الصوفي والسياسي صورة ماسينيون في الفكر العربي المعاصر

اقتلوني يا ثقاتي  * * *   إن في قتلي حياتي

كان يطيب لماسينيون L. Massignon)‎) (1883- 1962م) أن يُردّد هذا البيت للحلّاج، الذي كرّس قدرًا كبيرًا من جهده للحفر في أخباره. ومن هنا ارتبط ماسينيون لدى معظم دارسيه من العرب بالحلّاج خاصّة والتّصوّف والدّراسات الإسلاميّة عامّة»[1]. فقد انتقل من دراسة التّاريخ والآثار إلى التّصوّف والدّراسات العربيّة الإسلاميّة إلى الواقع العربي والاتّجاهات المؤثّرة في توجيهه. وظلّ الحلّاج والتّصوّف محورَ اهتمام المستشرق الفرنسي في معظم دراساته، وأساس تحليلات كلّ الباحثين العرب الذين ناقشوا أعماله. فهو الصوفي؛ صاحب الحلّاج. لقد كان الحسين بن منصور الحلّاج البيضاوي البغدادي أساس الإشادة بجهد المستشرق الكبير، ومصدر النّقد الذي وُجّه إليه في الوقت نفسه، باعتبار هذا الاهتمام الصوفي يُخفي اهتماماتٍ سياسيّةً تشغل ماسينيون. وهذا هو موضوع الدّراسة الحاليّة.

لم يحظَ عالم من علماء الإسلاميات في العصر الحديث بمثل ما حظي به المستشرق الفرنسي من مكانةٍ ساميةٍ ترتفع به إلى أسمى آفاق الإنسانيّة والروحانيّة لدى الكتّاب والباحثين والمثقّفين العرب. فهو بالنّسبة لهم ليس مجرّد مستشرقٍ منصفٍ فحسب، محبّ للعرب والمسلمين مدافع عنهم مناصر لقضاياهم، بل هو الصوفي الروحاني. ويمكن القول ‏- ربما مع شيء من التجاوز ‏- إنّ صورته لدى غالبيّة الأساتذة العرب المعاصرين في مجال الدراسات الإسلامية، هي صورة الباحث المتوحّد بموضوعه، المخلص له. والموضوع الذي أخلص له هو الإسلام وتجلياته المختلفة وصولاً إلى الواقع الإسلامي المعاش، الذي جاب معظم بلدانه وأتقن عددًا من لغاته؛ العربية والفارسية والتركية، وصادق الكثير من علمائه[2]. كانت له قدرة وثقة لا تتأتّى لغيره من المستشرقين في تجنيد معارفه وأصدقائه من الأسر الإسلاميّة ذات النفوذ، ممن كان لهم تأثيرهم القوي على مجرى الأحداث في أقطارهم المختلفة وجذبهم إليه وتحويل حبّهم وعونهم له إلى علم ومعرفة[3] وكتابات يكشف من خلالها؛ ماضيهم وحاضرهم، أصولهم وأنسابهم وأعراقهم، عقائدهم وأفكارهم، علومهم المكشوفة والمستورة، فقد كان الدين الإسلامي الإبراهيمي هو الموضوع الذي عاش به ومن أجله دارسًا منقّبًا وباحثًا متحرّيًا، بل وصوفيّ عاشق. فهو العاشق لتجلّي المطلق عبر ديانات التوحيد ومنها الإسلام.

ونستطيع الاستشهاد بنماذج مما كتبه الباحثون والأساتذة العرب لتوضيح هذه الصورة عن ماسينيون. فهو «حجة فى تاريخ التصوّف الإسلامي، وبه ميولٌ ثابتةٌ لنصرة الحقّ والفهم الصحيح لمبادئ الدين الإسلامي، ورغبة صادقة في تطهيره من الشوائب، وأمل في إنهاض الشعوب الإسلامية، وأسف عميق على سقوط الدولة… وهو يؤمن برسالة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقد قال ذلك وأثبته مرات متعدّدة فى كتبه، ويؤمن بالوحي والقرآن حتى أذاع عنه بعض عارفيه أنّه اعتنق الإسلام، ولكن الحقيقة أنّه لم يفعل ذلك جهارًا، ولكن أحاديثه تدلّ على كثرة اشتغاله بأدقّ مسائل الإسلام»[4].

بل لقد كتب اللبناني كمال يوسف الحاج في مقدّمة ترجمته العربية لكتاب برجسون «معطيات الوجدان البديهيّة» إهداء:

«إلى المستشرق الإفرنسي الكبير لويس ماسينيون الذي أوقفني بمعرفته الدقيقة للتراث العربي ولغة الضاد على واجباتي نحو لبنان والشرق العربي؛ والذي كشف لي بنزعته الصوفيّة عمّا للعاطفة الدينيّة من أهميّة في تقويم اعوجاج هذا العالم المادي بتفكيره وإنهاضه من عثرته الكفريّة الجامحة»[5].

وهو أبرز وجوه الاستشراق الجديد، بل في طليعتها التي لها قصب السبق في مجال تجديد الاستشراق، والموضوع عند ماسينيون يبقى الإسلام وثقافته غير أنّ تصوّر مستشرقنا له يتميّز حقًا بكثيرٍ من الأصالة والنزوع المتشوّق[6].

هذه هي الصورة التي يقدّمها معظم الأساتذة الروّاد للمستشرق الفرنسي، والتي تقوم على الانبهار الشديد بعلمه الغزير، والإعجاب العميق بلغته المنصفة، والميل الوجداني لشخصه. إزاء هذه الصورة لا يملك الباحث إلّا أن يتساءل هل الصورة العرقيّة الروحانيّة هي الصورة الوحيدة لماسينيون أم يكمن خلف صورة الصوفي صورة أخرى هي صورة السياسي؟ هل هذه الصورة التي نجدها لدى أصدقاء ماسينيون وتلاميذه والتي تنطلق من شخص الرجل ومؤلفاته ومواقفه تقدّم لنا كلّ ملامح ماسينيون، أم إنّ هناك ملامح أخرى نجدها ضمن كتاباتٍ مختلفةٍ تعرض له أو ربّما في ثنايا كتابات هؤلاء أنفسهم تكمن رؤيةٌ ثانيةٌ مستترةٌ لملامح مختلفة؟ ومن هنا ضرورة وجود قراءة أخرى ثانية من جيل تال لجيل الروّاد. فالقراءة العلميّة واجبة مع القراءة الوجدانيّة، والقراءة الناقدة التحليليّة تثري كتابات المستشرق الكبير، وتستشرف أبعادًا أخرى له بجانب القراءة التكريميّة، بل إنّ التكريم الحقيقي للجهد الكبير الذي قدّمه ماسينيون فى مجال الدراسات الإسلامية لن يتأتي إلّا بأعمال التحليل والدراسة النقديّة لما قدّمه من أفكار. ومن هنا فإنّ قراءة أعمال ماسينيون من الممكن أن تقدّم بجانب الاتّجاه الصوفي الرّوحاني العميق لديه جوانب أخرى أكثر ثراءً وخصوبةً، تضيء ذلك الجانب الأوّل وتؤكّده وتفتح آفاقًا رحبةً لإدراك الدور الذي قام به في حياتنا المعاصرة وتثري معرفتنا به؛ لأنّنا قد نجد خلف التأمّلات الباطنيّة تحليلات اجتماعيّة وتاريخيّة وسياسيّة، تُظهر عمق الرجل وإخلاصه الشديد للقضيّة الحقيقيّة التي شغل بها ومفتاحها والإطار العام الذي يحتويها هو -كما أشرنا في البداية- التصوّف والحلاج.

ولكي نحدّد معالم صورة ماسينيون، نقسّم دراستنا هذه إلى قسمين أساسيين، يحتوي كلّ منهما على تقسيماتٍ فرعيةٍ داخله. يدور الأوّل حول الدراسات العربية السابقة حول ماسينيون ومواقف المفكرين العرب المعاصرين تجاه كتاباته العلميّة ومواقفه العمليّة. ويقدّم القسم الثاني قراءةً معاصرةً لبعض أعمال ماسينيون تسعى لاستقصاء موقفه تجاه بعض القضايا التي تشغل المستشرق الفرنسي وتظهر مواقفه من الواقع العربي الإسلامي.

نتناول في القسم الأوّل مواقف ثلاثة اتّخذها الأساتذة العرب تجاه ماسينيون، تختلف رؤيتها وتحليلاتها ومنهجها ما بين التأييد والمتابعة والإعجاب إلى التحليل والنقد. بعضها ينطلق من موقفٍ معرفيٍّ تحليليٍّ نقديٍّ لأعمال ماسينيون، والآخر يصف مواقف الرجل العمليّة ويخضعها لمنهج التحليل الاجتماعي والتاريخي.

أوّلاً: مواقف المفكّرين العرب تجاه ماسينيون

لقد حفلت الثقافة العربيّة المعاصرة والدراسات الإسلامية الحديثة بكتاباتٍ متعدّدةٍ لماسينيون، ودراساتٍ كثيرةٍ حول جهوده المختلفة، وازداد الاهتمام بالكتابة عنه باعتباره ممثّلاً للموضوعيّة والنّزاهة العلميّة والإنصاف للعرب والمسلمين. ونستطيع مبدئيًّا أن نلمح مواقف ثلاثة لهذه الكتابات: يدور الموقف الأوّل حول دراسات ماسينيون في التصوّف عامّة عرضًا وتحليلًا ونقدًا، يعطي له الريادة في تقديم النظريّة العلميّة التي تفسّر نشأة التّصوّف الإسلامي من داخل الحياة العربيّة الإسلاميّة، كما نجد ذلك عند كلّ من: الشيخ مصطفى عبد الرازق والدكتور عبد الرحمن بدوي والدكتور أبو الوفا التفتازاني.

ويسعى الموقف الثاني نحو تقديم قراءةٍ جديدةٍ لتصوّف الحلّاج مغايرة لقراءة ماسينيون، مقدّمًا تفسيرًا وقراءة مختلفة للصوفي المسلم. ونجد هذا الموقف لدى كلّ من: محمد علي أبو ريان ومحمود قاسم ومحمد بن عبود.

وتمثّل القراءة التحليليّة الاجتماعيّة والسياسيّة، والقراءة الإبستمولوجيّة الموقف الثالث لدى محمد لطفي جمعة وحسني سبح من جهة وإدوارد سعيد من جهة أخرى.

