الأقنعة تسقط في السودان بعد الانقلاب العسكري

ألبرتو فرنانديز

 

قبل الانقلاب الأخير في السودان، كان التحول الديمقراطي في البلاد مهماً ليس فقط لأفريقيا، بل للشرق الأوسط أيضاً، الذي رزح تحت وطأة عمليات انتقالية ديمقراطية مخيبة للآمال. ويبدو أن كل ما سعت إليه إدارة بايدن في السودان قبل يومين من الانقلاب، عندما زارها المبعوث الأمريكي الخاص جيفري فيلتمان، إما كانت له نتائج عكسية أو، على الأرجح، أثبت أنه غير ذي صلة بمؤامرة كانت تحاك أساساً بينما كان فيلتمان يلتقي بالجنرالات.

بعد عامين ونصف من سقوط الديكتاتور عمر البشير، شهد السودان انقلاباً عسكرياً آخر. فقد نفّذ الجنرالات تحركهم بعد أقل من ثمان وأربعين ساعة على زيارة المبعوث الأمريكي الخاص جيفري فيلتمان، وبدأوا بعملية الاستيلاء على السلطة التي يبدو أنها حققت نجاحاً في الوقت الحالي. وقد اعتقلت السلطات العسكرية وزراء في الحكومة وأعضاء في الحكومة المدنية الانتقالية، وأقالت الولات، ووضعت رئيس الوزراء عبدالله حمدوك قيد الإقامة الجبرية في منزله، وقطعت الاتصال بالإنترنت، واستحوذت على وسائل الإعلام الحكومية، وأعلنت حالة الطوارئ.

وفي خطاب موجّه إلى الأمة في 25 تشرين الأول/أكتوبر، برر قائد الانقلاب الجنرال عبد الفتاح البرهان أفعاله وكرر التزامه بـ “المسار الدستوري” وبـ “اتفاق جوبا للسلام” لعام 2020 المبرم مع مختلف الجماعات المتمردة. وفي هذا السياق، دعا آخر رموز التمرد – عبد الواحد النور، رئيس “حركة تحرير السودان” ومقرها دارفور وعبد العزيز الحلو قائد “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” المقيم في جبال النوبة جنوبي كردفان – إلى الانضمام إلى عملية السلام والمساعدة في الخطوة معاً نحو “سودان جديد … جوهره الحرية والسلام والعدالة”. وسعى البرهان، الذي كان سابقاً القائد الفعلي للدولة قبل أن يقود الانقلاب، إلى تصوير التحرك العسكري على أنه “تصحيح” للعملية الانتقالية، مشدداً على أن الثورة كانت في خطر ومتعهداً بتعيين حكومة تكنوقراطية ستقود البلاد إلى انتخابات ديمقراطية في تموز/يوليو 2023. ومع ذلك، فإن السؤال الأساسي الذي يجب حسمه في شوارع السودان خلال الأيام القادمة واضح: هل سيرسخ الجيش حكمه بما يكفي لتشكيل حكومات وإقالتها على المدى الطويل، أم ستتراجع سلطتها بالتوافق مع إطار العمل الذي يحدد معالم الانتقال الديمقراطي في فترة ما بعد البشير؟

خلال الأسبوع الماضي، شهد السودان تظاهرات شعبية حاشدة دعماً للحكومة المدنية وإحياءً لذكرى انتفاضة عام 1964، التي أطاحت بالدكتاتور الأول في البلاد إبراهيم عبود. ومع انتشار خبر الانقلاب الحالي، اندلعت احتجاجات متفرقة متوعدةً بمواصلة التحرك. وفي هذا الإطار، دعا محمد ناجي الأصم – أحد القادة الرئيسيين في “تجمع المهنيين السودانيين”، الذي شارك في التظاهرات التي أطاحت بنظام البشير الإسلامي – إلى معارضة سلمية للتحرك العسكري. وأثبتت حركة المجتمع المدني المنظمة في البلاد قدرتها على الصمود والإبداع في مواجهة قمع النظام الوحشي في الماضي، رغم أنها تواجه حالياً أكبر تحدٍ لها منذ أوائل عام 2019.

ما الذي أدى إلى الانقلاب؟

منذ بعض الوقت، كانت تبرز عدة مؤشرات تنذر بالخطر المحدق بالعملية الانتقالية الهشة التي تشهدها البلاد. ففي 21 أيلول/سبتمبر، أعلنت الحكومة أنها أحبطت محاولة انقلاب نفذها جنرال آخر في الجيش، هو عبد الباقي البكراوي، الذي من المفترض أنه كان يعمل بالتنسيق مع عناصر موالية للبشير. وفي غضون ذلك، اندلعت سلسلة من المظاهرات ذات توقيت مثير للريبة وقيادة غامضة في المنطقة الساحلية، أشادت خلالها نخبة من شعب البجا وغيره من الفصائل، بالجيش السوداني، ودعت إلى تغيير الحكومة المدنية وسط عرقلة التجارة وإمكانية النفاذ إلى المرفأ. كذلك، نادت حشود محدودة بالمطالب نفسها في الخرطوم. وكان الشعور واضحاً بأن الخناق يضيق وأن هناك أيادٍ خفية تعمل [على جر السودان للفتنة].

