بين الحكومة والشارع: المآلات المحتملة لأزمة قانون التقاعد في فرنسا

أحمد نظيف

 

منذ مطلع العام الحالي تعيش فرنسا على وقع أزمة اجتماعية وسياسية غير مسبوقة، على خلفية طرح الحكومة لإصلاح جديد يستهدف نظام المعاشات التقاعدية. وتصاعدت الأزمة من خلال عدد كبير من التظاهرات والإضرابات العامة، التي شملت جميع فرنسا وأغلب القطاعات الصناعية والخدمية، مُتسببةً في اندلاع مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة في الشوارع. وفي المقابل، ولَّدت الأزمة انقساماً سياسياً عميقاً داخل البرلمان والطبقة السياسية، حُكماً ومعارضةً.

 

السياق والوضع الراهن

في يناير 2023، قدمت الحكومة الفرنسية مشروع قانون للبرلمان يتعلق بمستقبل نظام التقاعد الفرنسي، هدفه الأساسي “تعديل فاتورة تمويل الضمان الاجتماعي”. يقوم المشروع على رفع السن القانوني للتقاعد تدريجياً اعتباراً من 1 سبتمبر 2023، بمعدل ثلاثة أشهر لكل سنة، وسيُحدَّد بـ 63 عاماً و3 أشهر في عام 2027 في نهاية فترة الخمس سنوات، ثم سيصل إلى الهدف النهائي للحكومة وهو 64 عاماً في عام 2030. للاستفادة من معاش تقاعدي كامل، سيكون من الضروري، اعتباراً من عام 2027، أن يكون العامل أو الموظف قد عمل لمدة 43 عاماً، وهي مدة الاشتراك التي صُوِّت عليها في إطار قانون عام 2014. وكما هو الحال اليوم، سيستفيد الأشخاص المتقاعدون في سن 67 دائماً تلقائياً من معاش تقاعدي كامل، أي من دون خصم، حتى لو لم يعملوا لمدة 43 عاماً.

 

تستند الحكومة إلى الوضع الديموغرافي المتجه نحو مجتمع أكثر شيخوخةً في المستقبل، وبالتالي زيادة نفقات المعاشات التقاعدية خلال السنوات المقبلة. في عام 2021، شكّل الإنفاق على المعاشات التقاعدية 13.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وسيظل هذا المعدل ثابتاً حتى عام 2027 (13.9% من الناتج المحلي الإجمالي). لكن بداية من عام 2028 إلى عام 2032، يمكن أن تصل حصة إنفاق المعاشات التقاعدية في الناتج المحلي الإجمالي إلى 14.2% أو حتى 14.7% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالإضافة إلى النمو الاقتصادي الضعيف، فإن التدهور سيكون بسبب تدابير خفض التكاليف على كشوف مرتبات الخدمة العامة الإقليمية والخدمة العامة بالمستشفى، لأن لها تأثيراً سلبياً على حصة الموارد في الناتج المحلي الإجمالي.

 

في إثر ذلك قامت النقابات العمالية الفرنسية ضمن تحالف نقابي واسع، بالتعبئة ضد مشروع القانون. ومنذ نهاية يناير بدأت سلسلة من المظاهرات المليونية في باريس والمدن الكبرى، وعدد من الإضرابات العامة والإضرابات القطاعية، التي شلَّت البلاد تماماً. لا تعترض النقابات العمالية على مبدأ إصلاح نظام التقاعد، بقدر ما يصدر اعتراضها عن رفض لرفع سن التقاعد، وتوجه الحكومة لتمويل العجزّ المستقبلي في المعاشات والضمان الاجتماعي من خلال زيادة مدة العمل، متهمةً الرئيس ماكرون بفرض إصلاح معياري بحت يهدف إلى البحث عن ميزانية متوازنة، دون أي اعتبار للعدالة الاجتماعية، في ظل ظروف صعبة أعقبت الجائحة الصحية، وفي قلب أزمة التضخم والطاقة وآثار الحرب الروسية الأوكرانية.

 

وبعد حوالي شهر ونصف من النقاشات داخل البرلمان، بغرفتيه، الشيوخ والنواب، عجزت الحكومة عن تحصيل العدد الكافي من الأصوات لتمرير القانون، حيث بدا أن الزج بمشروع القانون للتصويت مقامرة غير محسوبة العواقب، ويمكن أن يسقط داخل البرلمان بسبب عدم وجود أغلبية برلمانية مريحة تساند الحكومة بعد الانتخابات التشريعية لعام 2022، وما أفرزته من مشهد برلماني مشتت بين أقصى اليسار وأقصى اليمين والتحالف الداعم للرئيس.