ورغم صعوبة التوحيد بين هذه المواقف، أو داخل كلّ موقف على حدة بين ممثليه المختلفين، فإنّنا نستطيع القول إنّ الموقف الثالث -‏ على الرغم من نقده وتحليله لجهود ماسينيون -‏ يكنّ كلّ تقدير للرجل وإعجاب بأعماله، وهو موقف يختلف عن الموقفين السابقين في الرؤية ومنهج التحليل. وسنتناول فيما يلي هذه المواقف الثلاثة على التوالي.

الموقف الأوّل: التّلقّي

وهو موقف المتابعة والتأييد، ويظهر لدى الروّاد الأوائل ممّن تعاملوا مع ماسينيون أو تتلمذوا عليه، واعتمدوا على مؤلّفاته وأشادوا بنظريّاته مع بعض الإضافة إليها أو التعديل لها أو النقد عليها. وهو موقف يساير منهج المستشرق الفرنسي ويتابع أحكامه.

1- ويظهر هذا الموقف عند الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذي يعتبر مؤسّس المدرسة الفلسفيّة الحديثة في مصر، وامتدادًا للشيخ محمد عبده، ورائد التدريس الفلسفي بالجامعة المصرية[7]. يرتبط دوره الفكري بدوره الاجتماعي والسياسي والتنويري في الثلائينيات والأربعينيات من هذا القرن. قدّم لنا تعليقًا على مادة التصوّف التي كتبها ماسينيون في دائرة المعارف الإسلاميّة، ولأهميّة ما كتبه استلّ التعليق والمادة التى كتبها ماسينيون من دائرة المعارف الإسلامية لينشرا في طبعة مستقلة[8].

وهو يوضّح ما أجمله ماسينيون ويصحّح أحكامه ويضيف إليه جوانب أخرى لم يتعرّض لها. يتحدّث عن نشأة كلمة صوفي ومتصوّف وأصلهما، ثم يعرض لأساس التصوّف وما مرّ به من الأدوار. ومقابل حديث ماسينيون عن الاتحاد ومعناه يعرض عبد الرازق للولاية وصلتها بالتصوّف وكرامات الأولياء، ثم يخصّص فقرة لنبوّة النساء وولايتهن وصلة المرأة بالتصوّف الإسلامى.

ويعتمد الشيخ مصطفى في: «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» على كتاب ماسينيون «مجموعة نصوص لم تنشر متعلقة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام». ويذكر أنّ ماسينيون يدرج ضمن متصوّفة الإسلام الكندي والفارابي وابن سينا فى كتابه «مجموعة نصوص…»[9] وأنّ ماسينيون نقل فى كتابه المذكور جملة من كتاب ابن سبعين الفيلسوف الأندلسي صوّر فيها ابن رشد والفارابي وابن سينا تصويرًا يشفّ عن رأيه في فلسفتهم، وهم أئمّة الفلسفة الإسلاميّة[10].

إلا أنّ المهم بالنسبة لنا في هذا السياق هو ما يقدّمه الشيخ من رأي في نشأة الفلسفة في الإسلام بعيدًا عن المؤثّرات الأجنبيّة مثلما نجد لدى ماسينيون حين ردّ التصوّف الإسلامي إلى واقع الحياة الدينيّة في الإسلام.

2- ونجد الموقف نفسه لدى عبد الرحمن بدوي، الذي تظهره نزعته الوجوديّة الإنسانيّة الوجدانيّة أكثر قربًا من ماسينيون وتظهر كتاباته تأثره الشديد – خاصة فى المرحلة المبكرة من حياته – ‏بماسينيون[11]. فقد تتلمذ عليه وكتب عنه وترجم له. خصّص له دراسةً هامّةً في «موسوعة المستشرقين»[12]. وترجم له العديد من الأبحاث بحيث يمكننا القول إنّ كتابات ماسينيون قد شغلت معظم صفحات كتاب «شخصيات قلقة في الإسلام»[13]. كما ترجم له بحث «الإنسان الكامل في الإسلام وأصالته النشورية»[14]. ونجده يعتمد عليه اعتمادًا كبيرًا في ذلك الجانب الذي اهتم به كلّ منهما، وهو التصوّف الإسلامي، حيث يستشهد ويقتبس في «شطحات الصوفية» بما جاء في: «مجموعة نصوص لم تنشر خاصّة بالصوفية المسلمين»، «بحث في  أصول المصطلح الفني للصوفيّة المسلمين»[15]؛ بالإضافة إلى مخطوط ماسينيون عن كتاب النور من كلمات ابن طيفور، فهو في البداية يقدّم الشكر للأستاذ ماسينيون على هذا الفضل، فكم له من مِنَنِ لا تحصى على التصوف الإسلامي ودراسته[16].

ومثل مصطفى عبد الرازق يعتمد على حجج ماسينيون نفسها لتأكيد أصالة الفكر الإسلامى بعيدًا عن المؤثّرات الأجنبيّة. والأستاذ ماسينيون عنده هو أعظم باحث في التصوّف الإسلامي، فقد خطا خطوةً واسعةً جدًا وجهت الدراسات الإسلامية توجيهًا جديدًا تمامًا، فقرّر بعد دراسته المحكمة الدقيقة لما قيل من آراء في تأثر نشأة التصوّف الإسلامي بعوامل أجنبيّة، إنّ هذه الدراسة الطويلة يمكن أن تؤكّد أنّ التصوّف في أصله وتطوّره صدر عن تلاوة القرآن والتأمل فيه وممارسته[17]. وبعد أن أفاض في عرض موقف ماسينيون يضيف إليه ما يدلّل على أنّ الصوفيّة المسلمين قد استمدّوا المعاني الرئيسيّة من تأمّل الآيات القرآنيّة.

والحقيقة أنّ آراء ماسينيون تكاد تسود كلّ كتابات بدوي. ويظهر هذا أوضح ما يكون في كتاب «تاريخ التصوّف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني» فهو يستشهد بآرائه، ويصحّح أخطاءه في فهم أقوال بعض الصوفيّة المسلمين الأوائل التي ينسبونها للمسيح[18]. ويعتمد على كتبه في أعماله المختلفة كما نجد في مقدمة تحقيق كتاب أرسطو في النفس[19].

ويلمح بدوي ملمحًا هامًا في توجهات ماسينيون ويتوقّف عنده في «موسوعة المستشرقين»؛ حيث يقدّم لنا تفسيرًا لهذه التوجهات. فهو يرى أنّ الإيغال في الاستبطان دفع ماسينيون إلى إضفاء روحانيّة عميقة على ما لم يكن في ذهن أصحابه غير حرفيّة أو وضعيّة بسيطة وما كان ذلك إلا نتيجة اشتغاله المتواصل لفهم أسرار الصوفيّة. وقد توفّر على دراسة الشيعة بكلّ تطوّراتها وفروعها، خاصّة الغالية فيها كالقرامطة والنصيريّة والإسماعيليّة؛ لأنّه كانت تستهويه المذاهب المستورة والحركات السرية الروحيّة والسياسيّة في تاريخ الإسلام، فضلًا عن ارتباطها في بعض الأحيان بصاحبه الذي رافقه طوال حياته أي الحلاج[20].

ويمكن القول بشكل عام إنّ تقدير بدوي لماسينيو ظلّ مستمرًّا وإن كان تأثيره عليه بدأ يقل تدريجيًا بتحرّره من مناهج المستشرقين واتّخاذه موقفًا نقديًا من كتاباتهم خاصّة في كتاباته الفرنسيّة الأخيرة[21].

3- وتقدّم لنا كتابات أبو الوفا التفتازاني وهو واحد من أهم المتخصّصين في التصوّف الإسلامي صورة دقيقة لتأثير ماسينيون ودراسته على جيل تال لجيل الرواد.

ويميّز التفتازاني بين المصادر الاستشراقيّة في دراسة التصوّف، حيث ماسينيون – واسين بلاثيوس – في جانب، وغيرهم في جانب مقابل. ويبدو ماسينيون أكثر هؤلاء حضورًا فى كتابات التفتازاني المختلفة. فقد كان المستشرق الفرنسي وراء اختياره لموضوع رسالته للدكتوراه، كما كانت كتاباته مصدرًا زاخرًا بالتحليلات والنتائج بالنسبة له. فالباحث المتخصّص الأكاديمي الذي صار شيخًا لمشايخ الطرق الصوفيّة يظهر لنا تقديره لماسينيون ومنهجه في دراسة التصوّف، «وشدّة حرصه على استقصاء مسائله وتحديد معاني اصطلاحاته» كما يتّضح في قوله: «لقد نبّهني منذ ذلك الوقت المبكر [1946] إلى دراسة هذه الشخصيّة [ابن سبعين] التي اتّخذت منها بعد ذلك موضوعًا لرسالتي للدكتوراه… وقد أحسست منذ ذلك الوقت أنّ ماسينيون رائد لدراسات التصوّف الإسلامي، وإنّ جهوده العلميّة في ميدانه جهود بارزة، وأنّه يتميّز بحسّ نقديٍّ غير عادي وبذوق لقضايا التصوّف يستوقف النظر حقّا»[22].

وإذا تساءلنا عن سبب إعجاب التفتازاني بماسينيون وجدنا أنّ آراء الأخير في نشأة التصوّف الإسلامي تلك التي أحدثت تحوّلاً بارزًا في هذه المسألة قد تأثّر بها الأستاذ المصري وسرت في معظم دراساته، خاصّة «المدخل إلى التصوف الإسلامى» ومادة «تصوف» في الموسوعة الفلسفيّة العربية، وكتابيه عن «ابن عطاء لله السكندري وتصوفه»، و«ابن سبعين وفلسفته الصوفية» بالإضافة إلى دراسة خصّصها لماسينيون بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لميلاده 1983 بعنوان «ماسينيون ودراسة التصوّف الإسلامي».

ويتبنى التفتازاني في «المدخل…» ما انتهى إليه ماسينيون في بحثه عن أصول المصطلح الفني للتصوف الإسلامي؛ وهو أنّ مصادر المصطلحات الصوفيّة أربعة: الأول، القرآن وهو أهمها؛ الثاني، العلوم العربية الإسلامية من حديث وفقه ونحوها؛ والثالث، مصطلحات علماء الكلام الأوائل؛ الرابع، اللغة العلمية التى تكوّنت فى الشرق فى القرون الستة الأولى المسيحيّة من لغات أخرى كاليونانية والفارسية وغيرهما وأصبحت لغة العلم والفلسفة[23].

