصلة. بعبارات أخرى، يمكننا تحديد الشراكة النووية، التي يسعى إليها محمد بن سلمان، على نحو يرسخ الوجود الأمريكي في البنية التحتية النووية ويوفر ضمانات وضوابط لمنع أي انحراف عن الأغراض غير المدنية أو العسكرية.

والمفارقة هي أنه في حال شهدت الصناعة النووية في المملكة شراكة أمريكية سعودية كاملة، فستعالج على الأرجح مخاوف السعودية بشأن الحاجة إلى ضمانات أمنية أمريكية. وإذا زادت مشاركتنا في المملكة العربية السعودية بشكل كبير بفعل الشراكة النووية، سيدرك السعوديون عندها أننا سنكون هناك لحماية مصالحنا.

إن العمل على شراكة في الصناعة النووية السعودية ليس أمرًا سهلًا ولا يخلو من المعضلات. ولكن السعوديين سيطورون هذه الصناعة، معنا أو من دوننا. فنحن نستطيع تحديد الضمانات وتصميمها، علمًا أن الصينيين يتمنون أن يأخذوا مكاننا ويطوروا الصناعة النووية السعودية، ولن يعيروا اهتمامًا يُذكر للضمانات المصممة لضمان عدم تحول البرنامج المدني إلى برنامج عسكري.

ونظرًا لتنافسنا الطويل الأمد مع الصينيين، من مصلحتنا إقامة أكبر قدر ممكن من الشراكات مع السعوديين. فالمملكة ستكون جهة فاعلة مهمة على المستوى العالمي في مجالات النفط والطاقة، والطاقة المتجددة، والتمويل، والاستثمار. وقد لا تلتقي مصالحنا دائمًا، لكن السعوديين ليسوا دولة تعديلية تحاول إعادة تشكيل الشرق الأوسط أو السيطرة على المنطقة، على غرار إيران. فهم يطمحون إلى الاضطلاع بدور ريادي في مجال تغير المناخ والطاقة النظيفة، ويتعاونون بالفعل في محاربة الإرهاب وإبقاء نقاط الاختناق مثل مضيق باب المندب مفتوحة. ومن اللافت أنهم على استعداد واضح لصنع السلام مع إسرائيل.

لا ينطوي فن الحكم والإدارة الجيدين على استخدام أدواتنا ونفوذنا بشكل فعال فحسب، بل يشمل أيضًا معرفة ما تتطلبه مصالحنا والتصرف وفقًا لذلك. هل يعني ذلك أن نتخلى عن قيمنا؟ لا، لكن سياستنا الخارجية لطالما عمدت إلى الموازنة بين المصالح والقيم. لا شك أن السعي وراء مصالحنا يؤدي أحيانًا إلى خدمة قيمنا في النهاية، حتى لو لم يبدُ الأمر كذلك للوهلة الأولى.

تخيلوا عالمًا ندفع فيه السعوديين إلى أحضان الصين. هل سيقبل هذا العالم على الأرجح المعايير الأساسية أم لا؟ أم هل ستعتقد فيه الدول الكبرى أنها تملك الحق في مجالات نفوذ معينة ويمكنها أن تملي على جيرانها الأصغر حجمًا ما تفعله؟ هل هو عالم ستكون فيه حقوق الأفراد أكثر عرضة للانتهاك؟ أم عالم يرفض القيم الأمريكية ولا يخدمها؟

يجب أن نسترشد في رسم معالم الشراكة مع المملكة العربية السعودية بالمصالح وبمبدأ تفهمه المملكة القومية الجديدة: علاقتنا تخدم مصالحنا المشتركة وتستند إلى طريق ذي اتجاهين تترافق مع التزامات ومسؤوليات متبادلة.

دنيس روس، مستشار وزميل “ويليام ديفيدسون” المتميز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، عمل كمساعد خاص للرئيس أوباما، ومنسق خاص للشرق الأوسط في عهد الرئيس كلينتون، ومدير موظفي تخطيط السياسات بوزارة الخارجية في إدارة جورج إتش دبليو بوش. وقد ألّف مع ديفيد ماكوفسكي “كن قويًا وتحلَ بالشجاعة: كيف أثر أهم قادة إسرائيل على مصيرها”.

 

.

رابط المصدر:

https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alghwlf-fy-almmlkt-alrbyt-alswdyt-mwdw-yfwq-babadh-alryadt

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M