اهتمام ألماني: دوافع ومؤشرات الانخراط الألماني في الأزمة السودانية

في ضوء تفاقم الأزمة السودانية وتعقد مساراتها، تبدو هناك محاولة ألمانية للدخول على خط الأزمة ولعب دور في الدفع بالآليات الدبلوماسية وجهود الوساطة، تجلت في الجولة الأخيرة لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك لشرق أفريقيا، إذ أكدت خلال لقائها بالرئيس الكيني وليام روتو على ضرورة حسم الصراع الدائر في السودان؛ الأمر الذي أثار تساؤلات حول حدود الدور الألماني الذي يمكن أن تلعبه في الأزمة، ودوافع هذا الانخراط وملامحه.

انخراط ألماني

رغم محدودية المؤشرات التي تعكس الانخراط الألماني على الساحة الأفريقية بشكل عام، إلا إن عددًا من المؤشرات كشفت مؤخرًا عن رغبة ألمانية في رفع درجات الانخراط في القضايا الأفريقية المختلفة، على نحوٍ يعزز من حضورها ويفرض رؤيتها ومن ثم يضمن مصالحها في أفريقيا. ويمكن تتبع ملامح الانخراط الألماني في الأزمة السودانية على النحو التالي: 

1- جولة شرق أفريقيا 

مثلت جولة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك لشرق أفريقيا، توجهت خلالها إلى كينيا، حيث التقت الرئيس الكيني وليام روتو في الخامس والعشرين من يناير المنصرم، قادمة من جدة بالسعودية، التي اضطرت للتوقف بها نظرًا لعدم الحصول على إذن بالتحليق في الأجواء الإريترية، إذ كان مقررًا التوجه إلى جيبوتي لتفقد الموانئ، قبل أن تغير وجهتها إلى كينيا، ومنها إلى جنوب السودان في اليوم التالي.

وتمثل تلك الجولة، أعلى انخراط دبلوماسي منذ اندلاع الصراع في إبريل 2023، إذ اكتفت برلين حينها بإجلاء 150 من رعاياها ودعوة طرفي الصراع إلى وقف التصعيد، مع إعلان الخارجية الألمانية حينها عن تشكيل لجنة لبحث الأزمة. ورغم الدعم الألماني للعملية السياسية التي كانت تقودها الآلية الثلاثية “اليونيتاميس، الإيجاد، الاتحاد الأفريقي” لاستعادة المسار الانتقالي، عقب فضّ الشراكة الانتقالية بين الحكومة المدنية والمجلس السيادي في أكتوبر 2021، يبدو أنها عائدة من ذات الاقتراب الذي انعكس في دعمها لجهود الإيجاد ودول الجوار في بحث حلول الأزمة، حيث دعمت الوزيرة خارطة الطريق التي تبنتها القمة الاستثنائية في أوغندا، والتي تدعم جلوس البرهان وحميدتي إلى طاولة الحوار.

وقد أسست ألمانيا لحضورها في الانتقال السوداني من خلال قيادة مبادرة في إطار مجلس الأمن بالشراكة مع بريطانيا، دعمت من خلالها تأسيس بعثة الأمم المتحدة المتحدة لدعم الانتقال في السودان ” يونيتامس” عام 2020، إذ أنها كانت تدعم الرؤية التي تبنتها كل من الآلية الثلاثية والآلية الرباعية لاستعادة المسار الانتقالي.

ويبدو أن برلين تحاول من جديد العمل من خلال نفس الأطر السابقة أو من خلال التعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية، لدعم أيًا من المسارين المطروحين للحلّ الدبلوماسي، سواء مسار الإيجاد أو مسار جدة، أو من خلال البحث عن مسار ثالث قد ترعاه برلين، في محاولة لإعادة إنتاج انخراطها في الأزمة الليبية، من خلال استضافة مؤتمر يبحث في تقديم مسارًا ورؤية للحل، مثلما استضافت من قبل مؤتمر أصدقاء السودان في وقتٍ مبكر من الانتقال السياسي.

2- دعم الجهود الإنسانية

في ظل تخفيض مستويات الانخراط السياسي الألماني في الأزمة، فإنها تبحث عن مسارات موازية للعب أدوارًا مؤثرة تضمن حضورها، إذ كان الملف الإنساني أحد مداخل الانخراط في الأزمة. وساهمت ألمانيا في وقت مبكر من الانتقال السوداني في تشكيل مجموعة أصدقاء السودان في المملكة العربية السعودية في 2019.

واستضافت كذلك مؤتمر شركاء السودان  في يونيو 2020، والذي حشد مبلغ 1.8 مليار دولار للسودان، وساهم في وضع حجر الأساس لإعادة انخراط السودان مرة أخرى في المجتمع الدولي، إذ تبعه في مايو 2021 مؤتمر في باريس بمشاركة وزير الخارجية الألماني السابق هايكو ماس، لإطلاق عملية تخفيف عبء الديون السودانية التي بلغت 50 مليار دولار، والتي تعهدت الحكومة الانتقالية حينها بتنفيذ الإصلاحات التي تؤهلها لمبادرة الصندوق والبنك الدوليين لتخفيف عبء الديون، التي تعهدت ألمانيا بالتنازل عن 360 مليون يورو عبارة عن ديون ثنائية خلال ذلك المؤتمر.

