“هجوم دهوك” ومآلات الوجود العسكري التركي في شمال العراق

فراس إلياس

 

أثار الهجوم الصاروخي الذي تعرض له منتجع برخ السياحي في محافظة دهوك التابعة لإقليم كردستان العراق في 20 يوليو 2022، والذي راح ضحيته العديد من القتلى والجرحى، بوادر خلاف دبلوماسي بين العراق وتركيا، خصوصاً بعد إن اتهمت الحكومة العراقية تركيا بالوقوف خلف هذا الهجوم، رغم النفي التركي لذلك، وإلى جانب التداعيات التي أثارها، أعاد هذا الهجوم الحديث مرة أخرى عن طبيعة الوجود العسكري التركي في شمال العراق، والخلاف الذي أثارته مذكرات التفاهم الأمني الموقعة بين الجانبين العراقي والتركي، ففي مقابل التحفظ العراقي عليها، تمكنت تركيا عبرها من شن العديد من العمليات العسكرية داخل الأراضي العراقية بذريعة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني “البككا”.

تُسلِّط هذه الورقة الضوء على طبيعة الوجود العسكري التركي في شمال العراق، وصور هذا الوجود، سواءً على مستوى القواعد أو العمليات أو الأهداف، إلى جانب البحث في هجوم دهوك وحيثياته، والتحديات الأمنية التي يواجهها العراق في هذا السياق، وانعكاس ذلك بالمجمل على مستقبل الوجود العسكري التركي.

 

طبيعة الوجود العسكري التركي

في عام 1982 عقد حزب العمال الكردستاني “البككا” الذي تصنفه الحكومة التركية إرهابياً، مؤتمراً في لبنان، قرر خلاله التمركز في شمال العراق، مستغلاً الفراغ الأمني الذي كان يعاني منه العراق بسبب الحرب مع إيران، وبدأ التموضع في معسكر “لولان” على الحدود العراقية التركية الإيرانية. شكّل هذا التحول أحد أبرز الملفات المعقدة في مسار العلاقات العراقية التركية منذ ثمانينات القرن الماضي، مما أجبر نظام “صدام حسين” على توقيع مذكرة تفاهم أمني مع تركيا في عام 1984، تسمح لتركيا الدخول 5 كم داخل الأراضي العراقية لملاحقة عناصر “البككا”. وعلى الرغم من أن مذكرة التفاهم الأمني نصت على سريانها لمدة عام واحد، إلا أن تركيا ظلت متمسكة بها من جانب واحد، وزاد من تعقيد هذه الحالة عدم تمكن العراق من فرض سلطته على المناطق الشمالية، بسبب قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بمنطقة كردستان العراق في التسعينيات، بعد غزو العراق للكويت في أغسطس 1990.

في سبتمبر 2007، وأثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي إلى تركيا، تم التوقيع على اتفاقية المجلس الأعلى للتنسيق الإستراتيجي بين البلدين، وتضمنت هذه الإتفاقية 10 مذكرات تفاهم، شملت الجوانب الإقتصادية والتجارية والسياسية والثقافية، إلى جانب توقيع مذكرة تفاهم أمني سمحت لتركيا الدخول بعمق 35 كم داخل الأراضي العراقية لملاحقة عناصر “البككا”، إلاّ إن الجانب العراقي رفض إدخالها حيز التنفيذ، بعد رفض تركيا تطبيق البروتوكول الخاص بالمياه.

 

وفي إطار التعاون وتحسن العلاقات بين حكومة اقليم كردستان وأنقرة، شكل افتتاح “قاعدة زليكان” التركية في أكتوبر 2014، في أطراف جبال ناحية بعشيقة “42 كم شمال شرق محافظة نينوى”، أول وجود عسكري تركي صريح في شمال العراق، رغم وجود نقاط عسكرية تركية داخل الأراضي العراقية منذ تسعينيات القرن الماضي غير معلنة، لتشكل هذه القاعدة نقطة شروع تركيا في تنويع صور وجودها داخل العراق، تحت ذريعة ملاحقة عناصر “البككا”. وتشير تقارير إستخبارية ميدانية أن هذه القاعدة تضم ما يقرب من 1500 عنصر تركي “ضباط وجنود”، إلى جانب منظومات للقيادة والسيطرة، ومدارج هبوط طائرات مروحية، إلى جانب الدبابات والعربات المدرعة وأسلحة ثقيلة، ومنظومة اتصال لوجستي تربط العديد من مناطق الإنتشار التركي في شمال العراق عبر قيادة عمليات موحدة، وإلى جانب هذه القاعدة توجد هناك:

