أزمة تكدس السفن وناقلات النفط في البحر الأسود: الأسباب والتداعيات

د. أحمد سلطان

 

مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، ارتفعت أسعار النفط الخام، واتخذ التكتل الغربي العديد من الإجراءات والخطوات التي تهدف إلى كبح أسعار الطاقة والعمل على تقليص الإيرادات التي تدخل إلى خزائن الكرملين. من بين هذه الخطوات السقف السعري على النفط الروسي، ومع بداية تنفيذ القرار في 5 ديسمبر الماضي ارتفع عدد ناقلات النفط المنتظرة في مضيق البوسفور. وبينما كانت مخاوف قد أثيرت من اعتبار تعطل عبور الناقلات ضمن تداعيات حزمة العقوبات الجديدة ضد روسيا، ولكنّها إجراءات جديدة فرضتها أنقرة منذ بداية الشهر الجاري تتعلق بالغطاء التأميني، عززت من ارتباك حركة النقل بالمضيق. ولكن أين تقف أنقرة في هذه الأزمة؟ وكيف توازن علاقاتها بين موسكو والغرب؟

ملامح الأزمة

بدأت دول مجموعة السبع وأستراليا ودول الاتحاد الأوروبي تطبيق سقف لسعر النفط الخام الروسي المنقول بحرا عند 60 دولارًا للبرميل في منتصف الأسبوع الماضي، وهو أحدث إجراء غربي لمعاقبة موسكو. ويسمح هذا الاتفاق بشحن النفط الروسي إلى دول أخرى باستخدام ناقلات من دول مجموعة السبع والدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، وشركات التأمين والمؤسسات الائتمانية، وتحت شرط أن تلك الشحنة مشتراة عند السقف المحدد لسعر البرميل أو أقل (60 دولارًا). ومع تلك الشروط، فإن تركيا لديها إجراء منفصل ساري المفعول في 1 ديسمبر من العام الحالي 2022 ما تسبّب في مأزق، فقد أدخلت السلطات التركية متطلبات جديدة تنص على أنه يجب أن يكون لكل سفينة غطاء تأميني لجميع الظروف عند الإبحار عبر المياه التركية أو عندما ترسو في الموانئ، بالإضافة إلى رفض أنقرة جميع الضغوط الخارجية بهدف إجبارها على عبور ناقلات النفط في مياهها الإقليمية، وذلك لعدم تقديم خطابات تأمين مناسبة، فضلًا عن حاجة هيئة الملاحة البحرية إلى إجراء فحوصات إضافية.

وهنا تجب الإشارة إلى أن الطريقة المعتادة للتحقق من التغطية كانت تتم عن طريق البحث على موقع شركة التأمين وإدخال تفاصيل السفينة، ولكن القيام بذلك لا يُرضي السلطات التركية لأنه ليس بالضرورة أن تلك الشحنة تم شراؤها تحت سقف 60 دولارًا، مما يجعل تأمينها غير صالح. ودفع ذلك أنقرة إلى المطالبة بإثبات إضافي في شكل خطاب، وهو أمر قاومته صناعة التأمين لتلك المتطلبات الإضافية، لما يترتب عليه من مسؤولية إذا كانت هناك معلومات غير صحيحة. وتتسبب تكدس السفن في صعوبات وضغوط متزايدة في أسواق النفط العالمية وحركة سير الناقلات.

ومن هنا يمكننا تلخيص الوضع والملامح العامة للأزمة الراهنة في البحر الأسود في النقاط التالية:

● تواجه عمليات نقل النفط الروسي بحرًا أزمة حادة، وذلك مع بدء سريان الحظر الأوروبي على النفط الروسي، في موازاة وضع سقف للسعر لا يتجاوز 60 دولارًا، بحيث يُمنع على مجموعة دول السبع ودول الاتحاد الأوروبي وأستراليا تقديم أي خدمة لناقلات النفط المحملة بالخام الروسي، ويشمل ذلك تأمينه.

● منذ الأول من ديسمبر، بدأت أنقرة تطالب ناقلات النفط والتي تريد عبور مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين تشرف عليهما تركيا، بوثائق تأمين جديدة، بعدما قررت الشركات الدولية إلغاء تأمين العديد من الناقلات بسبب العقوبات المفروضة على موسكو، فدول مجموعة السبع تستحوذ على نسبة أكثر من 90% من بوليصات التأمين للشحنات العالمية، وهو إجراء تهدف به أنقرة إلى حماية مياها الإقليمية وموانئها.

● تكدس أكثر من 28 ناقلة عملاقة وحوالي أكثر من 20 برميل من النفط (مختلف المنشأ).

