الدبلوماسية الإقليمية:مبادرات تسوية الصراع في شرق الكونغو

شيماء البكش

 

تتعدد المبادرات والجهود الإقليمية الرامية إلى تهدئة التوترات المتصاعدة في شرق الكونغو، منذ عودة نشاط حركة 23 مارس منذ نوفمبر 2021. ورغم تعدد المبادرات لا تزال الحركات المسلحة مستمرة في نشاطها مع استمرار الشكوك وتبادل الاتهامات بين دول الجوار الإقليمي، خاصة رواندا والكونغو الديمقراطية، بما يؤثر على فاعلية الجهود المبذولة لاستعادة الثقة وتهدئة الأوضاع.

أولًا: الجهود الإقليمية المتعددة

تبدو المحادثات الأخيرة التي استضافتها بوروندي أحدث التحركات الجماعية وسط الشكوك المثارة حول فاعلية مبادرتي نيروبي ولواندا اللتين لم تُسهما حتى الآن في تهدئة الأوضاع. ويمكن استعراض أبرز الجهود والمشهد العام في إقليم البحيرات الكبرى على النحو التالي:

  1.  محادثات بوروندي:

مع إثارة الشكوك حول فاعلية عمليتي نيروبي ولواندا، استضافت العاصمة البوروندية بوجومبورا في 4 فبراير 2023، قمة استثنائية بعنوان “تعميق التكامل وتوسيع التعاون” عقدتها مجموعة شرق إفريقيا لإيجاد سبيل للتهدئة، خاصة مع التحديات التي تواجه قوة شرق إفريقيا على الأرض مع استمرار تقدم الجماعات المسلحة، مما عرّض القوة لانتقادات السكان المحليين واتهامات الرئيس فيليكس تشيسكيدي لأداء القوة وتحفظه على مشاركة جنود قوات الدفاع الرواندي بها، لما يثار من شكوك واتهامات لانخراط رواندا في دعم حركة 23 مارس المزعزعة للاستقرار في شرق الكونغو.

وبدوره، اعترف الرئيس الكيني، وليام روتو، باستمرار الاضطرابات رغم نشر القوة الكينية ضمن القوة الإقليمية المشتركة لشرق إفريقيا، مما يبرهن على ادعاءات الكونغو بتباطؤ جهود القوة والتي أرجعها الرئيس الكونغولي للحسابات السياسية بين الدول الإقليمية. ودعت القمة إلى وقف فوري لإطلاق النار وانسحاب كافة الحركات المسلحة مع توجيه قادة الجيوش للاجتماع في غضون أسبوع لوضع جداول زمنية للانسحاب، مع أهمية تعزيز عملية الحوار والسلام. وتم الإجماع كذلك على احتمالية استخدام القوة المشتركة القوة لتأكيد انسحاب الحركات المسلحة إذا لزم الأمر.

ومن المفترض تولى الرئيس البوروندي “إيفاريست نداييشيمي” قيادة آلية الرقابة الإقليمية ROM وهي بعثة إقليمية مدعومة من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في منطقة البحيرات الكبرى تهدف إلى المساعدة في إنهاء العنف؛ وذلك لضمان تنفيذ ومتابعة ما اتفق عليه، بخلاف المبادرات السابقة التي لم يلتزم في أعقابها الأطراف بتعهداتهم، إذ استمرت حركة 23 مارس في مناطق سيطرتها، رغم تعهدها بالانسحاب من بلدة ” كيبومبا” في ديسمبر 2022 ومعسكر رومانجابو العسكري في 5 يناير.

كذلك فإن ضمانات التنفيذ باتت تحتل أولوية، بعدما أخفقت عمليتي نيروبي وخارطة طريق لواندا في حمل الأطراف على الالتزام بالأهداف والتعهدات، إذ واصلت الحركات التوسع في المناطق المحتلة رغم إقرار عمليتي نيروبي وخارطة طريق لواندا بانسحاب الجميع بحلول 15 يناير 2023.