 

وفي ظل هذا اللايقين، قررت الحكومة تفعيل المادة 49.3 من الدستور، والتي تعطيها الحق في تمرير قانون واحد كل عام دون المرور بالتصويت البرلماني. لكن هذا المرور من خارج البرلمان، عمَّق ضُعْف حجة الحكومة أمام النقابات، وزاد من قوة التعبئة الشعبية للنقابات، التي التحقت بها فئات شبابية وحزبية من أقصى اليسار ومن حركات البيئة. فيما تحولت الأزمة السياسية إلى مواجهات في الشارع بين الشرطة والمتظاهرين وأعمال عنف شبه يومية، خاصة في الحوض الباريسي. في مقابل ذلك لم تتراجع الحكومة عن قرارها، وكسبت معركة حجب الثقة عنها داخل البرلمان بفارق تسعة أصوات فقط، فيما أصبح مشروع قانون تحت أنظار المجلس الدستوري الذي سيقول فيه كلمته الأخيرة في 14 أبريل المقبل، بوصفه المؤسسة التي تقرر مدى توافق القوانين واللوائح المحالة إليه مع الدستور. في المقابل قدَّم 252 نائباً معارضاً، اتكاءً على المادة 11 (الفقرة 3) من الدستور التي تسمح بتنظيم استفتاء، في 20 مارس 2023، مقترحاً بتنظيم استفتاء عام على قانون التقاعد، وهو معروض على المجلس الدستوري الذي يجب أن يتحقق مما إذا كان هذا المقترح يتعلق بـ “تنظيم السلطات العامة، والإصلاحات المتعلقة بالسياسة الاقتصادية أو الاجتماعية أو البيئية والخدمات العامة التي تسهم فيها”.

 

السيناريوهات المحتملة

وسط حالة الاستقطاب الحادة بين الحكومة والمعارضة النقابية والسياسية تبدو أزمة إصلاح نظام المعاشات التقاعدية الفرنسية مفتوحة على أربعة سيناريوهات:

 

السيناريو الأول: موافقة المجلس الدستوري في 14 أبريل المقبل على إصلاح قانون التقاعد الذي طرحته الحكومة، وبالتالي يصبح القانون ساري المفعول، وهذه الموافقة يمكن أن تُعطي الرئيس ماكرون وحكومته دفعاً سياسياً قوياً، وقد تُضعِف التعبئة الشعبية ضده، فضلاً عن إضعاف موقف النقابات العمالية والمعارضة. ومع ذلك ستبقى الحكومة ضعيفة داخل البرلمان بسبب عدم قدرتها على تحصيل أغلبية مريحة تُمكِّنها من تمرير القوانين، لاسيما القوانين الجدلية. وعموماً سيكون من الصعب رفض القانون داخل المجلس الدستوري لطبيعة مضمونه.

 

السيناريو الثاني: رفض المجلس الدستوري للقانون، وفي هذه الحالة يمكن أن يشكل ذلك مخرجاً لإدارة الرئيس ماكرون من هذه الأزمة، إذا ما قررت عدم إعادة طرح القانون معدلاً. ولكنه يمكن أن يكون عنصر تأزيم، حيث يمتلك الرئيس حق حلّ البرلمان، والتوجه نحو انتخابات سابقة لأوانها لعله يحقق عدد مقاعد أكثر وحزاماً برلمانياً أوسع لحكومته. لكن ذلك يبدو مستبعداً في ظل تدني شعبية الرئيس وحزبه، والصعود الواضح لحزب التجمع الوطني (أقصى اليمين).

 

السيناريو الثالث: موافقة المجلس الدستوري على مبادرة نواب المعارضة بتنظيم استفتاء عام حول قانون التقاعد، وفي هذه الحالة، ستقل حدة الأزمة بسبب الدخول في مسار طويل لتنظيم هذا الاستفتاء يمكن أن يدوم حوالي عام ونصف. حيث ستبدأ فترة أولى من تسعة أشهر لجمع توقيعات المواطنين، مما يتطلب حوالي 4.8 مليون توقيع (10% من الناخبين). بعد ذلك، يقوم المجلس الدستوري بالتحقق من صحة هذه التواقيع، وسيكون أمام البرلمان ستة أشهر لفحص مشروع القانون، ثم يصدر رئيس الجمهورية دعوة عامة لإجراء الاستفتاء. ومع ذلك سيكون هذا السيناريو بمثابة هزيمة لحكومة ماكرون أمام المعارضة، ويمكن أن يؤدي إلى سقوطها وانتخابات مبكرة.

 

السيناريو الرابع: حتى في حال وافق المجلس الدستوري على القانون، يمكن أن تواصل النقابات العمالية تعبئتها الشعبية من خلال المظاهرات والإضرابات، ويمكن أن يدفع ذلك الرئيس ماكرون وحكومته إلى سحب القانون، كما حدث في عام 2006 مع قانون “عقد العمل الأول” الذي أقر من خلال استخدام المادة 49.3 من الدستور في حكومة دومينيك دو فيلبان، لكن بعد ذلك جرى تعليقه وسحبه نهائياً من طريق تصويت جديد، استجابة لحالة توتر اجتماعي شديد واحتجاجات قوية. لكن هذا السيناريو يبدو ضعيف الحدوث بسبب إصرار الرئيس الفرنسي على إصلاح نظام التقاعد وفقاً لرؤيته التي طرحها منذ عام 2020 وحالت بينه وبينها الأزمة الصحية الناجمة عن جائحة “كوفيد-19”.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/scenario/bayn-alhukuma-walsharie-almalat-almuhtamala-li-azmat-qanun-altaqaud-fi-faransa

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M