الصين وإفريقيا: الشراكات غير المقيدة

بروفيسور بوحنية قوي

 

طورت الصين علاقاتها بإفريقيا وملأت الفراغ الذي خلَّفه تراجع النفوذ الغربي، وبالنظر إلى حجم المخاوف الغربية من هذه الوضعية يتجه المنظِّرون الغربيون إلى تبني خطاب يحث صانعي السياسات بالغرب على أن يعوا أنَّ الفراغات التي خلفها انسحابهم من إفريقيا ستملؤه الصين بسعيها لتطوير علاقات بإفريقيا.

بالمقارنة مع ممارساتها الماضية، تتخذ الدبلوماسية الصينية بالفعل وجهًا جديدًا؛ حيث كانت الصين تركز قبل الثمانينات على صون الأمن القومي. ومع الثمانينات وحتى أوائل القرن الحالي صار التركيز على إيجاد بيئة ممتازة للنمو الاقتصادي. والآن أصبحت الصين تركز على أن تكون لها حصة أكثر فعالية في الشؤون الدولية، وعلى الذي يجب أن تلعبه أية قوة مسؤولة على أساس خدمة المصالح الأمنية والمزاوجة بينها وبين تلك المتعلقة بالنمو. بل إن لعب دور القوة المسؤولة، يستوجب الاستفادة من الآليات متعددة الأطراف والبدء بدبلوماسية متعددة الأطراف(1).

تعتمد الصين في توطيد شبكة علاقاتها الدولية الإقليمية على حزمة “أخلاقية/اقتصادية/سياسية” تشكِّل في مجموعها “القوة الناعمة”. إن القوة الناعمة (soft power) هي ما يجعل الصين تدخل في شراكات غير مقيدة بأجندة زمنية محددة، لكنها في المنظور الاستراتيجي تحقق درجة عالية من الفعالية والنجاعة في تحقيق أهدافها.

إبَّان العقود الثلاث الأخيرة، تمكنت الصين من تدعيم التقارب مع الدول الإفريقية، واعتمدت على ما يطلق عليه “الدبلوماسية الناعمة” وهي أعمق أنواع الدبلوماسية تأثيرًا في العالم، واستفادت من الإخفاقات الغربية في إفريقيا، فتبنَّت أدوات تبتعد عن القوة الصلبة (القوة المسلحة)، مثل الثقافة والقيم السياسية والعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية التي يمكنها صناعة قوة عظمى كبيرة.

خلال الثورة الثقافية (1966-1976)، وتحت التأثير من الأيديولوجية الثورية الراديكالية، قدمت الصين مساعدات كثيرة لإفريقيا، وشملت المساعدات إنشاء خطة السكك الحديد بين تنزانيا وزامبيا حيث قدمت الصين قرضًا بـ 988 مليون يوان بفائدة صفر. وأسهمت مشاريع المساعدات الخارجية في إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مجموعة من الدول الإفريقية والصين، فقد أقامت 19 بلدًا إفريقية علاقات دبلوماسية مع الصين خلال الثورة الثقافية، شملت غينيا الاستوائية (1970)، وإثيوبيا (1970)، ونيجيريا (1971)، والكاميرون (1971)، وسيراليون (1971)، ورواندا (1971)، والسنغال (1971)، وموريشيوس (1972)، وتوجو (1972)، ومدغشقر (1972)، وتشاد (1972)، وغينيا بيساو (1974)، والجابون (1974)، والنيجر (1974)، وبتسوانا (1975)، وموزمبيق (1975)، وجزر القمر (1975) والرأس الأخضر (1976)، وسيشل (1976). وبحلول منتصف الثمانينات، أسهمت الجهود السياسية والمساعدات لبكين في إقامة روابط دبلوماسية مع 44 دولة إفريقية(2).

ونحاول في هذه الورقة الوقوف على آليات التعاطي الصيني مع القارة الإفريقية ضمن صناعة تطويع الجغرافيا السياسية والأمنية للرؤية الاقتصادية الصينية، وفق مقاربة القوة الناعمة.

