مخاوف أوروبا: ماذا بعد عودة تدفقات الغاز الروسي عبر خط «نورد ستريم1»؟!

أسماء فهمي

 

في الوقت الذي تتسابق فيه أوروبا لوقف اعتمادها الكبير على الغاز الروسي والخروج من عنق الزجاجة وسط الحرب الروسية الأوكرانية، أعلنت روسيا عن وقف تدفقات الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب “نورد ستريم 1” لمدة عشرة أيام للقيام بعمليات الصيانة السنوية خلال 11-21 يوليو، وبالفعل استأنفت عملية تدفق الغاز الطبيعي عبر “نورد ستريم” في الموعد المحدد يوم الخميس بعد الانتهاء من الصيانة المقررة، بالرغم من أن أوروبا التي تستورد أكثر من ثلث صادرات روسيا من الغاز الطبيعي وضعت سيناريو سيئًا متعلقًا باحتمالية عدم استئناف روسيا لعمليات التسليم بانتهاء صيانة خط الأنابيب كرد على العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة وأوروبا. وفي ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية تخشى أوروبا من دخولها فصل الشتاء القارس في ظل إمدادات غاز محدودة مما يتوجب عليها الاستعداد لبدائل تعوض ذلك النقص في الغاز الروسي، بل واحتمالية استخدام روسيا سلاح الغاز كرد على العقوبات الغربية.

تدفقات خط أنابيب “نورد ستريم 1”

يربط “نورد ستريم” روسيا وألمانيا وهو أطول خط أنابيب تحت سطح البحر في العالم، ويمثل جزءًا كبيرًا من إمدادات الغاز في الاتحاد الأوروبي بسعة تصميم سنوية تبلغ 55 مليار متر مكعب، وتعمل خطوط أنابيب الغاز الطبيعي في نورد ستريم بالتوازي عبر بحر البلطيق لمسافة 1224 كيلومترًا من خليج بورتوفايا بالقرب من “فيبورغ” على الساحل الروسي إلى “لوبمين” ألمانيا. نقل خط أنابيب نورد ستريم في عام 2021، 59.2 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، وتم تسليم أكثر من 465 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عبر نورد ستريم منذ إطلاقه في عام 2011، وذلك بحسب تقرير صادر عن ” نورد ستريم إيه جي”، الشركة المشغلة لخط “نورد ستريم”.

وفي ظل توتر الأوضاع مع احتمالية تفاقمها، قامت الوكالة الاتحادية للشبكات التابعة لوزارة الاتحادية للشئون الاقتصادية والطاقة الألمانية، بالإعلان عن مستوى التأهب لخطة طوارئ الغاز في ألمانيا، وفي الوقت نفسه صرحت بأن إمدادات الغاز لألمانيا مستقرة وعند مستويات الأمان في الوقت الحالي، حيث بلغ حجم الاحتياطي من الغاز في ألمانيا حاليًا 65.1٪، فمنذ 18 مارس 2022 قامت ألمانيا بزيادة كميات الغاز الطبيعي المخزنة والتي فاقت مستويات التخزين التي كانت تتم في الأعوام 2015 و2017 و2018 و2021، ليرتفع الاحتياطي من 54.5 تيراوات/ساعة في 1 مايو 2022 لتصل إلى 158.06 تيراوات/ساعة في 18 يوليو 2022.

ومع تنفيذ أعمال الصيانة بخط “نورد ستريم” توقفت التدفقات وفي المقابل فإن طرق النقل البديلة مثل خط أنابيب يامال وطريق أوكرانيا المتاحة حاليًا إلا أنها لا تستخدم لتعويض الكميات التي لا تتدفق عبر خط “نورد ستريم 1″، وكنتيجة لانخفاض المعروض ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي بشكل ملحوظ واستقرت عند مستوى مرتفع والذي صاحبه تحذير للشركات والمستهلكين بتوقع زيادة مستقبلية كبيرة في أسعار الغاز، ويمكن متابعة تطور أسعار الغاز الطبيعي بأوروبا من خلال الشكل التالي:

شكل رقم (1): تطور أسعار الغاز الطبيعي بأوروبا خلال العام الحالي

يبين الشكل السابق تراجع العقود الآجلة للغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي إلى أقل من 150 يورو لكل ميغاوات/ساعة يوم الخميس، وهو أدنى من أعلى ارتفاع شهدته أسعار الغاز الطبيعي بأوروبا والذي بلغ حينها 227 يورو لكل ميغاوات/ساعة، إلا أنه تظل تلك الأسعار مرتفعة جدًا إذا ما قورنت بمتوسط مستويات الأسعار 49 يورو لكل ميغاوات/ساعة في العام الماضي.