كما يعتمد على ماسينيون اعتمادًا كبيرًا في مواضع متعدّدة من «المدخل…» في تناول: مدارس الزهد؛ خاصّة مدرسة البصرة (ص 74) وأعلامها (ص 77) ومدرسة الكوفة (ص 78) وزهادها (ص 79 -80) وفي ذكره لذي النون (ص 101) والمحاسبي (ص 105) والشطح (120-121) والحلاج (ص 125) ويحيى بن معاذ (ص 132) والهروي (ص 149) وجلال الدين الرومي (ص 227)، وهو يشيد بدراسته الطرق الصوفيّة التي كتبها في دائرة المعارف الإسلامية (ص 246) ويقدّم لنا نهج ماسينيون في دراسة التصوّف في تحديد منطقي[24].

ويناقش آراء ماسينيون وأحكامه في بعض قضايا التصوّف وأعلام المتصوّفة في كتابه «ابن عطاء الله السكندري وتصوفه»، فهو يذكر أنّ الشاذلي ومدرسته مع اتّجاههم ناحية تصوّف الغزالي إلّا أنّهم لم يطعنوا فى الصوفيّة القائلين بالوحدة والحلول، ولا الحلاج الذي يذكر ماسينيون أنّ الشاذلي وابن عطاء وغيرهما من متأخري الشاذليّة قد أشادوا بذكره (ماسينيون: عذاب الحلاج» باريس 1922، ص 424 -425) ويعلق أن رأي ماسينيون في هذا الصدد مستند إلى بعض روايات الشعراني والخفاجي، ويضيف أنه (أي التفتازاني) لم يجد في أقوال الشاذلي على اختلافها تمجيدًا للحلاج أو إشادة بذكره، أما فيما يتعلق بابن عطاء فلم أجد له إلى الآن إلا استشهادًا بأبيات للحلاج في «لطائف المتن»[25].

ويراجع التفتازاني أحكام ماسينيون على الفيلسوف الصوفي صاحب الوحدة المطلقة في كتابه «ابن سبعين وفلسفته الصوفية»[26] الذي يشير إبراهيم مدكور في تقديمه له إلى ماسينيون الذي شغل «بالرسائل الصقلية» لابن سبعين وكانت له عناية خاصة به (ص 7). ويحدّد التفتازاني هذه العناية في اقتباس بعض نصوص قصيرة من مصنفاته فقط في «مجموعة نصوص غير منشورة» ويذكر منها مجموعة من الأشعار (ص 129، ص 169). وفى سياق تناوله لمسألة قتل ابن سبعين نفسه رغبة في الاتحاد مع الله التي ذكرها بعض المؤرخين وتناقلها ماسينيون (مجموعة نصوص…) يرى التفتازاني على العكس من ماسينيون أنّها لا تتفق مع ما نعلمه عن صوفيّة الاتحاد من أنّهم تحقّقوا به في حياتهم دون حاجة إلى قتل أنفسهم (ص64). ويرفض أيضا موقف ماسينيون القائل بإعجاب ابن سبعين بابن العريف (ص 78). ويخطّئ ماسينيون في زعمه أنّ ابن سبعين صاحب نظرية في الاتصال بالعقل الفعال (ص 370 – 371) كما يظهر اختلافه عن ماسينيون، الذي يعتبر ابن سبعين فيلسوفًا يردّد آراء الفلاسفة اليونان والمسلمين السابقين عليه دون أن يبتكر جديدًا (ص 464)، فهو مستقلّ عن أرسطو وغير صحيح ما حكم به ماسينيون على ابن سبعين من أنّه أرسطي حاذق (ص 465).

توضح لنا كتابات التفتازاني واقتباساته لآراء ماسينيون ونقاشه لها إشادته بنظريات ماسينيون ومنهجه في دراسة التصوف. وهو عنده العالم الثبت الذي أفنى عمره بإخلاص في دراسة التصوّف على أساسٍ منهجيٍّ علميٍّ حديث، ولهذا سيظل رائدًا للباحثين فى ميدان التصوف وعلمًا من أعلامه البارزين.

الموقف الثاني :الحوار

وهو موقف أكثر تطوّرًا وتحليلًا ودفعًا لآراء ماسينيون إلى الأمام نحو تحليل علمي لقضايا التصوّف الإسلامي، خاصّة ما يتعلق بالحلاج. ويظهر هذا الموقف لدى بعض الأساتذة العرب الذين اتّخذوا موقفًا تحليليًا نقديًا من تفسير ماسينيون لتصوّف الحلاج.

1- وفي مقدمة هؤلاء الدكتور محمد علي أبو ريان، الذي تتلمذ على ماسينيون في باريس وكتب في الدفاع عنه والإشادة به وبالدور الذي قام به في خدمة الدراسات الإسلاميّة ومساندة القضايا العربية[27]. ويتّضح موقف أبو ريان فى دراسته «التفسير المسيحي للتصوف الإسلامى عند ماسينيون بالنسبة للحلاج خاصة»[28]. فهناك يؤكد أنّ ماسينيون قد التزم في موقفه من التصوّف بذلك الرأي القائل بأنّ التصوّف الإسلامي قام على أسسٍ مسيحيّةٍ (ص 340). ومقابل ذلك يرى الأستاذ السكندري أنّ موقف الحلاج الحقيقي إنّما يستمدّ من التيّار الباطني؛ لأنّه كان متصوّفًا متعصّبًا لفارس وفكرها مثل السهروردي الإشراقي… وهذا يعني أنّ مذهب الحلاج الحقيقي إنّما يقوم على أساس من الزرادشتيّة الفارسيّة أو نحلتها المتأخرة المانوية، وليس على أساسٍ مسيحيٍّ كما يرى ماسينيون.

على أنّ موقف ماسينيون المذهبي من مسيحيّة الحلاج لم يقف عند رأي يسوقه. بل كان ماسينيون دائم الذكر للشهيد الحلاج. ويستشهد أبو ريان بما جاء في مقدّمة كامل الشيبي لديوان الحلاج من أنّ ماسينيون كلّف القس العراقي دهان الموصلي المقيم في باريس في ربيع 1953 بإقامة قداس خاص على روح الحلاج في الكنيسة التي يشرف عليها في العاصمة الفرنسيّة (ص 345).

ولبيان حقيقة موقف الحلاج يعرض أبو ريان ما جاء في الفقرة السابعة عشرة من الديوان، وهو موقف كان الحلاج ينفي فيه الحلول؛ كي يتحقّق لديه البقاء بعد فناء الفناء، وهذا من وجهة نظر أبو ريان موقف إسلامي أصيل. يقول الحلاج:

ففي فـنائي فنــا فنــائي  ***  وفي فــنائي وجـــدت أنت

وفي حواسي ورسم جسمي ***   سألت عنك فقلت أنت

هذان البيتان يشيران كما هو واضح إلى أن ثمة أنت ‏- أي الله – هو الموجود على الحقيقة، فليس هناك حلول لناسوت في لاهوت ولا اتحاد بين النفس الإنسانيّة والنفس الإلهية (ص 347).

ويقدم أبو ريان مقابل تفسير ماسينيون المسيحي لتصوف الحلاج، الاتجاه الفارسي الشعوبي لديه، وهو ما يتضح في «الطواسين» (ص 353). فالحلاج في الطواسين يعبر عن موقفه الصوفي الأخير الذي تخطّى فيه وتجاوز مرحلة الحلول المسيحي، كما تخطى فيه مرحلة التوحيد الذي وقف عنده الصوفيّة الأوائل. يقول: «بل إنّه (الحلاج) في نهاية المطاف يتوارى في صورة الرافع لراية النور المحمدي التي تقابل عند المانوية فكرة إله الخير، ثم يرفع راية إبليس الذي يمثل إله الشرّ أيضًا. ويضيف أنّ النور منذ الأزل وإلى الأبد، وعدم الإشارة إلى زمانيّة إبليس إنّما يستهدف أنّ المبدأين؛ النور المحمدي وإبليس، هما في النهاية مقابل إلهي الخير والشر» (ص356).

وينتهي أبو ريان في هذا البحث برفض موقف ماسينيون القائل بالتفسير المسيحي لتصوّف الحلاج بردّه إلى عناصر فارسيّة. وينطلق هذا الموقف النقدي من تقدير أبو ريان لأستاذه ماسينيون الذي أشاد به كثيرًا ونقل عنه فكرة الخريطة الروحية للفكر الإسلامي[29]؛ وكتب للدفاع عنه ضدّ ما وجّه إليه من انتقادات.

2 – ويمضي المرحوم محمود قاسم أستاذ الفلسفة وعميد دار العلوم الأسبق شوطًا أبعد في مناقشة كتابات ماسينيون ونقدها، الذي حاول أن يصوّر لنا الحلاج نموذجًا لمأساة التصوّف في الإسلام؛ وذلك لأنّه اعتقد أنّ الحلاج جاء يبشّر بدين المحبّة أو بحكم الله في القلوب، فضحّى بحياته حتى يدعو الناس إلى السمو عن حرفيّة الشرع وقشوره التي حجبت عنه لبّه وجوهره. غير أنّ ماسينيون يؤكّد لنا أنّ الحلاج اعتمد في تصوّفه على بعض العناصر الإسلاميّة وهذا ما يرفضه قاسم[30]. وهو يلاحظ أن ماسينيون يعترف ضمنًا بأثر الفكر اليوناني والفكر الفارسي في عصر الحلاج، وإن لم يكشف بوضوح عن تلك العناصر التي امتزجت في المذهب الصوفي للحلاج مع أنّها العناصر الجوهريّة التي يدور حولها مذهبه.