أولًا: القوة الناعمة كمدخل للعلاقة والتوسع والشراكات المتعددة

عرَّف جوزيف ناي القوة الناعمة بأنها القدرة على الجذب، لا عن طريق الإرغام والقهر والتهديد العسكري والضغط الاقتصادي، ولا عن طريق دفع الرشاوى وتقديم الأموال لشراء التأييد والموالاة، بل عن طريق الجاذبية وجعل الآخرين يريدون ما تريد، وأن القوة أكثر من مجرد الإقناع أو القدرة على الاستمالة بالحجة، ولو أن ذلك جزء منها، بل إن القدرة على الجذب كثيرًا ما تؤدي إلى الإذعان. وكذلك هي القدرة على تشكيل تصورات الآخرين وترجيحاتهم وخياراتهم وجداول أعمالهم، عبر التماهي مه الآخرين مثلًا أن جدول أعمالهم السياسي بعيد عن الواقع(3).

إن القوة الناعمة هي قوة التعاون الطوعي (cooperative power)، أي القدرة على تشكيل ما يريده الآخرون، والتأثير عليهم نحو تحقيق أغراض الفاعل وأهدافه، دون حدوث أي تهديد صريح أو مبادلة أو تقديم إثابة.

ولذلك، فإن تجربة الصين في الالتحاق الناجح بركب التنمية في حال استمرارها، سوف تصبح نقطة تحول بالنسبة للاقتصاد العالمي، ليس فقط بسبب حجم الصين كمنطقة أو تعداد سكانها، وإنما لكونها السابقة الأولى في التاريخ، التي يستند فيها نموذج ناجح في التنمية الاقتصادية على نطاق واسع إلى نموذج اقتصادي متأصل، ليس ذا طابع غربي. وفق هذه الرؤية، تبنى الصين تحالفاتها الاستراتيجية.

لقد حدَّد فيرتشن ثلاثة جوانب من خطة الصين الاقتصادية يمكن أن تشكِّل أمثلة للبلدان النامية عمومًا وإفريقيا على وجه التحديد(4):

  1. الالتزام بالتنمية هدفًا وطنيًّا.
  2. التأكيد على تطوير البنية التحتية.
  3. التجريب والمرونة في السياسات السياسية.

اتبعت الصين مقاربة الشراكة في علاقاتها بطريقة فاقت غيرها من الدول الكبرى، فلها 50 شراكة، ويعود ذلك إلى جملة أسباب، منها:

  1. انخرطت الصين في العولمة في مرحلة متأخرة وكان عليها أن تنغمس فيها في مجالات عديدة ومع أطراف كثيرة في العالم.
  2. الشراكة بوابة تتلاءم مع البيئة الدولية لما بعد الحرب الباردة، بحيث أصبح التعاون والتنافس أدوات إدارة السياسة الدولية.
  3. يعتمد نهوض الصين السلمي على تهيئة بيئة مستقرة وسلمية للمدى البعيد، والشراكة هي الاستراتيجية الأفضل لبلوغ هذا الهدف.
  4. تعرض الصين نفسها بأن شراكتها جيواقتصادية، ولن يترتب عليها مقدمات إقامة تحالفات ضد أي طرف.
  5. أظهرت الصين توجهًا ملحوظًا في سياساتها وتصريحاتها بأن النظام الدولي القائم لا يستجيب إلى التطورات الجذرية التي وقعت في السياسة الدولية بعد نهاية الحرب الباردة. ومن خلال مقارنة الشراكة الاستراتيجية بوصفها قوة ناعمة صينية سيكون في وسع الصين حشد التأييد وإشاعة ممارسة السياسة الدولية في إطار الشراكات الاستراتيجية السلمية عوضًا عن الأحلاف والتكتلات العسكرية الأمنية بل بتكتلات اقتصادية ينتفع منها جميع الأطراف.
  6. لم يكن نهوض الصين بالتنمية السلمية دون معوقات استراتيجية، كحاجتها إلى الموارد بخاصة الطاقة والتقنية الحديثة والسوق والاستثمارات، ولكي تتغلب عليها أخذت بمقاربة القوة الناعمة بصيغة الشراكة؛ فكانت مع القوى الاقتصادية الكبرى أول الأمر ثم توسعت إلى الدول النامية.
  7. أكد القادة والباحثون الصينيون أن الصين ينبغي أن ترقى إلى منزلة القوة الكبرى في هيكل توزيع القوة عالميًّا وأن ما حققته من تقدم في التنمية يؤهلها لاعتلاء هذه المنزلة، ولتحقيق ذلك تعمد الصين إلى خيار القوة الناعمة في سياق الشراكات(5).

