التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج | الدلالات والخيارات

بدأت الولايات المتحدة التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج، حيث نقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن مسؤولين أمريكيين أن واشنطن قررت سحب ثمان بطاريات باتريوت من عدد من الدول العربية، بينها السعودية والكويت، ومئات الجنود المشرفين على هذه المعدات.

الأمريكية سحب النظام الدفاعي المضاد للصواريخ والأهداف الجوية، المعروف بـ”ثاد”، من السعودية، وتقليص أسراب المقاتلات النفاثة، وتبحث واشنطن خفض الوجود البحري الأمريكي قريباً.

تحاول إدارة بايدن إعادة توزيع القوة العسكرية خارج المنطقة، والتركيز على التحديات الروسية والصينية، والعودة بالوضع إلى ما كان عليه قبل حكم دونالد ترامب، وهذا ما سيزيد من انكشاف المنطقة، ويضعنا أمام عدد من الأسئلة عن سيرورة هذا التخفيض وسياقاته والخيارات السياسية في مواجهة التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج.

سيرورة التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج 

يأتي القرار الأمريكي بتخفيض منظومة الدفاع الجوي بعد حوالي ثلاث سنوات من إرسال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب منظومة الدفاع الجوي “باتريوت” لمواجهة أي تصعيد محتمل مع إيران على خلفية انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، وما أعقب ذلك من تصعيد عسكري في مياه الخليج، واتهامات أمريكية لإيران بالوقوف وراء ذلك.

وقد عملت الإدارة الأمريكية على ترسيخ حضورها العسكري في المنطقة لمواجهة التصعيد الإيراني، ثم عززته عقب مقتل القيادي في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020، على إثر ذلك أرسلت الإدارة الأمريكية السابقة، بقيادة دونالد ترامب، منظومة بطاريات “باتريوت”، في العام 2020، لمواجهة أي تصعيد إيراني محتمل.

وفي خضم هذا التوتر والهجمات التي تشنها الجماعات الموالية لإيران على السعودية قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب جزء من قوات بلاده في المنطقة وتوجيهها إلى مناطق أخرى، ففي مايو/أيار 2020 سحبت الولايات المتحدة بطاريتي صواريخ باتريوت وطائرات مقاتلة وعسكريين أمريكيين من السعودية كانت أرسلتهم عقب الهجوم على منشآت النفط في سبتمبر/أيلول 2019، وهو ما فهم على أنه رسالة محلية من ترامب في ظل التنافس الانتخابي.

الرئيس جو بايدن أكد منذ انتخابه أن واشنطن ستعيد تقييم العلاقات مع السعودية، وستعمل على إنهاء الحرب الدائرة في اليمن منذ 2014، وهو ما باشر القيام به، حيث تحولت مسألة التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج من تكتيك انتخابي وابتزاز اقتصادي في عهد ترامب إلى استراتيجية أمنية في عهد بايدن.

في التعليق على التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج تؤكد الإدارة الأمريكية استمرار حماية حلفائها في المنطقة، حيث قالت وزارة الدفاع الأمريكية إن وزير الدفاع، لويد أوستن، أمر بأن يتم خلال هذا الصيف سحب بعض القوات والقدرات من المنطقة، مضيفة أن الأمر يتعلق بشكل رئيسي بمعدات دفاع جوي، وتابعت المتحدثة باسم وزارة الدفاع، جيسيكا ماكنولتي: “بعض هذه المعدات سيعاد إلى الولايات المتحدة للصيانة والإصلاحات التي أصبحت ضرورية للغاية، وبعضها الآخر سيُنقل إلى مناطق أخرى”.

الاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة

يبدو أن الاستراتيجية الأمريكية التي أعلنتها الإدارة الأمريكية الجديدة لا تضع ضمن أولويتها الحماية العسكرية للمنطقة، بعد أن كانت تمثل أولوية لدى الأنظمة الأمريكية السابقة، التي عملت على الموازنة بين التحديات التي تتعرض لها أمريكا، والتحديات الأخرى التي تتعرض لها المنطقة، وإن كانت الوثيقة نصت على مواجهة التهديدات الإيرانية، لكنها تؤكد على التخفف من الحلول العسكرية في المنطقة، والتركيز على التفاهمات الدبلوماسية، ومن أبرز ملفاتها:

1-  مواجهة التهديدات الكبرى (جائحة كورونا، وأزمة المناخ، والتهديدات الإلكترونية، وروسيا والصين).

2-  الحضور العسكري القوي في منطقة المحيط الهادئ وأوروبا.

3-  استبعاد الحل العسكري لأزمات الشرق الأوسط.