ويتوقّف قاسم أمام كثير من تفسيرات ماسينيون لحياة الحلاج ويتشكّك في تفسيره للصوفي الذي كان كما يقول ماسينيون يتلون كثيرًا. ويرى قاسم أنّ مسلك الحلاج في تغيير اسمه ومهنته ومعتقده يتّسق مع ما درج عليه دعاة الباطنيّة من القرامطة والإسماعيلية. ويؤكّد على افتراضه الأساس «علاقة الحلاج بالقرامطة»، فقد اعترف ماسينيون بأنّ الحلاج لمّا غادر بغداد وأخذ ينشر دعوته في الأهواز كان يعتمد في وعظه على مجموعةٍ من الرموز التي أخذها عن القرآن مثل: القلم واللوح المحفوظ، والسماء والطارق والنجم الثاقب وهي [نفس] الرموز التي كان يستشهد بها دعاة القرامطة ممن كانوا يحيون في هذا الإقليم (ص 6).

ومقابل محاولة ماسينيون تبرئة الحلاج من أيّة نزعةٍ سياسيّةٍ يناقش هذه الصلة بالقرامطة. فقد اعتقد ماسينيون أنّ الحلاج مع بقائه خاضعًا للسلطة القائمة في البلد الذي عاش فيه كان يسلّم نظريًا بأحقيّة العلويين في المطالبة بالإمامة. أمّا قاسم فيرى أنّ هذا القول دليل كافٍ على صلة الحلاج بالقرامطة والإسماعيلية (ص 8) ذلك هو الهاجس الأساس الذي يحكم تفكير قاسم وعلينا انطلاقًا منه متابعة تحليله.

تشتدّ لهجة قاسم وعباراته في جدله من أجل تفنيد أقوال ماسينيون، فهو يتشكّك في عاطفته عندما يحاول إيهامنا أنّ الحلاج ظلّ في الاتّجاه السني في الوقت الذي يدعو فيه للإمام العلوي الإسماعيلي، وفي الوقت الذي يزعم فيه أنّ الله حلّ في روحه، وأنّه التجسيد الزمني للإله الذي يترك ساحة الأزل لكي ينخرط في الزمن. كما قيل بالنسبة إلى تجسده في عيسى.. والحق أنّ الحلاج لا يريد أن يكون مسيحيًا كما ظنّ ماسينيون وبعض من تأثّر به وإنّما أراد تأليه البشر بادئًا بنفسه عندما زعم أنّه رب الأرباب (ص 10).

وهناك عبارات عديدة يقدمها محمود قاسم واضحة الدلالة على رفضه واستنكاره لتفسير المستشرق الفرنسي للحلاج، ورغبته في إنكار صلته بالقرامطة؛ لبيان الفصل بين «الصوفي والسياسي» عند الحلاج، بينما الصلة بينهما هي ما تؤكد حقيقته حياة الحلاج وأقواله. يقول قاسم: «إنّه يحاول أن يبرئ الحلاج من أية نزعةٍ سياسيةٍ دون أن يفلح» (ص 9). «أليس لنا أن نكتفي بمثل هذه النصوص والشواهد لنذكر أنّ تبرئة الحلاج من الاتصال بالقرامطة لا تستند إلى أيّ أساس موضوعي» (ص 13) وغيرها.

وعلى ضوء ما سبق نستطيع القول إنّنا بإزاء تفسيرين أو مدخلين لدراسة الحلاج من المدخل العقلاني الفلسفي القائم على التحليل التاريخي لقاسم والمدخل الصوفي الوجداني الذي يكاد يتّحد فيه ماسينيون بالحلاج. يؤكّد الأوّل صلة الحلاج بالقرامطة، فزياراته العديدة وتجواله الدائم ليس دليلًا على حياة صوفيّة وذاتيّة، بل طابع التجول السياسي فيها يفجأ العين (ص 13). وإذا استمرت البرهنة والتحليل ننتهي إلى أنّ ماسينيون ينفي التوجّه السياسي الذي تؤكده مواقف حياة الحلاج. ويماثل قاسم بين الحلاج وماسينيون ويرى أنّ محاولة الأخير تفوح منها رائحة سياسية معاصرة ترمي إلى تجميد الوضع في العالم الإسلامي الراهن على نحو ما كان عليه في القرن الرابع الهجري. وربّما فسّر لنا هذا الغرض الدور السياسي الذي قام به ماسينيون في القرن العشرين في كثير من البلاد الإسلامية والدعاية المركزية لأسطورة الحلاج (ص 14).

3- يميّز محمد بن عبود في دراسته «منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي» بين الدقة والموضوعيّة العلميّة لأبحاث ماسينيون وتوظيف هذه الأبحاث والاستفادة منها في الدوائر الحكومية[31]. يقول مشيدًا بجهد ماسينيون الذي استطاع أن يرتفع بأعماله فوق أغلب زملائه المعاصرين (إنّه قد أمد الدراسات الإسلامية بإسهام من أكثر الإسهامات التي تنم عن عمق دراسة وأصالة على الرغم من وقوعه تحت تأثير ما نسميه بالروح الاستعماريّة (التي سادت في عصره) (ص 354).

ويظهر هذا التمييز في موقفه القائل إنّ المرء يمكن أن يرفض آراءهم (المستشرقين) السياسيّة الشخصيّة (ماسينيون كان يؤمن بسياسة المارشال ليوتي في المغرب، وعمل على تنفيذها بعد أن وجد ما يسوّغها من الناحية الفكرية) ورغم هذا فنحن نجد أنّ ما أسهم به من مؤلفات علميّة هي أعمال ممتازة؛ وباعتبارها أعمالاً أصيلةً قد تحرّرت إلى حدّ كبيرٍ من الآراء السياسية.

ويرى عبود أنّ ماسينيون تعرّض للنقد من جانب العلماء المسلمين؛ لأنّه ابتدع «خرافة الحلاج»، ولأنّه حول الحاوي إلى شهيد. إلّا أنّنا مهما بلغت درجة اختلافنا مع ماسينيون بشأن تاريخيّة شخصيّة الحلاج كما نراها في كتابه، فإنّ كتابه هذا يبرز باعتباره دراسةً مثاليّةً للصوفيّة نظرًا لما يتميّز به من صراحة من الناحية المنهجية، واستنفاد لببليوغرافيا هائلة ودراسة وتحليل للمصادر التاريخيّة (ص 365). وبعد أن تناول عبود بالتحليل دراسة ماسينيون عن الحلاج (صفحات 370 -378) يساوره الشكّ في الحكم الذي أصدره المستشرق على الحلاج. لكنّه يضيف أنّ ماسينيون برغم اتخاذه موقفًا محدّدًا في كتابه إلّا أنّه قدّم مادةً كافيةً من خلال عمله للقارئ؛ ليتبنّى موقفه الخاص به تجاه الحلاج ومحاكمته… ومهما يكن من أمر فبرغم ما أسداه هذا الكتاب إلى دراسة الصوفيّة من إسهام كبير نجد القارئ لا يقتنع بالضرورة بالحلاج سواء باعتباره مفكرًا أو حتى صوفيًا (ص 378).

الموقف الثالث:

وهو موقف ينطلق من التحليل النقدي لكتابات ماسينيون إلى تفسير أشمل يضم أعماله ومواقفه الحياتيّة وتوجهاته السياسية. وأصحاب هذا الموقف يدركون القيمة المعرفيّة لأعمال ماسينيون وقوة المعرفة وسلطتها استنادًا على أفكار ميشيل فوكو، وهذا ما يتّضح في عمل إدوارد سعيد عن الاستشراق الذي تعرّض له في هذه الفقرة، والتي تضم ما كتبه كلّ من محمد لطفي جمعة من مصر، وحسني سبح من سوريا، حول تداخل حياة ماسينيون كمواطن فرنسي وأبحاثه كعالم بشؤون الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

1- يقدّر محمد لطفي جمعة ماسينيون تقديرًا كبيرًا كما يظهر من الفقرة التي استشهدنا بها في بداية هذه الدراسة، ويفيض في الثناء عليه والإشادة بجهوده، فهو عنده من المخلصين الذين عملوا على نشر حقائق الإسلام، ودافع عنه دفاع العارف الواثق بما فيه من علم وإدراك كما يتضح ذلك من مؤلفاته. ويؤكّد لطفي جمعة على الناحية الباطنيّة وعلى عالم السر الذي يحياه ماسينيون في وصفه له بقوله «إنّه مشغول بعالم باطني وأنّه لا يقول كل ما يعلم»[32].

لقد توطدت المعرفة بينهما وتبادلا الزيارات، فيصف لنا لطفي جمعة الغرفة التي يقطنها ماسينيون في المعهد الفرنسي بالقاهرة وما تحتويه. ويشير إلى اهتمامه بماسينيون بأنّ الأخير ألقى محاضرة بالقاهرة عن الحلاج في فبراير 1945 ترجمها لطفي جمعة تقديرًا لصاحبها وعلمه ونشرت بجريدة الزمان. كما كتب ابنه زكريا لطفي جمعة مقالاً بالجريدة نفسها عام 1949 دعا فيه ماسينيون لترجمة أعماله عن الحلاج إلى العربية؛ تعميمًا لفائدة القراء. وقد كتب ماسينيون في رسالة بتاريخ 16 يناير 1949- مشيدًا بالفكرة موضحًا رغبته في تحقيقها ‏- قال فيها: يجب عليّ أن أترجم إلى اللغة العربية دراستي عن الحلاج، كما يجب بصفة عامة أن أكتب بالعربية مختارات أعبّر بها عن تأملاتي في اللغة العربية والإسلام على مدى أربعين عامًا (ص491).

ويخبرنا رابح لطفي جمعة في كتابه عن علاقة ماسينيون ومحمد لطفي جمعة بواقعة بينهما بخصوص مقال كتبه الأخير عن الراهب دو فوكو، وكيف لم يسترح ماسينيون لمثل هذا المقال الذي يفصّل الدور الذي لعبه فوكو صديق ماسينيون في المغرب، فقد نشر في جريدة الدستور بتاريخ 16 نوفمبر 1946 مقالاً بعنوان «أسرار الاحتلال الفرنسي في المغرب: قسيس جاسوس يعاون الاحتلال». ويستوقفنا انزعاج ماسينيون الذي أخبرته السفارة الفرنسيّة بالقاهرة عن هذا المقال فراجع صاحبه فيه[33]. وقد أشار ماسينيون نفسه إلى تلك الواقعة في مقال نشره في أحاديث الثلاثاء، دار السلام 1959 بعنوان «فوكو في الصحراء».