  1.  عملية نيروبي:

هي واحدة من المبادرات السابقة على القمة الأخيرة، والتي دعت إليها كينيا تحت مظلة مجموعة شرق إفريقيا في يونيو 2022 والتي انتشرت أولى دفعة من قواتها إلى “جوما” في نوفمبر 2022، مستهدفة ربط المشاورات السياسية بالعمل العسكري، بما جعل التقدم في العمليات العسكرية في شمال وجنوب كيفو سابق على العملية السياسية التي لم تسهم حتى الآن في حسم التوترات.

وجاءت هذه المبادرة من كينيا التي تحظى بقبول نظرًا لعدم تورطها في شرق الكونغو، مما دفع الرئيس السابق أوهورو كينياتا قبل مغادرة منصبه، التوسط لتهدئة الأوضاع بين الدول الإقليمية، وخاصة رواندا والكونغو. وتدعو هذه العملية إلى وقف إطلاق النار وتسريح الجيوش، والتي يشارك بها حوالي 600 جندي بوروندي ومن المتوقع وجود 750 جنديًا سودانيًا، والمفترض أن الضباط الروانديين هم جزء من القوة، رغم مطالبة الكونغو بانسحابهم. وتتعاون هذه القوة مع بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في الكونغو التي تنال عداء السكان المحليين.

 وبينما تركز عملية لواندا على الحوار السياسي بين الكونغو ورواندا- تذكيرًا بإطار السلام والأمن والتعاون الموقع في عام 2013، تركز عملية نيروبي على التدخل العسكري لضمان وقف إطلاق النار والتزام الجماعات المسلحة ببرنامج نزرع السلاح. ورغم ذلك، تثار الملاحظات على أداء القوة الإقليمية، التي تشارك بها القوات الأوغندية والبوروندية صاحبتا السجل التاريخي في شرق الكونغو، إلى جانب مشاركة قوة من جنوب السودان التي تعاني من التوترات الأمنية إلى جانب قوات رواندية التي تتبادل الاتهامات مع الكونغو على الدعم المتبادل للحركات المسلحة.

ورغم ترحيب السكان المحليين في بداية تشكيل القوة، إلا أن القوات المشتركة في مدينة ” جوما” في 18 يناير 2023 وقبل المحادثات الأخيرة في بروندي، فرقت مظاهرات محلية منددة بتقاعس القوات الكينية منذ قدومها في نوفمبر، مما يعكس الأداء المتحقق للقوات الإقليمية المشتركة.

وقد سبق هذا المشهد، لقاء جمع الرئيس الكيني السابق وحركة 23 مارس في 15 يناير2023 للمطالبة بالانسحاب، غير أن التوترات اللاحقة عكست عدم تمسك الأطراف بوقف إطلاق النار، مع إشارات باتفاق قادة الجيش الكونغولي مع قوات تحرير رواندا بشن هجوم مضاد ضد حركة 23 مارس، مما يثير المخاوف بشأن مستقبل مبادرات السلام الإقليمية.

  1.  قمة لواندا:

تزامنت قمة لواندا المصغرة مع الانتشار العسكري الأول ضمن عملية نيروبي، نوفمبر 2022، والتي حضرها رئيسا أنجولا وجنوب السودان إلى جانب رئيس الكونغو ووزير خارجية رواندا ممثلًا للرئيس ” بول كاجامي”. واتفقت هذه القمة مع قرارات نيروبي المطالبة بإنهاء الأعمال العدائية بحلول 25 نوفمبر 2022، إضافة إلى التأكيد على ضرورة نشر القوة الإقليمية المشتركة.

ويقود مبادرة لواندا الرئيس الأنجولي “جواو لورينسو” الرئيس الحالي للمؤتمر الدولي لمنطقة البحيرات والوسيط المعين من قبل الاتحاد الإفريقي، والذي بذل جهودًا في التوسط بين رواندا والكونغو، كان آخرها قمة لواندا في نوفمبر، التي دعت لانسحاب حركة 23 مارس، بناءً على الاجتماع الاستثنائي لرؤساء الأركان العامة للقوات المسلحة لمجموعة شرق إفريقيا في 8 نوفمبر 2022.