ومع انتهاء فترة الصيانة عادت التدفقات مما أدى إلى تراجع أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا كما وضح الشكل السابق، كما أدى إلى تهدئة المخاوف الأوروبية من أن الإغلاق أثناء الصيانة المجدولة سيصبح دائمًا، إلا أنه بالرغم من استئناف كميات الغاز الطبيعي عند 40٪ من السعة كما كانت قبل أعمال الصيانة لكنها لا تزال أقل بكثير من المستويات التي شوهدت في وقت سابق من هذا العام، كما أن عودة الشحنات عبر خط الأنابيب لم تحل المخاوف الأوسع بشأن الطاقة في القارة التي أصبحت رهينة الحرب الروسية خاصة بقيام روسيا الأشهر الماضية بخفض إمدادات الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب نورد ستريم بنسبة 60%، وألقت شركة الطاقة الروسية المملوكة للدولة غازبروم باللوم على مشاكل التوربينات في خفض إنتاج خط الأنابيب، كما هدد الرئيس الروسي من أن التدفقات عبر خط الأنابيب يمكن أن تنخفض إلى 20٪ فقط من طاقتها في وقت لاحق من هذا الشهر ما لم يتم حل الخلاف حول الأجزاء الخاضعة للعقوبات، وردًا على روسيا سمحت الحكومة الكندية بإعادة توربين نورد ستريم الذي كان يجري إصلاحه وتقطعت به السبل بسبب العقوبات.

وشكّل ذلك تهديدًا صريحًا لأوروبا ودفع المفوضية الأوروبية بتشجيع الدول الأوروبية لخفض استهلاك الغاز خلال فصل الشتاء بنسبة 15%، بل قد يصل الأمر إلى أبعد من ذلك بأن يقوم الاتحاد الأوروبي بالتدخل وتقنين استخدام الغاز الطبيعي في بعض القطاعات إذا تفاقم الوضع، ويمكن متابعة تطور تدفقات خط أنابيب “نورد ستريم1” لأوروبا، وفقًا لبيانات تم تجميعها من موقع “نورد ستريم إيه جي”، الشركة المشغلة لخط “نورد ستريم”، من خلال الشكل التالي:

شكل رقم (2): تدفقات خط أنابيب “نورد ستريم1” لألمانيا خلال الفترة عام 2013 – 2021

جدير بالذكر أن الغاز الروسي بدأ بالتدفق عبر أول خط أنابيب مزدوج في نورد ستريم في نوفمبر من عام 2011، ويبين الشكل السابق زيادة تدفقات نورد ستريم بشكل مطرد من حجم الغاز المنقول عامًا بعد عام ليصل إلى الاستفادة الكاملة من سعة خط الأنابيب عام 2020.