2 – ويمضي في الاتجاه نفسه الدكتور حسني سبح فيما كتبه من «خواطر وسوانح وعبر في إحياء ذكرى مستشرق» بمجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، يوليو 1984 [34]، تعليقًا على ندوة باريس احتفالاً بالذكرى المئويّة لميلاد ماسينيون، مارس 1983 بيانًا لدور ماسينيون وصلته ببلاد الشام، خاصّة دمشق وعلاقته ببعض رجالها وضلوعه في السياسة التي سارت عليها فرنسا في الشام إبّان الانتداب الفرنسي عليها بحكم عمله في وزارة الخارجية الفرنسية، وكونه بين مستشاري المفوضية الفرنسية العليا.

ويتوقّف أمام بعض الوقائع ذات الدلالة من وجهة نظره والتي توضّح توجهات ماسينيون مثل: اختياره دراسة ليون الإفريقى أو الحسن بن محمد الوزان المعروف بيوحنا الأسد الغرناطي، الذي تنصّر وعاش في كنف البابا ليون العاشر -‏ وسفر ماسينيون إلى مراكش ثم الجزائر وعلاقته بالمارشال ليوتي Lyautey، واستدعاء ماسينيون في فترة الحرب العالمية للخدمة العسكرية والتحاقه بمصلحة الصحافة في وزارة الشؤون الخارجية، وسفره بناء على رغبته 1915 إلى الجبهات الشرقية للحرب، واشتراكه في بعض المعارك؛ ليعرف تأثير الحرب على الأرواح، وأنّ روح المرء لا تغلو لقاء مصلحة وطنه. وسافر إلى الحجاز وإلى القاهرة بمهمّة (يرجح أنّها ذات صلة بنشوب الثورة العربية الكبرى في الحجاز وما دار بشأنها من مفاوضات بين الشريف حسين وممثل إنجلترا في مصر (ص 416).

ويقصّ علينا قصّة التحاق ماسينيون عام 1917 بجورج بيكو أحد فريقي الاتفاق السري (سايكس – بيكو) والمفوض السامي الفرنسي بالشرق. ووصوله إلى بيروت بصفته ملحقًا عسكريًا برتبة نقيب (كابتن) واشتهاره بهذا الاسم (تشرين 1918) ولقبه بين العامة (الصندوقجي)؛ لأنّ بعهدته خزانة الأموال التي حملها الجيش الفرنسي للإنفاق منها من أجل التصويت لصالح فرنسا وطلب وصايتها على البلاد دون سواها، أمام لجنة كراين الأميركية لاستطلاع رأي أهل البلاد في تقرير المصير بمقتضى المبادئ التي أعلنها الرئيس ويلسون في يونيه 1919 [35].

ويعرض لمحاضرة ماسينيون في دمشق بعنوان «ملتقى الأدبين» التي يتناول فيها التعاون بين الشرق والغرب، سوريا وفرنسا. ويلاحظ الكاتب استطراد ماسينيون إلى موضوع لا يخلو الاستطراد إليه في ذلك الحين – وبوادر الثورة ضدّ المستعمر بادية في كلّ أنحاء سوريا – من مغزى حيث يقول ماسينيون: «لا أنسى تراجم مشاهير الإسلام وخاصة الحسن البصري، وأذكر أنّه ثارت ثورة في أيام الحجاج الثقفي في البصرة الخارج على ذلك الوالي الظالم فقال الحسن رافضًا الاشتراك بالفتنة: إنّ النصيحة واجبة والخروج بالسلاح حرام[36].

ويتوقف حسني سبح أمام علاقة ماسينيون والأستاذ محمد كردعلي وعتابًا له على بعض ما كتب ضد الاستعمار، وهي واقعة شبيهة بما حدث بين ماسينيون ومحمد لطفي جمعة. فالأستاذ كردعلي بعض التعليقات في مجلة المجمع العلمي العربي على ما نشره ماسينيون. وإن كانت كتابات كردعلي الأخيرة تخلو من أية إشارة إليه، وإن كان قد ذكره في موضعين من كتابه «المذكرات» يهمنا منهما الموضع الثاني بعنوان «عتاب أحباب» يشير فيه إلى عتاب الأستاذ ماسينيون له لطعنه باستعمار فرنسا وظلمها المسلمين فى شمال إفريقيا وكيف يختم صداقته لفرنسا بهذه الحملة المنكرة التي ما كانت تتوقع منه. ولا يملك كردعلي سوى الإعلان عن أسفه أن يضطره الظلم إلى استعمال هذا اللسان مع فرنسا. وينتقل إلى بيان مآثم الاستعمار في بلاد الشام وشمال إفريقيا ويتساءل عن قول ماسينيون إزاء هذه الأعمال التي لا تزال تتكرّر في مستعمرات جمهوريّته (ص 683).

3- ويناقش إدوارد سعيد ذلك ليس اعتمادًا على تحليل علاقة ماسينيون بالسياسة الاستعماريّة بل انطلاقًا من حفريات المعرفة عند ميشيل فوكو[37]. حيث ينقل عن كتاب جاك فاردنبرغ «الإسلام في مرآة الغرب» أنّ مستشرقي نهاية القرن التاسع عشر كانوا مشدودين إلى بعضهم سياسيًا، وكانوا مستخدمين على صعيد واسع من قبل الإدارات الاستعماريّة كخبراء في القضايا الإسلاميّة، ومنهم ماسينيون (ص 221). فالمستشرق الكبير كان حضوره رئيسيًا في العلاقات الإسلاميّة الفرنسيّة فى السياسة كما في الثقافة. واعتمادًا على أنّ المعرفة قوّة أو سلطة، يسعى الكاتب العربي الفلسطيني إلى تحديد بنية عالم ماسينيون الثقافى؛ لقد اتّخذ ماسينيون نقطة انطلاقٍ لعمله وجود الديانات الإبراهيمية الثلاث، ومن بينها الإسلام، الذي استثنى من الوعد الإلهي لإسحاق؛ لذا فهو دين مقاومة مقابل المسيحيّة واليهوديّة في الخارج والهرطقة في الداخل.

لقد آمن ماسينيون -‏ كما يخبرنا إدوارد سعيد -‏ أنّه ضمن الإسلام وداخله كان قادرًا على تلمّس نمط من التيّار المضاد أصبحت رسالته الفكريّة أن يدرسه. وكان النموذج المثالي لماسينيون هو الحلاج الذي سعى لتحرير نفسه خارج الجماعة السنيّة، بالبحث عن الله، وأخيرًا بنوال الصلب عينه الذي يرفضه الإسلام رفضًا قاطعًا. وكان محمد قد رفض عمدًا ‏- كما يرى ماسينيون – الفرصة التي أتيحت له لعبور الهوّة التي كانت تفصله عن الله. لذلك فإن إنجاز الحلاج تمثّل في أنّه حقّق وحدة إسراريّة بالله، وضدّ الطبيعة النظرية للإسلام.

والسؤال هل كان تعاطف ماسينيون مع الاتجاه الإسراري في الإسلام لتأثيره التمزيقي ضمن جسد المعتقدات السنية أم لقربه إلى مزاجه الشخصي ككاثوليكي ورع (ص 271)؟ إنّ ماسينيون كان ذا شبوب انفعالي آمن أن عالم الإسلام يمكن اختراقه ليس فقط عن طريق البحث، بل عن طريق تكريس النفس لجميع أوجه نشاطاته التي لم يكن أقلّها عالم المسيحيّة الشرقيّة المنضوية ضمن الإسلام، والتي تلقّت إحدى جماعاتها الفرعيّة (البدلية) تشجيعًا حارًا من قبل ماسينيون (ص 270).

ينقلنا موقف المفكرين العرب الأخير إلى تحوّلات ماسينيون نفسه، الذي انتقل من التاريخ والآثار إلى الدراسات الإسلامية والتصوف إلى الواقع الاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي. وهو مما يمهّد لنا الانتقال من مواقف العرب تجاه كتابات ماسينيون إلى موقف ماسينيون من القضايا العربية المعاصرة.

ثانيًا: موقف ماسينيون من القضايا العربيّة المعاصرة

توقف الروّاد الأوائل أمام مواقف ماسينيون المناصرة للقضايا العربية الإسلاميّة، سواء تحمسه استقلال المغرب ومساندته لمحمد الخامس أو مناصرته لعمال الجزائر، وحرب السويس أو تعليمه اللغة الفرنسيّة للمسلمين المهاجرين من شمال إفريقيا إلى فرنسا، وهي مواقف ذات صبغة سياسية واضحة[38]. فماذا لو حللنا بعض كتابات ماسينيون المتعلّقة بالقضايا العربيّة الإسلاميّة التي شغل بها ماسينيون وكتب فيها. سوف نتوقف أمام عملين يظهران موقف المستشرق الكبير من هذه القضايا: أوّلهما حول الاتّجاهات الدينيّة في المغرب العربي، والثاني حول فلسطين.

1- يقدّم ماسينيون في بداية بحثه عن «الحركات الحديثة في العالم الإسلامي» (إفريقية ما عدا مصر) ‏- الذي يمثّل الفصل الثاني من كتابه المشترك مع هاملتون جب «وجهة الإسلام»[39] – بمقدمة هامة توضح الهدف الحقيقي من البحث. ويتّضح هذا الهدف من تحديد من الذي يخاطبه ماسينيون في هذا البحث؟! إذ ينبهنا ماسينيون أن علينا قبل البحث في حركات الفكر الإسلامي الحاضرة علينا أن نفهم أسباب تلك الحركات وما يميّزها، ويرى أنّ ذلك يتم بأن نربط بين الحوادث المتتالية لنكون منها سلسلة يظهر فيها التطوّر وهو منهج يندر وجوده بين المسلمين.

يصف ماسينيون هذه الحركات بأنّها تظهر كالبرق الخاطف والهزات التي لا تكاد تستغرق زمنًا، أو الانفجارات العنيفة التي تشتدّ برهة ثم تهدأ. تستعد في خفاء وصمت وتندلع فجأة دون أن يسبقها نذير يمكن أن يرى. ويحلّل هذه الحركات على الوجه التالي: أوّل هذه الأدوار هو «النداء»، «النداء الباطني» الذي يهيب بالضمير الاجتماعي ويوقظه وإن ظلّ في حالة هدوء ظاهري أو في حالة «قعود» أو «تقية» أو كتمان. وإذا نضج هذا النداء تبعه الدور الثاني مباشرة وهو دور «الدعوة» دعوة القبائل لامتشاق الحسام أو للنفير العام الذي يجاهد جنوده ليستردوا بالسيف ما تعطّل من حقوق الشريعة. وهذا هو المفهوم الذي يصدق على كل الحركات[40].