للقارة الإفريقية أهمية كبيرة في المدرك الصيني في السياسة الناعمة واستراتيجية الشراكة؛ إذ تطل القارة الإفريقية على مواقع حاكمة تتمثل في مضيق جبل طارق، وقناة السويس، ورأس الرجاء الصالح، بالإضافة إلى الجزر المحيطة بالقارة والمطلة على المحيط الأطلنطي والهندي. وقد اكتسب الجزء الشمالي والشمالي الشرقي للقارة أهمية في سيطرته على حركة المواصلات العالمية المدنية والعسكرية بين قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، كما اكتسب في المقابل الجزء الغربي والجنوب الغربي أهمية في اتصاله بحركة الملاحة القادمة من القارة الأميركية والشرق الأقصى؛ مما يشكِّل عامل جذب لكل القوى الدولية الاقتصادية والعسكرية العظمى وتتنافس على إفريقيا(6).

تستقبل الدول الإفريقية الاستثمار الصيني بالترحيب، نظرًا لجاذبية النموذج التنموي الصيني، ولكون الصين حققت نجاحات كبيرة وسريعة ترغب الدول النامية في نسخ تجربتها. وتمتلك الصين مخزونًا نقديًّا ضخمًا يناهز 3 تريليونات دولار (3000 مليار دولار) هذه الموارد المالية الهائلة موجهة في جزء كبير منها للاستثمارات الصينية في الخارج والتي تمتد في جميع المجالات طولًا وعرضًا في الطاقة والزراعة والتعدين والبناء وقطاعي: التجارة والخدمات ومعالجة منتجات الموارد والتصنيع والدعم اللوجستي التجاري، ويشرف على تلك العملية (بنك الاستيراد والتصدير) هذه المؤسسة المصرفية التابعة للدولة والتي تلعب دورًا أساسيًّا في إعطاء القروض للحكومات الإفريقية وهي التي تقترح منح هذه القروض من خلال شروط تفضيلية. وبالموازاة مع ذلك، يجري التفاوض على عقود أشغال عمومية حيث تتبوأ الطاقة والمعادن رأس الأولويات الاقتصادية الصينية لذلك تعتمد الصين في توسعها في مفاصل الاقتصاد في إفريقيا على عدة شركات مملوكة للدولة، ففي مجال الموارد الأولية والطاقة هناك شركة الصين للطاقة من خلال استغلال الحقول البترولية في إفريقيا بشروط ملائمة لضمان تدفقه إلى محركات الاقتصاد الصيني النشطة(7).

وقد قامت الصين بتشجيع الصادرات الإفريقية إلى السوق الصينية وللتصدير إلى مناطق أخرى في العالم عبر إنشاء معرض دائم للسلع الإفريقية بمدينة “ييوو” بمقاطعة موك؛ حيث يقيم فيها أكثر من 1000 إفريقي بشكل دائم، وذلك بهدف تشجيع تسويق المنتجات الإفريقية ومساعدة الشركات الإفريقية والتجار للاستفادة من السوق الصينية، وتعزيز تجارة الترانزيت ورفع سمعة المنتجات الإفريقية في الصين(8).

ومنذ 2020، تجاوز حجم الاستشارات الصينية في إفريقيا أزيد من 2% من حجم الاستشارات الأميركية، وكانت عدد الشركات الصينية الناشطة في لإفريقيا 200 شركة لكن هذه الأرقام تعاظمت في 2020 إذ تجاوز عدد الشركات الصينية ما يقارب 10.000 مؤسسة(9).