 

  • 12 قاعدة تركية متعددة المهام العسكرية منتشرة في مناطق “ديراشيش وماسيفي وميرجي وكاني ماسي وجيل سرزيري ودار سنكي وكوفان تبة وباطوفة وجيا كالكاهور ومطار بامرني وسوران”.
  • قواعد استخبارية أو مقرات للأمن التركي، وتنتشر في مناطق” العمادية وباتيفا وزاخو وكاراباسي”، وهي قواعد منتشرة في محافظة دهوك، إلى جانب مكاتب للإرتباط والتنسيق الإستخباري، قامت الإستخبارات التركية بإفتتاحها بعد عام 2003 في محافظة السليمانية.
  • نقاط عسكرية ثابتة، وتتمركز فيها القوات الخاصة التركية، وتمارس في بعض الأحيان مهام الشرطة العسكرية في المناطق التي تسيطر عليها، وأبرزها نقطة عسكرية في “سيدكان”، وبضع مقرات عسكرية في منطقتي “ديانا وجومان” القريبتين من جبال قنديل، من أجل إحكام السيطرة على مناطق “خامتير وهاكورك وكيلاشين”، على الحدود بين العراق وتركيا.
  • أبراج مراقبة وتعقب وتنتشر على طول الشريط الجغرافي الممتد بين العراق وتركيا، بدءاً من “معبر فيشخابور” وصولاً إلى منطقة “سوران”.
  • نقاط عسكرية متحركة تقتصر مهامها على مسك المناطق التي يتم إخراج عناصر “البككا” منها.

 

مناطق انتشار القواعد التركية المذكورة

Source: Erman Çete, Why does Turkey have 38 illegal bases in northern Iraq?, The Cradle, January 28 2022. https://bit.ly/3byxYuf

 

وتتمثل أبرز الأهداف التي سعت تركيا الى تحقيقها من هذا الوجود في:

  1. توسيع نطاق العمليات العسكرية التركية المتواصلة في شمال العراق ضد “البككا”، والتي انطلقت منذ عام 1984، ولتتواصل في عام 1991 باسم عملية “العصا”، وفي عام 1995 باسم عملية “فولاذ”، وفي عام 1997 باسم عملية “المطرقة”، لتتجدد منذ يونيو 2020، عبر عمليات “مخلب النسر” و”مخلب النمر” وأخيراً عملية “قفل المخلب” التي انطلقت في أبريل 2022، لتشمل جميع المناطق التي يتواجد فيها “البككا” على طول الحدود العراقية التركية، وتحديداً بين منطقتي الزاب وأفشين وقنديل.
  2. تدمير منظومات القيادة والسيطرة التابعة للبككا في مناطق سنجار ومخمور.
  3. تدمير المعسكرات والمقرات التابعة للبككا في مناطق دهوك وزاخو وغيرها.
  4. قطع الشريط الحدودي الذي يربط “البككا” بالجماعات الكردية في سوريا، وتحديداً قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
  5. تسهيل عملية ضرب الفصائل المتحالفة مع “البككا” في سنجار، وفي مقدمتها وحدات مقاومة سنجار “اليابشا”.
  6. محاولة خلق منطقة آمنة داخل الحدود العراقية بعمق 50 كم، وبالشكل الذي يربط مدينة حفتانين الحدودية بقاعدة زليكان، ومن ثم مدينة ديريك السورية على المثلث العراقي التركي السوري.
  7. تسهيل عملية تعقب ومراقبة عناصر  وقيادات”البككا” و”قسد”  و”اليابشا” داخل الأراضي العراقية، وهو ما سمح لها باغتيال العديد منهم عبر الطائرات المسيرة أو العمليات الإستخبارية.