والهدف من هذا التحليل الأوّلي «هو أن نضع هذه الحقائق نصب أعيننا إذا أردنا أن ندرك أي أساس واهٍ تقوم عليه المنشآت الأوروبية في بلاد الإسلام. فبعد أعوام من السكينة ربما تندلع بغتة نار الدعوة إلى الجهاد ونحن أبعد ما نكون توقعًا لها».

واضح أنّ ماسينيون يكتب عن العرب المسلمين بلغةٍ ليست عربية ولقارئ آخر غير العرب المسلمين.

يتناول ماسينيون في أربع فقرات وخاتمة بالتحليل والإحصاءات وضع الحركات الفكرية في المغرب العربي[41]. يقارن البيئة الاجتماعيّة الإسلاميّة في المغرب بنظيرتها في المشرق. فالفوارق بينهما ليست ظاهرية فحسب ولكنّها تتغلغل في الصميم. وإذا نظرنا إلى الناحية الفكرية لم نجد شخصيات بارزة كثيرة أو مفكرين نابهين كالذين يكثرون في المشرق، وليست هناك جمعيات تقوم لنشر مبدأ «كالرابطة الشرقية» في مصر؛ وذلك لأنّ لمسلمي المغرب عقولاً عمليّة من الطراز الأوروبي. أمّا عقيدتهم فقد احتفظوا بصلابة موروثة عن صدر الإسلام حينما نهض البربر الذين دخلوا في الإسلام وبدافع العداء لسوء حكم الخلفاء اعتنقوا مذهب المتطرفين من الخوارج. والمغربي يجمع إلى هذا استعدادًا للأخذ بالوسائل الماديّة فى الحياة الفرنسيّة ليتّخذ منها أداةً تعينه على بلوغ الغاية في أغراض الحياة العملية ما دامت تلك الوسائل لا تناقض الإسلام.

ويميّز ماسينيون بناء على ما سبق بين ثلاثة اتجاهات رئيسيّة في حركة الفكر بين مسلمي المغرب، هي:

– الحركة الإصلاحيّة التى غايتها فصل الدين عن الدولة. ويقود هذه الحركة طلاب ومدرسو المدارس الفرنسية والموظفون وينشرون آراءهم في الجرائد التي تصدر بالفرنسية.

– حزب السلفيين المتشدّدين الذي ينزع نزعةً نصف وهابية، وهو شعبة من الحركة التي تمثلها في القاهرة مجلة «المنار»، لذلك يحتفظ بصلةٍ معها ويترسم خطاها. وله بعض التأثير بسبب برنامجه المنطوي على الرجوع إلى تعاليم القرآن التي لم يتطرق إليها الفساد.

 – وتتكون الفرقة الثالثة من أتباع الطرق الصوفيّة القديمة، وشخصيات منفردة مثل غلام الله، الذي يدعو إلى سياسة ترمي إلى عقد اتفاق ديني بين الإسلام والحكومة الفرنسية. وتقترن دعايته (كما يعلق ماسينيون) بضرب من الكياسة فى التجديد.

ويعرض ماسينيون في الفقرة الرابعة لأهم المسائل التي يدور حولها البحث في الدوائر الإسلاميّة وتعليقه عليها، وهي:

1- مشكلة الهوية (Nationalism) والتى أثارت ثلاثة تيارات فكريّة متمايزة: فهناك حزب يقتصر على قليل من المثقفين ثقافة فرنسيّة ويرى حلّ المسألة في اتخاذ الهوية (الجنسيّة) الفرنسيّة اتخاذًا تامًا. أمّا الحلّ الثاني فهو بعث أمة مغربية تقوم على فكرة جنس أصلي، هو الجنس البربري. ولا يؤيّد هذا الحلّ الآن إلّا قلّة من البربر. والحلّ الثالث هو فكرة «الجامعة العربية» التي ترمي إلى تقريب الأواصر بين الأقليّة العربية في مدن المغرب وبين الشرق العربى بإعادة تعلّم اللغة العربية الفصحى. وكلّ زعماء حزب السلفيين المتشدّدين وكلّ زعماء الصوفيّة يؤيّدون برنامج الجامعة العربية تأييدًا قويًا.

ويتابع ماسينيون تحليل القضايا التي تشغل الاتّجاهات الدينيّة المختلفة في شمال إفريقيا ويعرض – حين يتناول المسألة الثانية – مسألة الاتحاد أو تكوين جبهة تسعى لتحقيق الغايات السياسيّة التي يطمح إليها الجميع، والتي حدث اهتمام كبير بها في السنوات الأخيرة. والمسألة الثالثة إصلاح الشريعة الإسلامية. ويلاحظ ماسينيون في هذا الصدد أنّ المغرب محافظٌ أشدّ المحافظة لما ورث من نزعةٍ مالكيّةٍ قويّةٍ. ولم تفلح السياسة التقليدية التي تجري عليها فرنسا إلّا في تقوية هذه النزعة. ويذكر من المسائل الفرعيّة: مسألة إصلاح مكانة المرأة، ومسألة إدارة الأوقاف الدينية، أما من الناحية الاقتصادية فهناك -‏ كما يرى – نزاعات واضحة ترمي إلى اتّخاذ وسائل فرنسا وأنظمتها، فقد دخل الإصلاح في نقابات العمّال واتحاداتهم الصناعيّة.

ويذكر المستشرق الكبير في خاتمة بحثه أنّ المشرق لا يزال يؤثّر في مسلمي المغرب تأثيرًا لا ينكر ولا سيّما في مسألة الجامعة العربية. ولكنّه يضيف أنّ تيّار التطوير يزداد اتّجاهًا نحو باريس وإليها -‏ لا إلى المشرق- حيث نجد جمهور أهل المغرب يولون وجوههم. ويرى أنّه يستحيل حلّ المسألة الدقيقة؛ مسألة إنشاء أنظمة نيابيّة وتمثيل المسلمين تمثيلاً قائمًا على الانتخاب بإنشاء مجلس نيابي في مدينة الجزائر، فسيقوم على الفور صدام بين الوطنيين والمستعمرين الذين ينقلون عنهم كثيرًا في العدد، وليس من الممكن إنشاء مملكة مستقلة فى المغرب، لكن فكرة إنشائها تلقى عناية متزايدة في باريس عن طريق تمثيل المسلمين فيها.

إنّ هذا الاهتمام الدائم بتحليل الوضع الديني والاجتماعي في المجتمعات العربية الإسلامية يتوجّه به ماسينيون للمجتمع الأوروبي لا العربي، ويظهر فيه توضيح الميل نحو الأنظمة الغربية ميلاً مقابلاً للاتجاه نحو المشرق، بل يظهر فيه التأكيد على الفروق الجوهريّة بين المشرق والمغرب. والواقع أنّنا لا نختلف مع تحليلات ماسينيون التي تطرح علينا سؤالاً مهمًا كيف نتعامل معها؟

2- وتظهر القضيّة الأهم التي تشغل ليس ماسينيون فقط بل كلّ العرب والمسلمين، وهي قضيّة فلسطين التي تناولها ماسينيون في العمل الذي تعرّض له الآن، وهو «فلسطين والسلام في العدل» التي نشرها عام 1948 في مجلة لاهوتيّة. وترجمها ونشرها حسن الشامي في مجلة الكرمل العدد 26 عام 1987 مع دراسة للمهاتما غاندي بعنوان فلسطين في نصين. ونودّ قبل أن نعرض لدراسة ماسينيون أن نشير بإيجاز إلى موقف غاندي، الذي رغم اعترافه بأنّ تعاطفه يذهب كليًا نحو اليهود بسبب اضطهادهم، فإنّ فلسطين هي للعرب، كما أنّ إنجلترا للإنجليز، وفرنسا للفرنسيين، وإنّه لخطأ فادح وأمر غير إنساني أن يتم فرض اليهود على العرب فرضًا. إنّ ما يجري اليوم في فلسطين كما يقول غاندي، لا يمكن تبريره باسم أي مبدأ أخلاقي[42].

إنّ صورة ماسينيون لدى العرب ‏- كما أشرنا ‏- هي صورة الرافض لسياسات الاستعمار التقليدي. وهو ينتقده في كتاباته مستلهمًا التاريخ الإسلامي والأمثال العربية، ويشير لمثلٍ يقول «الجار قبل الدار». إلّا أنّ المستوطنين الفرنسيين للجزائر للأسف قليلو الرغبة في تطبيق هذا المثل على تعاملهم مع العرب، وأنّهم باسم الحماية من «جامعة الأمم العربية» إنّما يشجعون المشروع الصهيوني في فلسطين منقادين بضرب من التضامن الاستعماري ضدّ العرب (ص 170) هكذا كتب ماسينيون مدينًا موقف السياسة الاستعماريّة الفرنسيّة تجاه المشروع الصهيوني.

تلك هي الصورة المعروفة عن ماسينيون الذي يرفض المدخل الاستعمار التقليدي، ويعلن ذلك على الملأ. إلّا أنّه هو أيضًا له مدخل آخر مختلف لهذه القضيّة وطريق ثانٍ إلى فلسطين فهو يرى:

– أنّ اليهود قد حافظوا على الرغم من مراوغات التاريخ الظاهريّة على شوقهم الروحي نحو الأراضي المقدّسة بصفتها رهنًا ماديًا يتعالى على المادة و«إنّ إسرائيل الحقيقيّة هي ثمرة تضحية إسحق. لم يعد إسحق إلى والده نهائيًا إلّا لأنّ والده قدّمه للتضحية، ولم تكن الأجيال اللّاحقة لتعرف إسحق لولا أنّه ارتضى تلك التضحية بصمت، وعلى الغرار ذاته فقد جرى التدريب البطيء لأبنائه على العودة إلى الأراضي المقدّسة بروحيّة التكفير والدموع التي تدعو لها شعائرهم الدينيّة».

– وكان العرب كذلك يتطلّعون إلى تلك الأراضي «المعمورة» التى يفيء إليها البدوي وإليها يعود كلّ صيف ليرعى قطعانه. وعرف الإسلام ذلك التطلع على شكل حلم راود النبي قبل عام من الهجرة عندما تراءى له أنّه محمول خلال الليل إلى القدس ومنها إلى السماء (ص 172).