الأهمية الجيوساسية لمضيقي البوسفور والدردنيل

تمتلك تركيا موقعًا بحريًا يجعلها تتحكم في مضيقين من أضيق الممرات البحرية في العالم، ويعد مضيقا البسفور والدردنيل المخرج الوحيد للسفن الروسية من البحر الأسود المغلق، والذي يتصل مع البحر المتوسط بواسطة هذين المضيقين. حيث يصل مضيق البوسفور بين البحر الأسود وبحر مرمرة، ومياهه مصنفة ضمن مجال الملاحة الدولية، حيث تعد حركة السفن في المضيق واحدة من أهم نقاط الملاحة البحرية في العالم وبالنسبة للنقل البحري يُعد من أهم نقاط المرور في العالم بالنسبة إلى للنقل البحري للنفط الخام حيث يمر به أكثر من 3% من الإمدادات العالمية أي ما يُعادل أكثر من 3 ملايين برميل من النفط يوميًا. أما الدردنيل فهو ممر مائي دولي يربط بحر إيجة ببحر مرمرة، ويعد مع مضيق البوسفور الحدود الجنوبية بين قارة آسيا وأوروبا. كما هو موضح بالشكل التالي.

وفي العودة الى الجذور التاريخية الحديثة لتحكم تركيا بالمضيقين، فيمكننا العودة الى اتفاقية مونترو والتي تم توقيعها في عام 1936 لتنظيم الملاحة في المضائق التركية. وما زالت هذه الاتفاقية سارية المفعول حتى الوقت الحاضر، وهي تعطي تركيا الحقوق الكاملة لممارسة سيادتها على تلك المضائق. موضح بالشكل التالي أهم بنود تلك الاتفاقية.

مواقف دولية مختلفة

  • الجانب التركي:

تطالب تركيا جميع ناقلات النفط القادمة من البحر الأسود وليس الروسية فقط بإثبات خطّي من شركات التأمين لصلاحية التأمين البحري على الناقلات. ولذلك أوضحت أنقرة بأنها مضطرة لطلب عقود التأمين هذه لأنها فضلًا عن كونها ملتزمة باتفاقية دولية، فهي تزيل عن نفسها أية شبهات بأنها تشارك بكين في تخفيف وطأة العقوبات على موسكو أو أنها شريك لموسكو. فيشكل مضيقا البوسفور والدردنيل طريق مرور إلزامية لناقلات النفط الآتية من روسيا، وكذلك للسفن التي تتولى منذ الصيف الفائت نقل الحبوب الأوكرانية في إطار اتفاق بين أوكرانيا وروسيا رعته تركيا والأمم المتحدة. وليست هذه الاشتراطات بالنسبة لتركيا إلا إجراءً احترازيًا لضمان سلامة مياها الإقليمية وموانئها.

  • الجانب الروسي: 

موسكو ليس أمامها إلا توفير عقود التأمين هذه وتشمل تحديد السعر؛ إذ إنها بالفعل تبيع خامها من النفط خلال الفترة الماضية للصين والهند وتركيا بأسعار أقل من حوالي 60 دولارًا للبرميل مع نسب تخفيض مختلفة. وتحديد السعر لا يعني أن موسكو خضعت للقرار الأوروبي؛ وذلك لأنها منذ زمن تبيع للدول الآسيوية بسعر أقل من دول القارة الأوروبية، وحتى وإن خفضت موسكو السعر لأقل من ذلك فهي لن تكون خاسرة، لأن الميزانية الروسية خلال الأعوام الماضية تم وضعها على أساس سعر يتراوح ما بين 40 و45 دولارًا للبرميل.

وكانت روسيا تودع الفوائد النفطية في الأصول الغربية والتي تمت مصادرتها في النهاية، ومن هنا فإذا قدمت موسكو خصومات على النفط فهي لن تخسر وستدفع المشترين إلى لبحث عن سبل لتوفير وثائق تأمين لناقلات النفط الروسي، وستجد هكذا حلولا تدريجية (كما يوضح الشكل التالي مكانة موسكو النفطية في العالم).

ومن هنا نستطيع القول إن الإشكالية ستكون مجرد تعاملات قانونية جديدة تجريها موسكو الآن مع ناقلاتها البعيدة عن التعاون مع الناقلات الأوروبية. وهنا تجب الإشارة إلى إن موسكو أضافت حوالي 103 ناقلات نفط إلى أسطول النقل الخاص بها منذ أوائل العام الحالي، معتمدة في ذلك على شراء بعضها وإعادة توزيع سفن هي في الخدمة بالفعل من إيران وفنزويلا، وهما دولتان تخضعان لعقوبات دولية في قطاع النفط.