 

هجوم دهوك وحيثياته

في الوقت الذي شنت فيه تركيا العديد من العمليات العسكرية داخل الأراضي العراقية، دون رد فعل عراقي يُذكر، مستهدفةً عناصر “البككا” والفصائل المتحالفة معه، إلا أن الهجوم الصاروخي الأخير الذي تعرض له منتجع برخ السياحي في محافظة دهوك، وسرعة التحرك الرسمي العراقي، وضع العلاقات العراقية التركية على المحك، وهو ما بدا واضحاً في ردود الأفعال الرسمية والشعبية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لجأ العراق إلى مجلس الأمن الدولي من أجل الحصول على قرار أممي يدين تركيا، ويجبرها على الإنسحاب من الأراضي العراقية، وهو ما تحقق في الجلسة الطارئة للمجلس التي عقدت في 26 يوليو 2022، إلا أن المجلس لم يحمل تركيا صراحة مسؤولية الوقوف خلف الهجوم، وإنما أصدر قرار إدانة لاستهداف المدنيين، مطالباً أطراف النزاع باللجوء للوسائل الدبلوماسية من أجل حل الخلاف الحالي.

 

وفي الوقت الذي شكّل فيه العراق لجان تحقيقية على مستوى وزارة الخارجية وقيادة العمليات المشتركة، أعلنت تركيا استعدادها لإجراء تحقيق مشترك، وهو ما رفضه الجانب العراقي. اتهمت أنقرة “الـبككا” بالوقوف وراء الهجوم، على الرغم من أن نتائج التحقيق التي توصلت لها السلطات العراقية، أشارت بوضوح إلى أن “السلاح المستخدم كان عبارة عن قذائف مدفعية من عيار 155 ملم، أطلقت بصورة متتابعة من الجهة الشمالية التي تتمركز فيها القوات التركية، وهي ذات المدفعية التي يستخدمها الجيش التركي”، إلاّ أن الجانب التركي رفض ذلك على لسان وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو الذي قال بأن الجيش التركي لم يمارس القصف الصاروخي في يوم وقوع الحادث.[1]

 

لم تتوقف ردود الأفعال عند هذا الحد، بل شهدت القواعد والمقرات التي تتواجد فيها القوات التركية في نينوى وشمال سنجار، العديد من الهجمات الصاروخية أو عبر طائرات مسيرة، من قبل فصائل مسلحة عراقية، أوقعت العديد من القتلى والجرحى في صفوف القوات التركية، ففي يوم 23 يوليو 2022، تم استهداف قاعدة زليكان بعدة صواريخ كاتيوشا، وفي ذات اليوم قال مدير ناحية بامرني في إقليم كردستان العراق، “بأنّ طائرتين مسيرتين هاجمتا قاعدة عسكرية تركية في ناحية بامرني، وتم إسقاطهما دون حدوث خسائر”.[2] إلى جانب هجمات أخرى تعرضت لها  قاعدة سيري ومعسكر باروخي، فضلاً عن الهجوم الصاروخي الذي تعرضت له القنصلية التركية في محافظة نينوى في 27 يوليو 2022. ويُذكر أن “سرايا أبابيل” هي الفصيل المسلح الذي تبنى عملية الوقوف خلف أغلب هذه الهجمات، وتشير المعلومات الميدانية إلى أن هذا الفصيل مكون من عدة مقاتلين ينتمون لثلاث فصائل فاعلة في محافظة نينوى هي “عصائب أهل الحق وكتائب سيد الشهداء وحركة بابليون”.

 

ورداً على الدعوات العراقية لإلغاء مذكرات التفاهم الأمني مع تركيا، قال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين  إنه كانت هناك مذكرة تفاهم وقعت عام 1984، ولمدة عام واحد فقط، وطلب العراق من الجانب التركي الانسحاب في عام 1988، عندما فشل الجانبان في تجديدها، إلاّ أن تركيا رفضت ذلك.[3] وأضاف حسين “أن العراق سجل منذ عام 2018 أكثر من 22 ألفاً و700 انتهاك تركي للأراضي العراقية، وأنه تقدم بـ296 مذكرة احتجاج على التدخلات التركية، حيث تم إدراجها مؤخرا مع الشكوى المقدمة إلى مجلس الأمن الدولي ضد تركيا “.[4]

 

وفي هذا السياق أيضاً أشارت المعلومات الميدانية التي أدلى بها ضباط في الإستخبارات العسكرية العراقية في المنطقة الشمالية، إلى أن المنطقة المستهدفة لا تشهد أي تواجد لعناصر “البككا” وهي منطقة تمكن الجيش التركي من إغلاقها، وقطع الطريق على عناصر “البككا” من المرور إليها منذ ديسمبر 2015، خصوصاً بعد أن نجح “البككا” في إيجاد ملاذ آمن لهم في سنجار بعد تحريرها من سيطرة تنظيم “داعش”، بل إن أقرب نقطة عسكرية للبككا عن منطقة الهجوم هي 11 كم، ولم يعد “البككا” يستخدم المنطقة التي وقع فيها الهجوم بسبب انتشار القواعد التي يتمركز فيها عناصر الإستخبارات التركية على بعد 4 كم من المنطقة التي وقع فيها الهجوم.