وفي 19 تشرين الأول/أكتوبر، ظهرت أدلة إضافية على وجود مؤامرات، عندما أعلن “فيسبوك” أنه يقوم بتعطيل شبكتين كبيرتين للتواصل الاجتماعي تستهدفان مستخدمين داخل السودان. وكانت إحداهما مرتبطة بـ”قوات الدعم السريع” بقيادة الجنرال الطموح محمد حمدان دقلو (“حميدتي”)، الذي يشغل منصب نائب البرهان ويُعتبر رجلاً قوياً حقيقياً في الجيش. وكانت الشبكة الأخرى مرتبطة بالموالين للبشير وتضم أكثر من مائة حساب مع نحو 1.8 مليون متابع. ويشير هذا النشاط إلى وجود مؤامرة منذ مدة طويلة من قبل العناصر العسكرية والمخربين الإسلاميين لتقويض حكومة حمدوك الإصلاحية.

وبالفعل، من خلال الإطاحة برئيس الوزراء، قام مدبرو الانقلاب بطرد موظف مدني دولي محترم كان قد أحرز تقدماً ملحوظاً في وضع حدّ لعزلة السودان بعد ثلاثة عقود من الحكم الديكتاتوري الإسلامي. وقد ضمنت البلاد أخيراً شطبها من “قائمة واشنطن للدول الراعية للإرهاب” واتخذت خطوات مهمة نحو الإصلاح الاقتصادي الذي صادق عليه كل من “البنك الدولي” و “صندوق النقد الدولي”. كما ألغى حمدوك قوانين من عهد البشير ترتبط بالتجديف ومراسيم تتعلق بـ “النظام العام” كانت تنظم زي النساء، وتغطية شعرهن، وتنقلهن علناً. وفي العام الماضي، شارك علناً بالذكرى السنوية لاستشهاد الإصلاحي الليبرالي الإسلامي محمود محمد طه، الذي أُعدم بتهمة الكفر في عام 1985 على يد نظام إسلامي سابق. وتكتسي هذه التفاصيل أهمية لأن إحدى السرديات التي تروّج لها عناصر موالية للجيش تقوم على أن الجنرالات تدخلوا “لإنقاذ” السودان نوعاً ما من الموالين للبشير. ولا يزال هؤلاء الموالون الإسلاميون متواجدين بالتأكيد، لكن حمدوك لم يكن واحداً منهم.

التداعيات السياسية

بسبب وقوع الانقلاب بعد وقت قصير من قيام المبعوث الأمريكي الخاص بتهدئة التوترات على ما يبدو بين المسؤولين المدنيين والجيش، فإنه يشكل تحدياً مباشراً لواشنطن. ولا بدّ من شعور المتآمرين بالتشجيع من الحلفاء الإقليميين، الذين يبدو أنهم أقنعوهم بأن التداعيات تحت السيطرة، وأن خطتهم لإقامة “حكومة مدنية تكنوقراطية” ستقنع في النهاية قسماً كبيراً من المجتمع الدولي لإبقائهم في السلطة والحصول على مساعدات أجنبية كافية. ولتسهيل بلوغ هذه النتيجة، قد يحاول الجيش أو رجال الواجهة من المدنيين التابعين له اتخاذ خطوات دبلوماسية رفيعة المستوى، مثل إرسال البشير أخيراً إلى “المحكمة الجنائية الدولية” في لاهاي أو عقد سلام علناً مع إسرائيل (علماً بأن حكومة حمدوك كانت تدرس أساساً هذين المسارين بشكل حذر).  

وعلى افتراض أن يتمكّن الجنرالات من الصمود في وجه الغضب الشعبي، سيتعين عليهم أيضاً تشكيل حكومة مدنية ذات مصداقية. وذلك يمثل معضلة لهم: فإذا استمر الحكم والأرقام الاقتصادية في التراجع أو الازدياد سوءاً، فلن يستطيعوا بعد الآن إلقاء اللوم على المدنيين الذين أطاحوا بهم للتو. وسيتعرض المجلس العسكري لضغوط شديدة لتقديم أداء أفضل من حمدوك في هذه القضايا، ولن يتمتع قادته سوى بالقليل من الشرعية العامة على الرغم من الجهود التي يبذلونها لتبني خطاب الشباب والثوار في السودان.