4-  العناية بأمن الكيان الإسرائيلي وتشجيع الحوار بينه وبين دول المنطقة.

5-  الترويج للديمقراطية.

6-  مواجهة التنظيمات الإرهابية ومنع عودتها إلى سوريا والعراق.

يظهر أن وثيقة الأمن القومي الأمريكي المؤقتة مقدِّمة للاستراتيجية الشاملة للأمن القومي الأمريكي، وتعطي الأولوية العسكرية للمحيطَين الهندي والهادئ وأوروبا، حيث سيكون الحضور العسكري فيها أكثر قوة من الحضور في المنطقة، بناء على أن الصين تمثل المنافس الأول الأكثر تنظيماً، تليها روسيا التي تسعى لنظام عالمي متعدد الأقطاب، وترسم الإدارة الأمريكية معالم صراع متعدد الجوانب مع الصين وروسيا تتداخل فيه كل المجالات؛ السياسية والعسكرية والتكنولوجية والاقتصادية.

وبخصوص المنطقة يبدو أن الإدارة الأمريكية أكثر رغبة في الترويج للديمقراطية والحلول السلمية والتفاهمات الدبلوماسية، وتعترف ضمناً بفشل نشر مشروعها بالقوة في المنطقة، وتسعى لتخفيف وجودها العسكري مقابل الضغط الدبلوماسي أكثر، وهذا ما سيكشف المنطقة أكثر على مزيد من التدخل الخارجي، واستغلال الفراغ الذي أحدثه ضعف الحضور الأمريكي.

سياقات التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج

التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج يأتي متزامناً مع بعض الأحداث الدولية والإقليمية، وهو ما يصعب معه فصل مسألة الانسحاب عن القضايا السياسية المرتبطة به، ومن أهمها:

مفاوضات العودة للاتفاق النووي       

لا تزال المفاوضات النووية في فيينا متواصلة، وتقول الخارجية الأمريكية إن هناك تقدماً في المحادثات، في حين تصر طهران على تقديم ضمانات لعدم الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، ويبدو أن إدارة بايدن مستعدة لتقديم تلك الضمانات، وبعْث رسائل إيجابية لطهران، من خلال التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج، الذي يبدو أن من ضمن أهدافه إرسال عدد من الرسائل إلى طهران فحواها أن واشنطن حريصة على خفض التصعيد مع طهران، أملاً في التوصل إلى تفاهمات نووية.

المفاوضات اليمنية 

المفاوضات اليمنية غير المباشرة لا تزال قائمة وإن كانت تخفت بين حين وآخر، لكن في ظل الحرص الأمريكي على حل القضية اليمنية سلمياً فإن المفاوضات يبدو أنها مستمرة حتى الوصول إلى صيغة توافقية للحل، يقابل ذلك تعنت جماعة الحوثي في قبول المقترحات الأممية، والتصعيد المستمر، سواء عن طريق الهجمات المتكررة على السعودية، أو التصعيد باتجاه مأرب. والتخفيض العسكري الأمريكي في الخليج في ظل هذا الواقع غير المحسوم يثير عدداً من التساؤلات حول جدية الإدارة الأمريكية في الوفاء بوعودها التي ترددها دائماً عن أمن المنطقة والوقوف مع الحلفاء، ويحول تلك الوعود إلى مجرد استهلاك مؤقت، يتيح للجماعة الحوثية استثمار هذا الواقع أكثر، ومحاولة الضغط العسكري في الميدان لتحقيق مطالبهم السياسية على طاولة المفاوضات. ويبدو أن الإدارة الأمريكية يهمها إيقاف المعركة العسكرية لكن لا يخيفها أن تأتي النتائج لمصلحة الحوثيين، وقد تُقدم تسهيلات للحوثيين مقابل ذلك كما حدث عند إخراجهم من قائمة الإرهاب.

قمة الناتو

تحاول الإدارة الأمريكية تفعيل حلف شمال الأطلسي أكثر، وقد جاءت القمة الأخيرة التي عقدت في بروكسل في 14 يونيو/حزيران الجاري، لتعيد تأكيد أولويات الإدارة الأمريكية، واستنهاض الحلفاء لمواجهة التحديات الجديدة، وبناء تحالفات عالمية أوسع وأقوى من تحالفاتها في المنطقة، وبعث رسائل قوية إلى أوروبا بأن أمريكا معها في مواجهة التحديات الصينية والروسية.