وتعمل موسكو على إضافة العديد من الحاويات البحرية إلى أسطول نقل النفط منذ بدء حرب أوكرانيا؛ وذلك بهدف التحايل على العقوبات الأوروبية، وهو ما يطلق عليه اسم أسطول الظل. وبشكل عام، شركات التأمين الروسية على استعداد تام بتزويد السلطات التركية بوثائق التأمين وهو ما يُفسر عن عدم تأخير الناقلات الروسية عند مضيق البوسفور.

  • الجانب الأمريكي:

صرحت كارين جان بيير المتحدثة باسم البيت الأبيض بأنه لا يوجد نفط روسي على جميع الناقلات العالقة في مضيقي البوسفور والدردنيل، ولا تسمح أنقرة بمروره عبرهما. وفي تعلقيها على قرار تركيا بعد دخول تحديد سقف أسعار النفط الروسي حيز التنفيذ بعدم السماح بمرور ما لا يقل عن 20 ناقلة نفط تحمل ما مجموعه 20 مليون برميل من النفط، قالت “اتصلنا بتركيا، قائلين إن سقف السعر ينطبق فقط على النفط الروسي، وأوضحنا أن الحد الأقصى لا يتطلب عمليات تفتيش إضافية للسفن التي تمر عبر المياه التركية، حسبما فهمنا، فإن جميع الناقلات التي تتأخر أنقرة في نقلها تقريبًا”، وأضافت النفط ليس من روسيا، والقيود لا تنطبق عليه. وفى نفس السياق قالت جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية، إن الإدارة الأمريكية لا تعتقد أن لروسيا أي علاقة بقرار أنقرة بعدم السماح بمرور 20 ناقلة تحمل ملايين البراميل من النفط على متنها.

  • الجانب الكازاخستاني:

أشارت كازاخستان، الأربعاء الماضي إلى أن تكدس ناقلات النفط في مضيق البوسفور أمر طبيعي خلال فصل الشتاء، حيث صرحت وزارة الطاقة الكازاخستانية، في بيان لها، بأن انتظار ناقلات النفط في مضيقي البوسفور والدردنيل حاليًا يصل إلى 6 أيام، وأكدت أن هذه مدة الانتظار المعتادة خلال فصل الشتاء، ففي العام الماضي 2021 وصلت مدة الانتظار في المضيق خلال ديسمبر حوالي 14 يومًا. وتشحن كازاخستان النفط الخام من الموانئ الروسية على البحر الأسود، ولا يخضع النفط القادم منها لحظر الاتحاد الأوروبي أو السقف السعري.

  • الجانب الأوروبي:

تقود المملكة المتحدة مفاوضات مع السلطات التركية لإعادة النظر في الإجراءات الإضافية المتعلقة بالتأمين التي تفرضها أنقرة على السفن التي تنقل النفط غير خاضع للعقوبات، من قبيل النفط القادم من كازاخستان. ومن جهة أخرى، انتقد مسؤولون غربيون الإجراءات الجديدة التي فرضتها أنقرة على الناقلات التي تحمل النفط غير الخاضع للعقوبات الغربية، وأن إجراءات أنقرة غير ضرورية؛ فمعظم السفن التي تنتظر العبور محملة بنفط مصدره الأصلي هو كازاخستان، وأن هذه الناقلات لا يجب أن تخضع لسقف الأسعار (المفروض على النفط الروسي) تحت أي سيناريو، ولا يجب إجراء أي تغيير في قواعد التأمين التي كانت مفروضة عليها خلال الأسابيع والأشهر السابقة. وهو إجراء لا تستطيع شركات التأمين الأوروبية تنفيذه حيث لا يمكنها تزويد السلطات التركية بوثائق التأمين فقد يُعرضها للعقوبات الأوروبية إذ لم تتوافق الحمولة مع القواعد الأوروبية الجديدة.

ختامًا، هل تصبح أنقرة بمثابة حجر عثرة أمام الخطة الأوروبية المعقدة والتي تشهدها لأول مرة أسواق النفط العالمية والتي تهدف إلى حرمان روسيا من عائدات النفط في حربها على أوكرانيا، وذلك مع استمرار ارتفاع عدد الناقلات التي تنتظر الخروج من البحر الأسود عبر مضيقين تركيين، بالإضافة إلى رفض تركيا إلغاء قاعدة فحص التأمين الجديدة التي طبقتها في بداية الشهر الحالي على الرغم من تعرضها على مدى أيام لضغوط دولية؟ وفى الأخير، قد تؤدي محاولات التكتل الغربي لإبعاد النفط الروسي عن الأسواق العالمية إلى تعقيد المشهد العالمي للنفط وتكدس ناقلات النفط في مياه البحر الأسود (بغض النظر عن من المتسبب) قد يكون المتضرر الأول هو كبرى شركات النفط الأوروبية؛ لأن ناقلات النفط الكازاخستاني بشكل كبير تتعامل مع تلك الشركات.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74474/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M