ويتحدث ماسينيون – وهذا هو موقفه ‏- عن مصلحة أو صلح بين العرب واليهود وأنّ هذا الصلح يمكن أن يأتي على يد طرف ثالث، هو الطرف المسيحي، وهو بالطبع ليس طرفًا هامشيًا ولا حاكمًا، بل طرف مشارك وصاحب حقّ. فالأراضي المقدّسة للمسيحيين ‏- كما يقول -‏ «بمثابة المصيف الأثري»، بل إنّها وطن النفوس حتى قبل الموت، ويتعيّن على أحبارهم، بل على رئيس أحبارهم أن يعود يومًا إلى كرسيّه في القدس. ويرى ضرورة مراجعة خريطة التقسيم الحالية التي يستحيل العيش في ظلّها.

يقول: «إنّ الناصرة موطن عذراء يهوديّة الأصل لا حدَّ لتواضعها وعظمتها أمام الشعب المسيحي، القديسة الكاملة القداسة للشرق المسيحي، بل والإسلامي أيضًا. والنبع المختوم الذي لا تزال إسرائيل المرتابة تجهل سرها. إنّ كهف البشارة في الناصرة لهو نبع آخر من ينابيع القوّة الروحيّة عند المسيحيين وهناك قام شارل دي فوكو، في استكشاف الحقيقة التي تحدثت عنها في البداية. لا، لا يمكن للناصرة أن تكون موضع مقايضة. ينبغي أن تبقى للذين يفهمون سرّها ويحترمونه»[43].

هنا – في هذا النص وبقيّة عبارات ماسينيون التالية – يظهر لنا أنّ ماسينيون وكما يخبرنا لا ينسى أبدًا الأراضي المقدّسة التي يتطلع إليها دومًا، ويربط بين الناصرة ومن يعرفون سرّها الحقيقي. وبقيّة النص تؤكّد تداخل المقدّس والدنيوي، الصوفي والسياسي. ويكفي أن نقرأ العبارات التالية للنص السابق بعد سطور عدّة. يقول: علينا أن نواجه الدور العالمى المسقبلي للأراضي المقدّسة؛ حيث يجب أن يسود السلام والعدل. وإني إذ أستعيد هذا النذر من السربون القديمة بصيغته التوراتيّة الحرفيّة كما علمتنا إياه – إسرائيل: فلتبتر يميني إذا نسيتك يومًا يا أورشليم المقدّسة. يا وطننا فوق كلّ الأوطان، وأمّنا فوق كل الأمّهات، فإنّي أدافع عن الشرف البتولي لأمي، لأمنا جميعًا وهو أيضًا الشرف الأسمى لإسرائيل، الذي عنه أدافع؛ لأنّها ولدت يهوديّة مع أنّ إسرائيل لا تزال غافلة عن ذلك» (ص 175).

يبدو هنا أنّ غاندي ولويس ماسينيون في هذه القضيّة بالتحديد، هو الذي يطالب بحقّ العرب في فلسطين. إنّ المستشرق الكبير الذي يتّسق تمامًا مع أفكاره ينتقل من الرّوح إلى الواقع متجاوزًا التاريخ الذي يؤكد عليه غاندي؛ مما يجعلنا نتساءل بحقّ عن تداخل السياسي والصوفي عند العارف الكبير الباحث عن السلام في العدل!

——————————-

[1][*]- أستاذ جامعي، وباحث متخصص، مصر.

– عرف ماسينيون في الصحافة العربية مبكرًا، ففي العدد الثامن من مجلة «المشرق» التي تصدر في بيروت 1908 أورد المستشرق لغزًا لغويًا في أبيات الحلاج، ص 636. وقد ردّ عليه إبراهيم يوسف مسابكي، في العدد التالي، ص 880 – 881 بحل اللغز. وقد أورد د. إبراهيم بيومي مدكور البيت السابق في مقالة بمجلة مجمع اللغة العربية، المجلد 17، ص 119، وكتب عنه أيضًا في كتابه «مع الخالدين: مجمع اللغة العربية في عيده الخمسين»؛ القاهرة 1981، ص 97 – 105. وكذلك في الكتاب التذكاري الذي أصدرته جامعة القاهرة في الذكرى المئوية لميلاده 1983 عن «الأستاذ لويس ماسينيون» بالفرنسية، ص 13 – 14 و«لويس ماسينيون المجمعي»؛ ص 35 – 38.

[2]– قدم الكتاب والباحثون العرب دراسات متعددة حول ماسينيون. يراجع في ذلك أحاديث الثلاثاء، دار السلام، القاهرة 1962، والكتاب التذكاري عنه، جامعة القاهرة 1983؛ وبالإضافة لما سنشير إليه في سياق هذه الدراسة من أعمال نذكر على وجه الخصوص: د. أديب عامر: ماسينيون المستشرق والإنسان، مجلة الفكر العربي، بيروت، العدد 31، الجزء الأول (يناير – مارس 1983)، ص ص 350 – 372. وساسي الحاج: الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية، مركز دراسات العالم الإسلامي، ليبيا، المبحث الخامس: منهجية ماسينيون في الدراسات الإسلامية. ونجيب العقيقي: المستشرقون، الجزء الأول؛ دار المعارف؛ ط 4، القاهرة، ص ص 266 268؛ وأحمد عبد الحليم عطية: القاموس الفلسفي العربي، تقديم وتطوير محاولة ماسيئيون، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، العدد 48، ص ص 1 – 53.

[3]– نشير على وجه الخصوص إلى العلاقة القوية التي كانت تربطه بعائلة الألوسي في العراق، خاصة السيد محمود شكري الألوسي. «الذي أخذ عنه ماسينيون، واعترف بفضل الألوسي عليه ومساعدته له أثناء مجيه إلى العراق 1907 1908، حيث لازمه ملازمة الظل… وكثيراً ما كان يستوضح من أستاذه الألوسي ما يغمض عليه من الأمور التي تواجهه أثناء البحث، فلا يتأخر الرجل عن مساعدته ولا يتقاعس عن مده بكل ما ينفعه في الحلاج» (ص 11 وما بعدها). السيد محمود شكري الألوسي: اتحاف الأمجاد في ما يصح به الاستشهاد، تحقيق عدنان عبد الرحمن الدوري، مطبعة الإرشادء بغداد 1982. ويذكر لنا مجموعة من مراسلات الألوسي منها رسالة لويس ماسينيون المستشرق الفرنسي التي يستفسر فيها عما يمكنه أن يفيده إياه الألوسي حول أخبار الحلاج. المصدر السابق، ص 33. ونشير كذلك إلى علاقته الوثيقة مع طه حسين الذي تتلمذ على دروس ماسينيون بالجامعة المصرية القديمة، وأيضا كرد علي وظافر القاسمي في دمشق وغيرهم .

[4]– انظر: جمعة، رابح لطفي: محمد لطفي جمعة وهؤلاء الأعلام، دار الوزان، القاهرة، 1991، ص 482.

[5]– كمال يوسف الحاج: إهداء ترجمته لكتاب برجسون: معطيات الوجدان البديهية، دار الكنوز، الفكر العربي، بيروت، 1945.

[6]– سالم حميش: الاستشراق في أفق انسداده، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط عام 1991م، الصفحات 41، 75 -77.

[7]– انظر: عن مصطفى عبد الرازق وجهوده دراسة د. علي المغربي: الشيخ مصطفى عبد الرازق، دار المعارف، القاهرة. والكتاب التذكاري الذي أصدره المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، القاهرة 1982م.

[8]-ماسينيون، ومصطفى عبد الرازق: الإسلام والتصوف، ترجمة وإعداد ونشر: إبراهيم زكي خورشيد، مطابع دار الشعب بالقاهرة 1979. وهي إعادة نشر مادة تصوف التى كتبها ماسينيون وتعليق مصطفى عبد الرازق عليها فى دائرة المعارف الإسلامية.

[9]– مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1944، ص 27.

[10]– المرجع السابق، ص ص 41 – 42.

[11]– راجع كل من أحمد عبد الحليم عطية: الصوت والصدى، الأصول الاستشراقية في فلسفة بدوي الوجودية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1990. وكذلك إدوار مانتيه: لويس ماسينيون – عبد الرحمن بدوي: دراسة حول الانتقال من عمل إلى آخر. بحث من أعمال ندوة بدوي بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، مايو 1997 (غير منشورة).

[12]– عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين، دار العلم للملايين، بيروت»، لبنان 1984. وهي إعادة لما نشره من قبل في أحاديث الثلاثاء، دار السلام، القاهرة 1962. وفي شخصيات قلقة في الإسلام، دار النهضة العربية؛ القاهرة 1964، ص: (و -يز).

[13]– ترجم له بدوي من «شخصيات قلقة في الإسلام» أعمالاً ثلائة هي: «سلمان الفارسي والبواكير الروحية في الإسلام في إيران»، و«المنحنى الشخصي لحياة الحلاج الشهيد الصوفي في الإسلام»، و«المباهلة»، القاهرة 1964.

[14]– عبد الرحمن بدوي: الإنسان الكامل في الإسلام، وكالة المطبوعات الكويتية، ط 2، عام 1976 (ص  103 – 143).

[15]– بدوي، عبد الرحمن: شطحات الصوفية، ط3، الكويت، وكالة المطبوعات، 1987، صفحات 4 – 34 – 39 – 43.

[16]– م.ن، ص57.

[17]– بدوي: موسوعة المستشرقين، ص 326.

[18]– يتناول بدوي في الفصل الأول من كتابه التصوف الإسلامي: مقدمات ومشاكل لاسم التصوف والآراء المختلفة في اشتقاق هذا الاسم، ويناقش ماسينيون ويصحح تفسيره لمعنى صوفة (ص 16). كما يعتمد على ما كتبه في مادة تصوف في دائرة المعارف الإسلامية في بيان أول تاريخ لظهور اللفظ «صوفي». كما يعتمد على دراسة ماسينيون «بحث في نشأة المصطلح الفني للتصوف الإسلامي» (ص 24). وحين يعرض للدور الاجتماعي للتصوف «بين أنه دور قد أبرزه ماسينيون» وقوة التصوف الإسلامي الدائمة ليست في الانعزال المخزون الذي أصبح فيه المجذوب، بل هي الشوق الخارق إلى التضحية في سبيل إخوانه في الوجد العالي للاستشهاد الذي تغنى به الحلاج» (ص 25). كما يظهر اعتماده على ماسينيون في الفقرة التي خصصها لدور الصوفية في نشر الدعوة (ص 34).