ثانيًا: إفريقيا والصين: البعد الاقتصادي والأمني في العلاقة

يتمثل أحد أهم أهداف استراتيجية الصين الإفريقية في تشكيل أغلبية مناصرة للصين في هيئة الأمم المتحدة، بهدف سد الطريق أمام القرارات المناهضة للصين التي يقدمها الغرب، وبخاصة تلك القرارات التي تخص مجال حقوق الإنسان. وقد عملت الصين على استغلال بعض القضايا الإفريقية لتعزيز وجودها على المسرح الدولي واستغلت الفراغ الدولي الذي بدأت تعيشه القارة الإفريقية بعد تراجع النفوذ الفرنسي من جهة وانهيار القطبية الثنائية من جهة ثانية لتطرح نفسها بديلًا عن الغرب بوصفها قوة يمكن لها أن تمثل حامية للدول الإفريقية وهي في الوقت عينه لا تتدخل في القضايا التي لها علاقة بالديمقراطية إلا أن تلك السياسة ليست من دون مقابل، فالصين كانت تطلب دعم الأفارقة لسياستها الخارجية ولمطالبها في تحديد المناطق الاقتصادية البحرية في بحر الصين الجنوبي.

ويبقي البعد الأممي العامل الأكثر جوهرية في علاقات الصين الإفريقية إذ لا يتعلق الأمر فقط بعدد الأفارقة في المنظمة بل بالفاعلية التي تتمتع بها الدول الإفريقية؛ فمع بداية القرن الحالي، مثَّلت قضية التصويت على قضايا حقوق الإنسان في الهيئة الدولية -بخاصة القرارات التي كانت تقدمها القوى الغربية ضد الصين- أهم القضايا التي تشغل بال الإدارة الصينية. ولم تقتصر الفاعلية الأممية لإفريقيا على هذا الموضوع بل ظهرت حقائق جديدة أكدت أهمية التصويت الإفريقي: كقضية إصلاح الأمم المتحدة وإمكانية دخول اليابان إلى مجلس الأمن الدولي. وبذلك، تكون القارة الإفريقية قد شهدت معركة دبلوماسية حقيقية بين بكين وطوكيو.

وقد أكد أحد المسؤولين الأميركيين أهمية الدور الإفريقي في دعم السياسة الصينية الأممية؛ ففي وثيقة نشرها موقع ويكيليكس عن مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية، جوني كارسون، أثناء لقاء جمعه بممثلين لشركات نفط في لاغوس العاصمة النيجيرية، قوله: إن أحد الأسباب وراء الوجود الصيني على الساحة الإفريقية هو ضمان أصوات الدول الإفريقية في الأمم المتحدة.

يقر تسانغ باو تسنغ، الباحث في معهد غرب آسيا وإفريقيا في أكاديمية العلوم الاجتماعية في بكين، بالدور الايجابي للدول الإفريقية في تعطيل كل المشاريع الغربية المقدمة للأمم المتحدة والتي تتعلق بأوضاع حقوق الإنسان في الصين؛ بحيث يقول: مند تسعينات القرن الماضي قدمت بعض الدول الغربية ما يسمى وضع حقوق الإنسان في الصين على مدى سبع سنوات متتالية للأمم المتحدة لتتدخل في شؤون الصين الداخلية بذريعة مشكلة حقوق الإنسان ولم تتحقق إجازة المشروع في أي مرة ويعود الفضل في ذلك إلى دعم الدول النامية ومنها الدول الإفريقية.

أصدر المعهد الكندي للدفاع والشؤون الخارجية، في يونيو/حزيران 2021، تقريرًا يحمل عنوان “السلوك الاستراتيجي للصين”، كتبته الباحثة في المركز “إيلينور سلون، وهي أستاذة مشاركة في العلاقات الدولية بقسم العلوم السياسية بجامعة كارلتون؛ إذ يقع التقرير في صلب اختصاص الباحثة، التي تتركز اهتماماتها وأبحاثها العديدة في مجالات السياسة الدفاعية والقدرات العسكرية الأميركية والكندية بالإضافة إلى الأمن القومي، والدفاع الصاروخي الباليستي، والناتو، وعمليات حفظ السلام.