واعتمدت برلين على دعم الجهود الإنسانية والتنموية في السودان، إذ منذ بدء الانتقال، قام وزير الخارجية السابق هايكو ماس بزيارة الخرطوم في سبتمبر 2019، أعقبها استئناف التعاون الإنمائي الثنائي في 2020، حيث قدمت ألمانيا دعمًا إنسانيًا بقيمة 40.8 مليون يورو عام 2021 وقدمت 61.3 مليون يورو لعام 2022، وفي المؤتمر الذي استضافته جنيف في يونيو 2023 بتنسيق قطري مصري، تعهدت وزيرة الدولة الألمانية للشؤون الخارجية كاتيا كول، بتقديم ألمانيا مساعدات إنسانية بقيمة 200 مليون يورو إلى السودان ودول المنطقة؛ إذ تعد ألمانيا ثالث أكبر مانح للسودان بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

المستشار الألماني شولتس يبدأ جولة أفريقية من السنغال - أخبار صحيفة الرؤية

دوافع ألمانية

لا تنفصل الدوافع الألمانية للانخراط في الأزمة السودانية عن دوافعها الأكبر المتصلة بإعادة تقييم وتفعيل حضورها على الساحة الأفريقية، لأبعاد تتصل بالآتي:

1- أزمتي الطاقة والهجرة

تشكل أزمة الطاقة أحد الدوافع الحاكمة لإعادة تقييم برلين لانخراطها في أفريقيا بشكل عام وفي السودان بشكل خاص، إذ يسعى الغرب لتعويض أزمة الطاقة التي نجمت عن الأزمة الروسية الاوكرانية من خلال اتفاقيات وشراكات جديدة مع أفريقيا التي تزخر باحتياطات هائلة من الغاز الطبيعي والنفط الذي تتمتع أفريقيا بحوالي 8% من احتياطياته حول العالم بواقع 620 تريليون قدم مكعب في عام 2021، وبحوالي 12% من احتياطيات النفط بنحو 125.3 مليار برميل.

ويعكس الاهتمام الألماني بمجال الطاقة النقاش الذي أجراه وفد ألماني في مدينة بورتسودان مع وزير الطاقة والنفط السوداني محي الدين نعيم محمد في منتصف فبراير الجاري بدعوة من وزير المالية إبراهيم جابر المسؤول عن ملف إعادة الإعمار، والذي تناول ملفات متعلقة بإعادة إعمار ما دمرته الحرب في قطاعي النفط والكهرباء من خلال إعادة تأهيل محطات الكهرباء ومصافي البترول التي تم تدميرها، وتضمن النقاش طرح عدد من الفرص الاستثمارية في مجالات الطاقة والنفط في ستة مربعات أعلنت عنها الحكومة السودانية واقعة على البحر الأحمر وفي ولاية الجزيرة.

وتأتي أزمة الهجرة واللجوء كذلك على رأس الأولويات الأوروبية التي تخشى من انعكاسات الصراع في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا الذي يفتح بدوره مسارات اللجوء والهجرة التي تمثل عامل ضغط على الدول الأوروبية. فعلى الرغم من التحولات التي تشهدها المقاربة الألمانية للتعامل مع ملف اللجوء والهجرة، والتي يعمل عليها الائتلاف الحكومي الجديد بقيادة المستشار الألماني أولاف سولتش، إلا أن إبقاء معدلات اللجوء والهجرة عند مستوياته الدنيا يظل هدفًا محوريًا في السياسة الألمانية. وقد قادت ألمانيا من قبل، عملية الخرطوم لمكافحة أسباب وتبعات الهجرة غير الشرعية، بالتعاون مع السودان في عهد الرئيس السابق عمر البشير ودول القرن الأفريقي.

2- رفع مستوى الحضور 

يأتي الاهتمام الألماني بالسودان ضمن اهتمام أوسع بمنطقة شرق إفريقيا بشكل خاص وأفريقيا بشكل عام، وهو ما عبرت عنه الرؤية الاستراتيجية الألمانية الجديدة، والتي ترتكز على إعادة تقييم الشراكة الألمانية الأفريقية من منظور تعددي، إذ ترغب ألمانيا في تلافي أخطاء السياسة الاستراتيجية التي حكمت تعاطيها مع أفريقيا، بما يمهد لمرحلة جديدة من الشراكة المتوازنة ومتعددة الأطراف التي تتطلع إليها دول القارة، خاصة في ملفي الهجرة والطاقة.

وفي قلب هذه السياسة، تأتي منافسة الخصوم جزءًا من الدوافع الحاكمة، إذ تتخوف أوروبا بوجه عام وألمانيا بوجه خاص من تكثيف الحضور الروسي في السودان وفي الدول التي يتراجع فيها الحضور الأوروبي، مما يمكنها من توظيف ملف الهجرة واللجوء في تهديد الأمن الأوروبي، وكذلك مساعيها لإقامة قاعدة بحرية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر.

ومثلت جولة المستشار الألماني أولاف شولتس الأفريقية في مايو 2022، والتي شملت السنغال والنيجر وجنوب أفريقيا، أبرز تجليات السياسة الألمانية الجديدة إزاء القارة، إذ ركزت الجولة على مناقشة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن الغذائي والطاقة، إلى جانب قضايا مشتركة تتصل بتعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري ومواجهة تداعيات جائحة كورونا؛ إذ بالنظر إلى الدول المختارة، يتبين أنها جميعها مركز لسياسات الطاقة الألمانية في أفريقيا.

في الأخير، يبدو أن برلين تحاول تعزيز حضورها في الأزمة السودانية كجزء من رغبة أكبر تتصل بتعزيز حضورها على الساحة الأفريقية، مدفوعة برؤية استراتيجية متجددة، تسعى من ورائها لتلافي أخطاء سياسات الماضي، ورسم سياسات جديدة متوازنة تضمن من خلالها تعزيز مصالحها وملء الفراغات التي قد يحاول الخصوم شغلها.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/80842/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M