[19]– بدوي: مقدمة تحقيق كتاب أرسطو: النفس، ص 28.

[20]– بدوي: موسوعة المستشرقين، م.س، ص 364.

[21]– راجع: عطية، أحمد عبد الحليم: المماثلة والمقابلة: قراءة ثانية في موقف بدوي من المستشرقين؛ مجلة المسلم المعاصر، العدد 79.

[22]– أبو الوفا التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1979.

[23]– أبو الوفا التفتازاني: ماسينيون ودراسة التصوف الإسلامي، كتاب الذكرى المئوية لميلاد ماسينيون، جامعة القاهرة، 1984، ص71.

[24]– ويتلخص هذا المنهج في أولاً: الاتجاه إلى الكشف عما هو جديد من موضوعات التصوف الإسلامي ومذاهبه وشخصياته، وثانيًا: البحث عما يكون موجودًا من علاقات بين التصوف الإسلامي وشخصياته ومذاهبه والتصوف في الحضارات والديانات السابقة على الإسلام، ثالثاً: تتبع المصطلحات الصوفية في تطورها التاريخي وإرجاعها إلى أصولها الإسلامية أو إلى أصول أجنبية من الفلسفات القديمة إذا كانت ترجع إلى مثل هذه الأصول الأخيرة، رابعاً: عدم اللجوء إلى فروض أو تخمينات في البحث لا دليل عليها وعدم التعجل في إثبات فرض من الفروض، خامساً: الالتزام بالموضوعية في البحث والتي تتمثل في الاحتكام دائماً إلى النصوص. انظر: التفتازاني: ماسينيون ودراسة التصوف الإسلامى، م.س، ص 74 -75.

[25]– أبو الوفا التفتازاني: ابن عطاء الله السكندري وتصوفه، القاهرة، ص 58.

[26]– يعتمد التفتازاني في قائمة مراجعه على ابن سبعين في دراسة ماسينيون: ابن سبعين والنقد النفساني في تاريخ الفلسفة الإسلامية، الجزء الثانى، باريس 1928، ص 124 وما بعدها؛ وعذاب الحلاج، ومادتي طريقة، والطواسين بدائرة المعارف الإسلامية. انظر: التفتازاني: ابن سبعين وفلسفته الصوفية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973.

[27]– تتلمذ أبو ريان على ماسينيون ويعتز بذلك ويعلن عنه في سياق دفاعه عن ماسينيون فيما أدلى به لتلميذه على عبد المعطي في مقال بمجلة الدوحة القطرية، العدد رقم 110، فبراير 1985 تحت عنوان (لويس ماسينيون: كان محبا للعرب والمسلمين ولم يكن جاسوسا).

[28]– هذا التفسير الذي يخبرنا به أبو ريان يظهر منذ أول مقال لماسينيون في التصوف، 1912، الذي قدمه في مؤتمر أثينا للمستشرقين، وفي مقالة «أنا الحق» الذي شرح فيه الشطحة الحلاجية، كما يبدو في رسالته للدكتوراه عن «عذاب الحلاج» أنظر أبو ريان: مناقشة التفسير المسيحي للتصوف الإسلامي عند لويس ماسينيون وبالنسبة للحلاج خاصة، الملتقى الإسلامي بالجزائر، أغسطس 1987، ونشر في كتاب: الحركة الصوفية فى الإسلام، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1994.

[29]– محمد علي أبو ريان: أصول الفلسفة الإشراقية، دار المعرفة الجامعية بالإسكندرية، المقدمة. ص 5 وما بعدها.

[30]– محمود قاسم : الحلاج والقرامطة وماسينيون، حوليات كلية دار العلوم جامعة القاهرة، العدد الثالث، 1970 – 1971.

[31]– محمد بن عبود: منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي، في مناهج المستشرقين فى الدراسات العربية الإسلامية، الجزء الأول، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1985.

[32]– رابح لطفي جمعة: محمد لطفي جمعة وهؤلاء الأعلام، ص 485

[33]– يقول ماسينيون: «في زيارتي للقاهرة في نوفمبر 1946 لحضور اجتماع المجمع اللغوي» أبلغتني السفارة الفرنسية بنشر مقال في جريدة الدستور في 16 نوفمبر 1946 قال فيه صاحبه: طالما أننا سوف نشجع تجسس هؤلاء القسس مسلمين بفكرة أن الراهب دو فوكو قد استطاع أن يكون قديساً في الجنة لأنه خدم الجاسوسية الفرنسية فلن نؤدي واجبنا أبداً. إن هؤلاء القسس التابعين للمكتب الثاني يدمرون حرية الشعوب بترديد اسم اللّه، كبرت كلمةٌ تخرج من أفواههم. فلما أخبرتني السفارة بنشر المقال وهي تعلم صداقتي لشارل فوكو، ذهبت لمقابلة كاتبه محمد لطفي جمعة. فلما راجعته أجابنى بأنه لم يقم إلا بترجمة مقال فرنسي للكاتب ج. كارتيه ثم أضاف لماذا إلى هذا الحد يصدمك ما يثير إعجاب مواطنيك». المرجع السابق، ص 496 – 497.

[34]– حسني سبح: خواطر وسوائح وعبر في إحياء ذكرى مستشرق، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، العددين يوليو وأكتوبر 1984.

[35]– يعتمد سبح في ذلك على ما جاء في كتاب «رؤساء لبنان كما عرفتهم» للسيد إسكندر الرياشي؛ وهو ذو صلة وثيقة بالفرنسيين حتى قبل الحرب، وكان من أفراد المكتب الثاني يقول: «إن الأموال المصروفة سياسياً بلغت خمسة ملايين جنيه مصري في هذه الأيام» ويضيف واصفاً الكابتن ماسينيون بقوله: هذا الصندوقجي يعرف العربية جيداً حتى يستطيع أن يفهم على الناس وأن يفهموا عليه إذ كانوا لا يعرفون الفرنسية» ويعترف السيد إسكندر في كتابه أنه قبض منه في الدفعة الأولى خمسين ألف جنيه مصري في سبيل الدعاية لفرنسا وطلب وصايتها (ص 689)، المصدر السابق.

[36]– لويس ماسينيون: ملتقى الأدبين، مجلة مجمع اللغة العربية، دمشق، العدد الأول، ص ص 24 – 28 نقلا عن حسني سبح، المصدر السابق.

[37]– إدوار سعيد: الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، ط 2، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1984.

[38]– يتضح ذلك فيما ذكره إيراهيم بيومي مدكور عنه في دراسته المشار إليها فى مجلة مجمع اللغة العربية، المجلد 17 حيث يقول: «وقد كان ماسينيون متصوفاً حقاً، يقف بجانب الضعفاء، وينتصر للمظلومين، وتصوفه وثيق الصلة بدراساته وآرائه الاجتماعية» (ص118) دفعه واجب الأخوة في الله إلى أن يعطي العمال الجزائريين المقيمين في مقاطعة السين دروساً مسائية في اللغة الفرنسية… ويوم أن حكم على بعض نواب مدغشقر بالإعدام لم يستقر له قرار إلا بعد أن استصدر العفو عنهم. . . دعا إلى استقلال مراكش وأيد محمد الخامس واستنكر تصرف الجلاوي وعارض حرب الجزائر كما عارض حرب السويس. وجرت عليه معارضته ما جرت من أذى وعدوان، فقبض عليه مرة في فنسين وقيد إلى مركز الشرطة، وعومل معاملة الأشرار. وضرب مرة أخرى ضرباً مبرحاً في اجتماع عام، كان يعرض فيه قضية الجزائر» مدكور، ص 119، ونفس الصورة يقدمها لنا أبو ريان فيما كتبه عنه في مجلة الدوحة.

[39]– لويس ماسينيون: إفريقية ما عدا مصر، الفصل الثاني من كتاب «وجهة الإسلام، نظرة في الحركات الحديثة في العالم الإسلامي»، تأليف هـ. جب ول. ماسينيون، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، المطبعة الإسلامية، القاهرة 1943.

[40]– ويمكن مراجعة المواد التي كتبها في دائرة المعارف الإسلامية والتي تنحو نحو اختيار مثل هذه الموضوعات المتعلقة بـ: (الزنج) «الذين أثاروا الفزع والرعب في القسم الأدنى من العراق خمسة عشر عاماً» وقائدهم علي بن محمد. و(الشراة) هو الاسم الذي أطلقه غلاة الخوارج على أنفسهم.

[41]– وهو أهتمامٌ أصيل لدى ماسينيون الذي يحرص على ذكر الجماعات والطوائف والقبائل المختلفة وأسماء زعمائها وعدد كل منهم ودورهم كما يتضح ذلك بصورة جلية في تقويم العالم الإسلامي. فقد استوقفته بعض الظواهر الاجتماعية في ماضي الإسلام وحاضره فدرس العمل والمشكلة العمالية في الإسلام والمهن والحرف في المغرب وأثر الإسلام في نشأة المصارف اليهودية في القرون الوسطى وعرض لتعليم المرأة والحجاب وموقف الإسلام من الحضارة الأوروبية وتابع الأحداث الجارية في جرأة وصراحة» مدكور: المصدر السابق، ص 115. والكتاب السنوي للعالم الإسلامي Annales du monde musulman الذي أصدره ثلاث مرات بين عامى 1923 -1954 وهو مصدر مليء بالمعارف الدقيقة والمعلومات الوثيقة فى الثقافة والسياسة والاقتصاد عن العالم الإسلامي بأسره في إفريقيا وآسيا وأوروبا، مدكور، ص 116.

[42]– غاندي -‏ ماسينيون: فلسطين والسلام في العدل، ترجمة: حسن الشامي، مجلة الكرمل، تحت عنوان المهاتما غاندي ولويس ماسينيون:  فلسطين في نصين، العدد 26، عام 1987، ص 164 وما بعدها.

[43]– ماسينيون: المصدر السابق، ص 173 -174.

رابط المصدر:

https://www.iicss.iq/?id=40&sid=410

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M