 

إن طبيعة العقدة الجغرافية التي تشهدها العلاقات العراقية التركية سمحت بتكرار مثل هذه الحوادث، فغياب القوات الأمنية العراقية عن الحدود مع تركيا، إلى جانب عدم امتلاك العراق لمنظومات الدفاع الجوي والإنذار المبكر، وسيطرة “البككا” والفصائل المتحالفة معه على مساحات شاسعة من الشريط الحدودي بين العراق وتركيا، فضلاً عن دور الحرس الثوري الإيراني، جعل البلدين يدخلان في أزمات متعددة بسبب الخلاف المستمر على طبيعة تواجد الحزب ونشاطه العابر للحدود. وحتى مع ردود الأفعال الكبيرة التي أثارها الهجوم، إلّا أن الجانب التركي نفّذ في اليوم التالي أكثر من 21 هجوماً صاروخياً في المنطقة المحيطة لمصيف برخ، ما يشير إلى عمق الأزمة التي يواجهها العراق في هذا السياق.

 

تحديات أمنية تواجه العراق حيال الوجود التركي

يواجه العراق العديد من التحديات الأمنية في سياق التعاطي مع الوجود العسكري التركي، وفي هذا السياق تبرز أربع تحديات رئيسة هي:

 

على مستوى الانتشار العسكري العراقي: على الرغم من النقاط العسكرية المشتركة التي يتواجد فيها عناصر الجيش العراقي مع قوات البيشمركة الكردية، والتي تعد بمثابة قوات حرس حدود تختص بمهام الإنذار والمراقبة وليست قوات مقاتلة، فإن في ما يقرب من 370 كم، وهي طول الحدود بين العراق وتركيا، لا توجد أي سلطة لوزارة الدفاع العراقية ، كما أن التواجد في هذه المناطق يحتاج لموافقة سلطات إقليم كردستان، كون الحدود بين العراق وتركيا هي ضمن حدود الإقليم، الذي يرفض تواجد الجيش العراقي فيها، وهي معضلة أشار إليها بوضوح رئيس أركان الجيش العراقي الفريق أول ركن عبد الأمير يارلله، خلال استضافته في مجلس النواب في الجلسة الاستثنائية التي عقدت لبحث تداعيات هجوم دهوك، وأشار إلى ضرورة إرسال قوات الجيش والبيشمركة للذهاب إلى المناطق التي تنتشر فيها القوات التركية، ومسك المناطق الفارغة من قوات حرس الحدود، لإجبار القوات التركية كي تترك نقاطها، وفرض قواتنا السيطرة عليها.

 

على مستوى دور “البككا” والفصائل المتحالفة معه: تمكّن “البككا” من تأسيس تواجد عسكري دائم في مناطق سنجار بعد تحريرها من سيطرة تنظيم “داعش” في نوفمبر 2015، إلى جانب مناطق جبال غارا وأفشين والزاب وباسيان وجبل متين، كما نجح في تشكيل العديد من الفصائل الإيزيدية التابعة له؛ وهي وحدات مقاومة سنجار “اليابشا” التي تنضوي ضمن الفوج 80 التابع لهيئة الحشد الشعبي، إلى جانب قوات الدفاع الشعبي وأحرار سنجار، وعبر هذا الدور تمكن “البككا” من السيطرة على مساحات جغرافية واسعة على طول الشريط الحدودي العراقي مع تركيا وسوريا، كما نجح وعبر علاقاته الجيدة مع الحرس الثوري والفصائل الولائية التابعة لإيران، من حرمان الجيش العراقي من ممارسة أدوار أمنية واسعة، سواءً في المناطق التي يسيطر عليها، أو على مستوى ضبط الحدود، وهو ما بدا واضحاً في ردود الأفعال التي أبدتها قوات “اليابشا” المتحالفة مع “البككا” ضد محاولات الجيش العراقي فرض سلطتها في سنجار، وتحديداً الأحداث الأمنية التي شهدتها سنجار في 3 مايو 2022.