الخيارات العسكرية بعد التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج     

التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج لا يعني الغياب الكلي عن المنطقة، بقدر ما يعني تغيير الأولويات، وهذا الأمر ستكون له تبعاته العسكرية والأمنية، حيث من المفترض أن يفتح المجال لمزيد من التدخلات الإيرانية، ويضع المنطقة أمام تحديات واضحة، ومن المفترض ألا ترتهن المنطقة بالجملة للخيار الأمريكي الذي يظهر أن أولوياته قد تغيرت، وهذا ما يدعو دول مجلس التعاون الخليجي إلى الشروع في تنويع تحالفات منظومة حماية أمنها القومي، وفق الخيارات الآتية:

الخيار الروسي  

يُفَعِّل الجانب الروسي مساعيه لتعزيز علاقته بدول الخليج، ويعمل على استثمار الفراغ، والدفع بعلاقته السياسية والاقتصادية إلى أبعد مستوى، ويبدو أن التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج يغري موسكو بمضاعفة الجهود، لكن موسكو غير مستعدة للضغط على إيران وأدواتها في المنطقة في ظل التقارب بينهما، وهذا الأمر تستوعبه دول الخليج تماماً، ويمكن أن يشكل أي تقارب خليجي روسي فرصة لمصلحة إيران.

الخيار الصيني 

الصين شريك اقتصادي لعدد من دول الخليج، وهي تعد خياراً اقتصادياً مغرياً لدول الخليج، لكن الصين وعلى الرغم من محاولتها الموازنة في علاقتها بين الخليج وإيران قد تقدم الجانب الإيراني فيما يتعلق بإنتاج السلاح وتوسيع التمدد في المنطقة على حساب دول الخليج، ما يعني تهميش الدور الخليجي، وعلى الرغم من العلاقات الاقتصادية التي تربط الصين بدول الخليج فإن الاتفاقيات الصينية مع الجانب الإيراني أقوى.

الخيار التركي

يبدو أن الرياض لم تكن مستعجلة على التقارب مع تركيا واستثمار فرصة تطمينات أنقرة، إلا أن المتغيرات الدولية والإقليمية تدعوها لمزيد من التقارب، وتوقيع اتفاقيات أمنية مشتركة، خصوصاً أنهما لن يستفيدا من زيادة التوتر أو برود العلاقة، كذلك الأمر بالنسبة لبقية دول الخليج المتضررة من التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج، وعلى الرغم من تأزم العلاقات بين السعودية وتركيا في الفترات السابقة، فإن ثمة ملفات تدعو للتقارب، فالمشتركات في مجملها تقرب بين البلدين أكثر، وبعض الملفات تنتهي بمرور الوقت، خصوصاً الخلاف الخليجي ومرحلة الاستقطابات الإقليمية عقب ثورات الربيع العربي وما تلاها من إفرازات، والتي بدأت تركيا بتجاوزها.

الخاتمة

قرارات التخفيض العسكري الأمريكي في الخليج تأتي في ظل عدد من الملفات السياسية والعسكرية المفتوحة، وخصوصاً التمدد الإيراني والتصعيد العسكري للحوثيين ضد المملكة، والتي تمثل في مجملها إزعاجاً للمنطقة، وفي مقابل ذلك يتم تصدير الكيان الإسرائيلي لمواجهة التمدد الإيراني، لكنه في الحقيقة كيان خارجي غير منسجم مع الواقع العربي، وخصوصاً مع دولة بحجم السعودية، وسيقزم من موقعها الإسلامي، ويبدو أن الموقف السعودي أبعد ما يكون عن التورط في علاقة مع الكيان الإسرائيلي، نظراً لحساسيته العالية، ويظهر أن الخيارين الروسي والصيني وإن حاولا استغلال الانزعاج الخليجي وتقديم البدائل، فإن عمق علاقتهما مع إيران يدفع باتجاه زيادة التمدد الإيراني في المنطقة.

المنطقة العربية عموماً، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وحتى تتمكن من تعزيز قدراتها الذاتية فإنها تحتاج لإعادة تصنيف الحلفاء وفقاً لمحددات استراتيجية لا لإشكاليات طارئة يمكن معالجتها، باعتبار أن دول المنطقة العربية وتركيا في موضع الاستهداف الدائم، وهو ما يوجب على دول المنطقة تبني استراتيجية مشتركة لتعزيز أمنها القومي، وبناء على ذلك يعد الخيار التركي من أقرب الخيارات وأقلها سلبية، وقد شرعت تركيا في التقارب مع عدد من الدول الإقليمية وأغلقت عدداً من ملفات القطيعة، وهذا الأمر يدعو لمزيد من الاستثمار الخليجي لهذا التقارب، وخصوصاً من دولة بحجم المملكة العربية السعودية.

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M