وسبق هذه القمة أخرى عقدت في يوليو 2022 في أنجولا بمشاركة الكونغو ورواندا، والتي أدت إلى خارطة طريق لواندا للسلام، والتي تبنت عملية نيروبي أغلب القضايا التي تبنتها قمة لواندا المنعقدة في يوليو وكذلك أعادت قمة لواندا المصغرة التأكيد على ذات القضايا؛ مما يعكس تعدد المبادرات والقمم الرامية لذات الهدف دون متابعة للتنفيذ.

وخلال قمة لواندا في نوفمبر الماضي، طالبت القوى الإقليمية كافة الحركات بالانسحاب من كافة الأراضي بحلول 15 يناير 2023، غير حركة 23 مارس وسعت عملياتها وفي 27 يناير استولت على بلدة ” كيتشانجا” الاستراتيجية، كما قطعوا شريانًا آخر للطريق المؤدي إلى “جوما”، في الوقت التي تتواجد فيه القوى الإقليمية لشرق إفريقيا، التي يفسرها البعض بتجنب كينيا الدخول في مواجهة مع القوات الرواندية.

ثانيًا: تحديات بناء السلام

في الوقت الذي قدمت فيه قوى إقليمية عديدة استجابة نشطة ومبكرة لاحتواء الصراع في شرق الكونغو تمهيدًا لبناء سلام مستقر ومستدام في هذا الإقليم المضطرب، ظهرت العديد من التحديات التي أعاقت نجاح هذه الجهود الإقليمية في الوصول إلى نتيجة ملموسة، والتي تمثلت في:

  1. الاستقطاب الإقليمي:

يعكس الوضع السابق، تعدد المبادرات دون إحلال حقيقي للسلام، مع تبادل الاتهامات بين طرفي الأزمة؛ إذ توجه الاتهامات إلى الجيش والحكومة الكونغولية بتقويض جهود قوة شرق إفريقيا مع تقاربها مع الحركات المسلحة والتعاون معها في مواجهة حركة 23 مارس، إضافة إلى الاتهامات بالتعاون مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، بما يوفر ذريعة لتعاون رواندا مع حركة 23 مارس الموجهة ضد الكونغو، ما يجعل الحرب بالوكالة الإقليمية هي الحاكمة للمشهد الإقليمي.

ورغم توفير عملية نيروبي وخارطة طريق أنجولا فرصًا حقيقة لإحلال السلام إذا ما توافرت الإرادة لدى كافة الأطراف، فإن فرص نجاحهما تكاد تكون محدودة بحكم الواقع. ويثير هذا الأمر الأزمات الإقليمية والعوامل المحلية المتشابكة المهددة لفرص السلام، والتي ترتبط في معظمها بديناميات الصراع التاريخي في المنطقة.

  1. غياب الثقة:

يعد غياب الثقة الحاكم للعلاقات الإقليمية في المنطقة، خاصة مع اتخاذ أزمة حكومة الكونغو مع حركة 23 مارس، بُعدًا إقليميًا؛ فمنذ عودة الحركة للمشهد مرة أخرى في نوفمبر 2021، والاتهامات المتبادلة بين كينشاسا وكيجالي حاكمة للمشهد، مع اتهام الأولى للثانية بدعم حركة 23 مارس، فيما تتهم الثانية بدعم الأولى للقوات الديمقراطية لتحرير رواندا، التي تعتبرها كيجالي منظمة إرهابية، تتشكل إلى حدٍ كبير من مرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 ضد التوتسي.

وقد ألقت الديناميات الإقليمية بظلالها على المشهد الكلي في شرق الكونغو، فبعد تشرذم حركة 23 مارس في السابق أعادت تهيئة نفسها مرة أخرى من خلال أراضي رواندا وأوغندا، بما يضفي تعقيدًا على المشهد الراهن ويثير الشكوك في أية عملية سلام إقليمية. ووفقًا للتقارير الدولية التي أكدت مشاركة القوات الرواندية بالفعل في تسليح الحركة، فإن أية محاولات للتهدئة تشارك بها رواندا بات مشكوكًا في جدواها. وبدا هذا الأمر جليًا، بعدما أطلقت القوات الجوية الرواندية النيران على طائرة عسكرية كونغولية، في 23 مارس 2023، رغم كافة المبادرات السابقة لإحلال السلام؛ بما ساهم في التصعيد المتبادل بين البلدين قبل القمة الأخيرة في بوروندي.