 

على مستوى دور الحرس الثوري والفصائل المتحالفة معه: نجحت إيران في إيجاد موطئ قدم في سنجار عبر علاقتها الوثيقة مع “البككا” من جهة، وعلاقاتها مع الفصائل الولائية التابعة لها من جهة أخرى، وذلك رغبة منها بترسيخ دورها في شمال العراق، وتحديداً محافظة نينوى المحاذية للحدود السورية عبر مناطق تلعفر وسنجار، ما يعني الهيمنة الكاملة على مجمل الشريط الحدودي الذي يمتد من مدينة كرمانشاه الإيرانية حتى البحر الأبيض المتوسط، وهي إستراتيجية إيرانية عملت طهران على تحقيقها خلال الفترة الماضية؛ إلى جانب نجاح الحرس الثوري والفصائل الحليفة في إفشال تطبيق اتفاق تطبيع الأوضاع في سنجار الذي حاولت حكومة مصطفى الكاظمي تطبيقه في أكتوبر 2020، والهدف من ذلك كله إبعاد العراق عن ممارسة أي دور على حدوده الشمالية خلافاً للرغبة والمصالح الإيرانية.

 

مستقبل الوجود العسكري التركي بعد هجوم دهوك

يمكن القول بأن هجوم دهوك، وطبيعة ردود الأفعال العراقية “الرسمية والشعبية”، وضعت الوجود العسكري التركي في شمال العراق أمام ثلاثة سيناريوهات هي:

 

أولاً: استمرار الوضع الراهن؛ يفترض هذا السيناريو المرجح استمرار الوجود العسكري التركي وذلك بسبب رغبة تركيا إكمال تشكيل المنطقة الآمنة في شمال العراق وربطها بالمنطقة الآمنة في شمال سوريا، بغض النظر عن التداعيات التي تفرزها عملياتها العسكرية. فضلاً عن ذلك؛ فإن ردود الفعل العراقية لم ترق  حتى اللحظة لمستوى الردود الجدية على التدخلات التركية، حيث إنه لطالما أدّت حالة عدم الإستقرار السياسي في العراق، وطبيعة العلاقة القوية التي تربط أربيل بأنقرة، مقارنة بالعلاقة مع بغداد، إلى جانب العلاقات الإقتصادية والتجارية ذات الإتجاه الواحد، والأهم من كل ذلك ملف المياه،  الى إخماد رد الفعل العراقي على الإجراءات التركية.

 

ثانياً: تجميد الوجود العسكري التركي بصورة مؤقتة؛ يفترض هذا السيناريو المحتمل، بأن تركيا ستوقف انتشارها وعملياتها العسكرية داخل العراق بصورة مؤقتة، وذلك من أجل تجاوز تداعيات هجوم دهوك على المستوى الرسمي والشعبي العراقي، والتحول نحو نمط جديد من العمل العسكري، وذلك عبر اعتماد العمليات الإستخبارية، والهجمات الجوية عبر الطائرات المسيرة، وهو ما بدا واضحاً على السلوك التركي، حيث إنه بعد هجوم دهوك، نُفذت ثلاث عمليات جوية عبر الطائرات المسيرة في دهوك وسنجار والموصل، إلى جانب عملية إستخبارية ناجحة في السليمانية، تمكنت خلالها من تصفية العديد من القيادات العسكرية في “البككا” و”قسد”، وقد تطمح تركيا حالياً الى التوصل لمذكرة تفاهم أمني جديدة مع الحكومة العراقية، من أجل العودة لاستئناف عملياتها العسكرية في شمال العراق.

 

ثالثاً: انسحاب القوات التركية وغلق القواعد العسكرية؛ يفترض هذا السيناريو  المستبعد، انسحاب القوات التركية من العراق، إلى جانب غلق قواعدها ومقراتها ونقاطها العسكرية. ان تركيا ليست بوارد الإنسحاب من العراق بأي شكل من الأشكال، وذلك بسبب طبيعة الفواعل “المحلية والإقليمية” التي ستملأ الفراغ بعد انسحابها من شمال العراق، مع تعذر إمكانية أن تقدم الحكومة العراقية أي ضمانات أمنية لها، هذا إلى جانب ارتباط الساحة العراقية بالساحة السورية، التي أنشأت فيها تركيا منطقة آمنة، وهو ما يجعل عملية الحديث عن الانسحاب التركي من الأراضي العراقية غير مطروحة على المدى القريب والمتوسط.