وبالتالي، سيتم الكشف في الأسابيع المقبلة عن الحكومات العربية في المنطقة ورجال السياسة السودانيين الذين يدعمون الحكم العسكري الجديد، وفي غضون ذلك، على واشنطن والأطراف الأخرى أن توضح أن هناك تداعيات لدعم نظام مخادع. وحتى الآن، لم تصدر أي تعليقات علنية أولية من القاهرة والدوحة وأبوظبي والرياض. لكن من الضروري على كافة هذه الدول أن تُقيم توازن بين الأجندات الفردية التي أعدّتها للسودان وعلاقاتها المعقدة مع الغرب.

إلا أن أمراً واحداً مؤكد: لن يعرف السودان الاستقرار إذا تجاهل قادته المصالح المعلنة للحكومات الغربية والمتظاهرين الذين احتشدوا في الشوارع قبل أسبوع واحد فقط. وللمرة الثانية في التاريخ السياسي الحديث للبلاد، أدّت المخاوف بشأن عدم الاستقرار، إلى دفع الجنرالات الحاكمين الذين لا يحظون بشعبية إلى اعتماد الإسلام السياسي كوسيلة للحصول على بعض الشرعية. بالإضافة إلى ذلك، إن القيادة العسكرية الحالية منقسمة – فربما لا يبسط البرهان سلطته الكاملة أو ربما يكون قد دخل في منافسة مع خصومه العسكريين، في حين ابتعد حميدتي عن الأضواء بشكل مريب منذ الانقلاب.

وعلى المدى القريب، تفتح الإطاحة بحمدوك صداماً علنياً مع الإدارة الأمريكية التي حاولت بالفعل مساعدة السودان – رغم أنه كان بإمكان فريق الرئيس بايدن اتخاذ المزيد من الإجراءات وبصورة عاجلة لدعم تصريحاته المؤيدة التي تدعم حقوق الإنسان والديمقراطية. ويرى الكثيرون في المنطقة حالياً أن الإدارة الأمريكية تتسرع في انسحابها من عدة جبهات، على الرغم من تأكيداتها عكس ذلك.

وعلى أي حال، من المرجح أن تكون المواجهة التي تختمر هي حول نموذج التصعيد الذي غالباً ما مارسه نظام البشير، والذي كان البرهان وحميدتي جزءاً منه قبل أن يشاركا في الإطاحة به. ونتيجة لذلك، ستتخذ الخرطوم قراراً شائناً، وسيعمل المجتمع الدولي على إشراكها في محاولة لجعل القرار أقل سوءاً. وتمثلت النتيجة المعتادة بالتركيز على “العملية” بدلاً من النتائج الفعلية، مما منح النظام متنفساً حيوياً مراراً وتكراراً. وقد تواجه إدارة بايدن الفخ المحتمل نفسه خلال الأسابيع القليلة المقبلة إذا علّق الجنرالات احتمال تشكيل حكومة عميلة مدنية بديلة.

وقبل الانقلاب، كان التحول الديمقراطي في السودان مهماً ليس فقط لأفريقيا، التي شهدت عدة انقلابات عسكرية في عام 2021، بل أيضاً للشرق الأوسط، الذي رزح تحت وطأة عمليات انتقالية ديمقراطية مخيبة للآمال في الجزائر وتونس والعراق فضلاً عن الكوارث غير المحدودة التي أصابت سوريا ولبنان وليبيا واليمن. وبهذا المعنى، فإن أزمة الشعب السوداني هي أيضاً أزمة للدبلوماسية الأمريكية. ويبدو أن كل ما سعت إليه إدارة بايدن في السودان قبل يومين من الانقلاب إما كانت له نتائج عكسية أو، على الأرجح، أثبت أنه غير ذي صلة بمؤامرة كانت تحاك أساساً بينما كان فيلتمان يلتقي بالجنرالات.

إن أفضل مسار عمل يمكن لواشنطن اعتماده الآن ليس التردد، بل اتخاذ موقف صارم وواضح ضد حكم العناصر النافذين في الجيش السوداني (ومساعديهم المدنيين حالما تنكشف هويتهم). وقد تمّ أساساً اتخاذ خطوات أولية في هذا الاتجاه، حيث علّقت إدارة بايدن المساعدات الثنائية وأدانت الجيش علناً. بالإضافة إلى ذلك، يجب تحذير الجنرالات بهدوء بأن الأمور قد تزداد سوءاً بالنسبة لهم إذا زاد الوضع على الأرض تدهوراً. وبالتالي، فإن انتهاج مبدأ أخلاقي خلال الفترة القادمة – أي الدفاع الكامل عن الثورة الديمقراطية التي شهدها السودان عام 2019 والعملية الانتقالية المقيّدة – هو أيضاً أفضل ما يمكن للسياسة الأمريكية فعله.

ألبرتو فرنانديز هو نائب رئيس “معهد الشرق الأوسط لبحوث الإعلام” (“ميمري”) والرئيس السابق للبعثة الأمريكية في السودان.

 

.

رابط المصدر:

https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alaqnt-tsqt-fy-alswdan-bd-alanqlab-alskry

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M