وتكمن أهمية التقرير في أنه يستعرض السلوك الصيني من خلال التركيز على الرؤية الاستراتيجية الواسعة، كما أنه يحدد العناصر التي يقوم عليها هذا السلوك أو يتأثر بها، من خلال تناول الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية المكوِّنة للمنظور الاستراتيجي الصيني، أو تلك المؤثرة في صياغته(10).

وفي تقرير صادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، بعنوان “تطور الدبلوماسية العسكرية الصينية من تبادل الزيارات إلى توزيع اللقاحات”، تطرقت الكاتبة “ميا نوينز” لتتناول الدور الكبير الذي لعبه جيش التحرير الشعبي الصيني، في الاستجابة والتصدي لفيروس كورونا المُستجد؛ الأمر الذي يُعظِّم من دوره المتزايد في الأنشطة الدبلوماسية، وكيف تطور هذا الدور من تبادل الزيارات والمناورات العسكرية إلى توزيع اللقاحات، وإلى نص التقرير:

ذكر التقرير أن دور الجيش الوطني الصيني في السياسة الخارجية الصينية في الماضي كان دورًا محدودًا أو هامشيًّا. ولكن في الوقت الراهن، وفي ظل الدور المتنامي والنشط للسياسة الخارجية الصينية؛ نمى دور الجيش الصيني في الدبلوماسية الوطنية، ووصل إلى آفاق جديدة في سياق التصدي لجائحة فيروس كورونا، كل ذلك لخدمة الأهداف الاستراتيجية.

جاء الدور الكبير والنشط للجيش الصيني في التعاطي مع أزمة فيروس كورونا، في سياق دبلوماسي كبير لعبته بكين لتحسين صورتها الدولية بعد ردها الأولي المتأخر وسوء التعامل عقب تفشي الوباء.

تُشير الكاتبة إلى أن الدبلوماسية العسكرية للجيش الصيني بدأت في التعامل مع تفشي فيروس كورونا في مارس/آذار 2020، عندما أرسل جيش التحرير الشعبي الصيني معدات وملابس واقية إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي فبراير/شباط 2021، بدأ الجيش الصيني في التبرع بلقاحات “كوفيد-19” للدول الأخرى في الخارج، وتحديدًا بعض الشركاء الأفارقة.

وبين مارس/آذار 2020 وأبريل/نيسان 2021، قدَّم جيش التحرير الصيني مساعدات طبية عسكرية وتبرعات لـ 56 دولة حول العالم، فضلًا عمَّا قدمه من مساعدات لبعثات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة.

كما تُظهر الأنشطة الدبلوماسية العسكرية لجيش التحرير الشعبي فيما يتعلق بفيروس كورونا أن الجيش سيلعب دورًا أكبر في الدبلوماسية الخارجية للصين، بما يتماشى مع تعليمات الرئيس الصيني “شي جين بينغ”(11).

بحلول عام 2021، بدأ التنين الصيني يكشف عن أنيابه، وباتت بكين تولي اهتمامًا كبيرًا لسياق استراتيجي تكون فيه أولوية سياستها الخارجية مُرتكزة على قضايا الأمن والدفاع.

وفي عام 2015، ذكر الكتاب الأبيض الصيني أنه في حين أن البيئة الخارجية العامة كانت مواتية بشكل عام، فقد أكد أن الصين لديها “مهمة كبيرة لحماية نسيجها الوطني وسلامة أراضيها ومصالحها التنموية”، وذلك في مواجهة التحديات الخارجية المتزايدة.