 

خاتمة واستنتاجات

سيرتبط مستقبل الوجود العسكري التركي في العراق بصورة مباشرة بطبيعة المشهد المقبل الذي سيؤطر العلاقات العراقية التركية بعد هجوم دهوك، إذ تأتي محاولات الحكومة العراقية لحل معضلة الوجود العسكري التركي عبر الوسائل السياسية والدبلوماسية متعثرة للغاية، وذلك بسبب وجود فواعل أخرى على الساحة العراقية، وأبرزها إيران و”البككا” والفصائل الولائية، وهي فواعل لها أهداف وغايات متمايزة عن توجه الحكومة العراقية، إلى جانب الخلافات المستمرة بين بغداد وأربيل حول الطاقة وانتشار الجيش والعلاقة مع أنقرة، وهو ما سيعطل أي إجراءات دبلوماسية قد يتجه لها العراق مستقبلاً.

 

ونظراً لذلك فإن العراق  لا يملك الفرصة لإنهاء التواجد العسكري التركي، كما أن إمكانية الحصول على قرار أممي يقضي بإخراج القوات التركية من العراق، تبدو معدومة للغاية، وعلى الرغم من أن الجانب العراقي يملك أوراقاً أخرى يمكن أن يناور بها الجانب التركي، وأهمها قرار محكمة تجارية تابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، والتي قضت بدفع تركيا غرامة قدرها 24 مليار دولار في قضية تحكيم رفعها العراق بشأن دور أنقرة في مساعدة حكومة إقليم كردستان العراق على تصدير نفطها بشكل مستقل عن بغداد خلال فترة حكومة نوري المالكي الثانية، إلى جانب القرار الذي أصدرته المحكمة الإتحادية العراقية في فبراير 2022 والخاص ببطلان قانون نفط وغاز الإقليم، إلا أن العراق على ما يبدو ليس بوارد تفعيل هذه الأوراق أيضاً، بسبب الانقسام الداخلي وخشية من رد فعل تركي أكثر تشدداً، خصوصاً في ملفات مثل المياه والعلاقات مع اقليم كردستان العراق.

وإجمالاً فإن إمكانية تراجع تركيا سياسياً وعسكرياً بعد هجوم دهوك تبدو غير مطروحة بالوقت الحاضر، وهو ما بدا واضحاً في تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو خلال افتتاح مؤتمر السفراء الأتراك الـ13 بالعاصمة أنقرة في 9 أغسطس 2022، حينما أشار الى أن بلاده تنتظر من العراق إعلانَ ما هو معلوم للجميع، بأن “البككا” تنظيم إرهابي، وهو من يقف خلف الهجوم. حيث ترى تركيا أن  بإمكانها تجاوز هذه الأزمة، كما تجاوزتها في مرات سابقة؛ كون التحديات التي يواجهها العراق قد تجعل صانع القرار يعيد حساباته جيداً في أي خطوة يستهدف بها تركيا.

 


[1] جاويش أوغلو: تركيا لم تستهدف المدنيين في “دهوك” العراقية، وكالة الاناضول، 21 يوليو 2022. https://bit.ly/3Q4O260

[2] استهداف معسكر تتمركز فيه قوات تركية شرقي الموصل في شمال العراق بمجموعة من الصواريخ، روسيا اليوم، 22 يوليو 2022. https://bit.ly/3Q8Eln5

[3] Fehim Tastekin, Tourist massacre marks turning point in Turkish-Iraqi ties, Al-Monitor, 25 July 2022. https://bit.ly/3zGkbK8.

[4]  تداعيات قصف المنتجع.. هل توجد اتفاقية أمنية تتيح لتركيا التدخل عسكريا في العراق؟، الجزيرة نت، 24 يوليو 2022. https://bit.ly/3AcDnRh

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/-hjom-dhok-wmalat-alwjod-alaskari-altrki-fi-shmal-alaraq

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M