  1. الجذور التاريخية للصراع:

ابتليت المنطقة بالتوترات وتنامي المليشيات في شرق الكونغو الغنية بالمعادن والموارد لعقود من الزمن، ورغم هزيمة حركة 23 مارس قبل عشر سنوات من قبل لواء التدخل للجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي (SADC)، إلا أن عودة التوتر والنشاط مرة أخرى يعكس عدم الاستفادة من النجاحات العسكرية في الماضي واخفاق حكومة الكونغو والدول المجاورة وكذلك بعثة الأمم المتحدة في ترجمة النصر العسكري لنجاح سياسي، ومتابعة قضايا بناء السلام في المنطقة وحسم مظالم الماضي ومتابعة جهود التنمية المحلية والتعامل مع الأسباب الجذرية للصراع، فضلًا عن الترتيبات الأمنية المتعلقة بعمليات الدمج والتسريح للحركات المسلحة في الجيش الوطني.

وتعد الجذور التاريخية للصراع أحد عوامل غياب الثقة بين الجيران الإقليميين، فيعزي البعض تصاعد التوتر بين الكونغو ورواندا، إلى التقارب بين الأولى وكل من أوغندا وبروندي بشأن مواجهة الإرهاب، مع استمرار غياب الثقة الإقليمية بين كافة الأطراف. وقد أدى هذا الأمر إلى تعثر محاولات الكونغو بإنشاء قيادة عسكرية إقليمية ضد الحركات المسلحة عام 2021، نظرًا لانعدام الثقة بين رواندا وبوروندي وأوغندا.

  1. تعدد أطر التسوية:

رغم تعدد المرجعيات والأطر الرامية لمعالجة الصراع، لم يفلح أي منها في إيجاد مخرج آمن للأزمة، مع الإخفاقات الأخيرة التي منيت بها عملية شرق إفريقيا المدعومة من نيروبي وكذلك خطة طريق لواندا. ويشار في هذا الأمر إلى التنافس الإقليمي بين المبادرات والدول إذ تتنافس كل من السادك ومجموعة شرق إفريقيا وفي القلب منهما كينيا وجنوب إفريقيا وأنجولًا، فضلًا عن الاستقطابات داخل دول شرق إفريقيا والسادك، وكذلك والمؤتمر الدولي لمنطقة البحيرات، فضلًا عن جهود الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، مع الانقسامات التي يشهدها مجلس الأمن حيال الأزمة.

أضف إلى ذلك إطار السلام والأمن والتعاون لعام 2013 للكونغو، وهو إطار تنظر إليه الكونغو والرئيس تشيسكيدي كإطار مرجعي للأمن الإقليمي، إلا أن التزام الكونغو وحدها به أفقده قدرته على إحلال السلام في المنطقة، وفقًا لوجهة النظر الكونغولية، التي تنادي بضرورة الالتزام الإقليمي من جانب كافة الدول بالأطر الإقليمية، وهو ما يحتاج إلى ضمانات للسلام من قبل الوسطاء والضامنين.

مجمل القول، يتضح أن تعدد المبادرات الإقليمية لإحلال السلام في شرق الكونغو ومنطقة البحيرات العظمى لا يعنى ضمان السلام والاستقرار، دون إرادة من الدول المتنافسة إقليميًا وكذلك متابعة من قبل وسطاء السلام، الذين هم بحاجة إلى متابعة الخطط التنفيذية لإحلال السلام، إلى جانب الدور الحاكم لحكومة الكونغو في التعامل الحاسم مع جذور الصراع وقضايا الأمن والسلام.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/32941/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M