تأثير وقف إمدادات الغاز الروسي على أوروبا

التأثير على نمو الاقتصاد: من المتوقع أن يتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي دخول أوروبا في حالة من الركود، وستكون له عواقب وخيمة على الاقتصادات الأوروبية، ويرى صندوق النقد الدولي أن تراجع حجم إمدادات الغاز الروسي لأوروبا أدى إلى أن تأتي التوقعات بانخفاض النشاط الاقتصادي بنسبة 0.2% في النصف الأول من عام 2022، وفي حالة الإغلاق الكامل فإنه ستتركز حدة الأزمة في دول وسط وشرق أوروبا وبشكل خاص المجر وجمهورية سلوفاكيا وجمهورية التشيك، حيث ترتفع التوقعات بشأن تراجع النشاط الاقتصادي بنسبة تصل إلى 6% نظرًا لأن كثافة استخدام الغاز الروسي عالية وندرة الإمدادات البديلة، كما ستواجه إيطاليا أيضًا آثارًا كبيرة بسبب اعتمادها الكبير على الغاز في توليد الكهرباء، وتشير التقديرات إلى أن التأثير على النمسا وألمانيا أقل حدة ولكنها لا تزال كبيرة، وذلك لقدرتهما على توفير مصادر بديلة بجانب قدرتهما على خفض استهلاك الغاز المنزلي، كما أنه ستكون الآثار الاقتصادية معتدلة ربما أقل من 1%، بالنسبة للبلدان الأخرى التي لديها القدرة على الوصول إلى أسواق الغاز الطبيعي المسال الدولية.

التأثير على معدلات التضخم: يمكن أن يؤدي نقص الإمدادات إلى ارتفاع أسعار الغاز وبالتالي زيادة التضخم بشكل كبير، علمًا بأن مستويات التضخم في أوروبا وصلت بالفعل إلى معدلات قياسية على وقع الحرب الروسية الأوكرانية، وبحسب البيانات الصادرة عن المكتب الإحصائي التابع للاتحاد الأوروبي، فقد سجّل معدل التضخم السنوي في منطقة اليورو 8.6٪ في يونيو 2022 ليحقق ارتفاعًا من 8.1٪ في مايو مقارنة بـ 1.9% العام الماضي، وارتفع معدل التضخم السنوي في الاتحاد الأوروبي 9.6٪ في يونيو 2022 من 8.8٪ في مايو، مقارنة بما كان عليه 2.2٪ العام الماضي، وذلك مع ارتفاع أسعار الطاقة، فبحسب توقعات “شركة كورنوال إنسايت للأبحاث” البريطانية، فإنه إذا توقفت روسيا عن تصدير الغاز لأوروبا قد يرتفع بشكل كبير الحد الأقصى لسعر فواتير الطاقة السنوية في (أوروبا وبريطانيا) والذي من المتوقع أن يصل إلى 2980 جنيهًا إسترلينيًا في أكتوبر، وإلى 3003 جنيه إسترليني في يناير.

التأثير على الأنشطة الاقتصادية المختلفة: يعد الغاز الطبيعي مصدر الطاقة الأساسي الأكثر استهلاكا في القطاع الصناعي والخدمات (غير المرتبطة بالنقل) والأسر، ويعمل الغاز أيضًا كمصدر رئيسي للطاقة الهامشية في توليد الكهرباء، نظرًا لمرونة محطات الطاقة التي تعمل بالغاز والبنية التحتية العامة للغاز (على سبيل المثال، التوصيلات البينية للشبكة، وسعة التخزين ومحطات الغاز الطبيعي المسال) في الاستجابة لتقلبات الطلب على الكهرباء، وبالتالي سيؤدي وقف إمدادات الغاز وما سيعقبه من ارتفاع أسعاره إلى تراجع نشاط قطاع التصنيع وستواجه الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل صناعة الصلب والأسمدة والمواد الكيميائية ضغوطًا وقيودًا على الإنتاج، بل قد تضطر الصناعات غير الأساسية إلى وقف الإنتاج مؤقتًا، كما سينخفض الدخل الحقيقي المتاح للأسر والقوة الشرائية (نتيجة التدهور في معدلات التبادل التجاري بسبب زيادة تكلفة الطاقة المستوردة) كما سيضطر المواطنون إلى خفض الاستهلاك المنزلي لتوفير الغاز الطبيعي.

تحركات دول الاتحاد الأوروبي لتأمين احتياجاتها من الغاز

وضع الاتحاد الأوروبي خطة تقضي بخفض استخدام الغاز الروسي بمقدار الثلثين بحلول نهاية العام والاستغناء بشكل نهائي عن الغاز الروسي قبل عام 2030، وقد يخفف من نقص الإمدادات العمل بلائحة أمن إمدادات الغاز للاتحاد الأوروبي، والتي تم إدخالها بالفعل عام 2017، وتنص على أن الدول الأعضاء تساعد بعضها البعض في توفير إمدادات الغاز في حالة النقص، وحتى الآن اتخذت ألمانيا ترتيبات قانونية مع الدنمارك والنمسا فقط.

ولتحسين استباقي لأمن الإمدادات في الاتحاد الأوروبي، قدمت المفوضية في 20 يوليو 2022 حزمة الاستعداد للشتاء، والتي تحمل رسالة “وفر الغاز لشتاء آمن” وتم اقتراح لائحة بشأن تدابير منسقة لخفض الطلب على الغاز والتي تعتمد على العمل الجاري لتنويع الإمدادات، وتضمن هذه الحزمة أيضًا خطة الاتحاد الأوروبي لخفض الطلب على الغاز، واقتراحًا تنظيميًا استنادًا إلى المادة 122 من معاهدة عمل الاتحاد الأوروبي لاستكمال لائحة أمن الغاز، والذي يمكن للمجلس أن يصدر تخفيضات إلزامية في طلب دول الاتحاد الأوروبي على الغاز.

أيضًا لدى العديد من الدول الأوروبية خيارات لسد الفجوة بواردات الطاقة عبر الموصلات البينية من الدول المجاورة، أو زيادة توليد الطاقة من الطاقة النووية أو مصادر الطاقة المتجددة أو الطاقة الكهرومائية أو الفحم، إلا أن توافر الطاقة النووية آخذ في الانخفاض في ألمانيا وبلجيكا وفرنسا بسبب تقادم المحطات وإيقاف التشغيل والتوقف التدريجي والانقطاع المتكرر، كما أغلقت العديد من دول الاتحاد الأوروبي محطات الطاقة القديمة التي تعمل بالفحم.

واتجهت الحكومات الأوروبية بشكل متزايد إلى الولايات المتحدة لتزويدها بكميات أكبر من الغاز الطبيعي المسال الباهظ الثمن، كما توجهت إلى المملكة المتحدة وهو ما أظهرته البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني، والذي أظهر ارتفاع صادرات السلع إلى الاتحاد الأوروبي للشهر الثالث على التوالي لتصل إلى 16.4 مليار جنيه إسترليني في أبريل، مدفوعة بصادرات الغاز والنفط الخام المشحون إلى هولندا وأيرلندا. أيضًا توجهت الدول الأوروبية إلى النرويج وأذربيجان للحصول على الغاز كما كثفت من استخدام الطاقة المتجددة.

وأعلنت إيطاليا عن صفقة لتعزيز شحنات الغاز من الجزائر، كما اتجهت بولندا نحو النرويج للحصول على الغاز وستستفيد من إطلاق خط أنابيب بحر البلطيق في أكتوبر المقبل، بقدرة متوقعة لتوصيل ما يصل إلى 10 مليارات متر مكعب من الغاز النرويجي، كما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إمدادات غاز من دول مثل أذربيجان وهولندا وبلجيكا بجانب مفاوضاتها مع إسرائيل وقطر والجزائر ومصر ونيجيريا.

وبالرغم من أن صادرات الغاز الروسي لأوروبا تعد أحد أهم مصادر الدخل لموسكو، إلا أنها تواصل تهديدها بقطع إمدادات الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي، ولا توجد ضمانات بشأن تراجع روسيا عن تهديداتها مع استمرار الحرب، خاصة وأنها في وقت سابق طلبت أن تتم عملية دفع شحنات الغاز بالروبل الروسي وهو ما يظهر تلويح روسيا بورقة الغاز الطبيعي كأداة للرد على العقوبات المفروضة عليها، ومن هنا تتمثل الإجراءات العملية التي يمكن أن تتخذها أوروبا في تعظيم إمدادات الغاز من مصادر أخرى، وأن تقوم بتسريع نشر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتحقيق أقصى استفادة من مصادر الطاقة الحالية المتوفرة المنخفضة الانبعاثات، وتكثيف تدابير كفاءة الطاقة في المنازل والشركات، واتخاذ خطوات لترشيد استهلاك الطاقة. ومع كل تلك الإجراءات لا بديل لأوروبا في الأجل القصير عن الغاز الطبيعي الروسي.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20352/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M