في نفس العام، قدَّم الرئيس الصيني “شي جين بينغ” دورًا جديدًا وأكثر تحديدًا للدبلوماسية العسكرية. وبحسب شي، ينبغي للدبلوماسية العسكرية أن تدعم السياسة الخارجية الوطنية الشاملة، وتحمي الأمن القومي، والسيادة، ومسائل التنمية، وتعمل على تعزيز البناء العسكري. وأوضح أن الدبلوماسية العسكرية يجب أن تتماشى مع الاتجاه السياسي الصحيح الذي تسير فيه الدولة.

ومنذ عام 2008، نمى التعاون والمشاركة للجيش الصيني ليشمل المساعدات الإنسانية وعمليات الإغاثة في حالات الكوارث، وعمليات حفظ السلام، والتبادلات الأكاديمية مع الجيوش الأجنبية، والاجتماعات رفيعة المستوى مع القادة العسكريين الأجانب(12).

كما عمدت الصين إلى تقديم الدعم الاقتصادي والفني لعدد من الدول الإفريقية في العديد من المجالات الاقتصادية والفنية والبنية التحتية؛ حيث قامت الصين منذ عام 2006 ببناء أكثر من 100 مدرسة و30 مستشفى و30 مركزًا لمكافحة الملاريا و20 مركزًا لعرض التكنولوجيا الزراعية في إفريقيا(13).

كشفت وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي، عن الملامح العامة لتوجهات الإدارة الأميركية الجديدة، والتي حظيت الصين بنصيب الأسد فيها، لجهة ما تشكِّله من تهديد استراتيجي واسع للولايات المتحدة، أبرزته الوثيقة بشكل مفصل، ذلك بخلاف التهديدات العالمية مثل جائحة كورونا وقضية التغير المناخي.

الوثيقة التي نشرها البيت الأبيض أخيرًا، وبعد 45 يومًا من تقلد الرئيس جو بايدن الحكم، كشفت عن إرشادات عامة للأمن القومي والخطوط العريضة للتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة، وأكدت على أن مصير أميركا صار مرتبطًا بشكل أكبر من أي وقت مضى بالأحداث التي تقع خارجها، وركزت على مرتكزات الإدارة الأميركية الجديدة في سياستها الخارجية، بدءًا من المحور المركزي المتمثل في “الترويج للديمقراطية في جميع أنحاء العالم”.

حددت الوثيقة جملة من القضايا الشائكة التي تواجه الولايات المتحدة، ومن بينها صعود القوى المنافسة لها، وتحديدًا روسيا والصين، ونصَّت على أن الولايات المتحدة “يجب أن تشكِّل مستقبل النظام العالمي باعتبار ذلك ضرورة ملحَّة الآن”. كما ذكرت أن واشنطن “لن تترد في استخدام القوة عند الحاجة لذلك من أجل الدفاع عن مصالحها”. ذلك في الوقت الذي تناولت فيه الاستراتيجية قضايا وأزمات الشرق الأوسط باعتبارها من بين الملفات ذات الأولوية. وأبدت اهتمامًا بالعمل على حل الأزمات بشكل سلمي(14). ويمكن بهذا الصدد الإشارة إلى بعض الملاحظات التي تؤكد دور الجيش الصيني في إفريقيا(15).

  • المشاركة في جهود الأمم المتحدة لحفظ السلام، ولاسيما بعثة الأمم المتحدة في مالي؛ حيث احتلت الصين اعتبارًا من يوليو/تموز 2019، المرتبة الحادية عشر من حيث المساهمة بقوات في جميع بعثات الأمم المتحدة وهي تقدم أكبر مساهمة بقوات بين الأعضاء الخمس الدائمين في مجلس الأمن.
  • برامج التدريب العسكري، وعلى سبيل المثال هناك حوالي خمسين عسكريًّا من ساحل العاج يتلقون تدريبًا في الصين سنويًّا ناهيك عن التدريبات العسكرية المشتركة لاسيما تدريبات مكافحة القرصنة مع البحرية الكاميرونية، والتدريبات مع القوات البحرية الغانية والنيجيرية فضلًا عن المنح العسكرية التي قدمتها الصين للعديد من دول من دول غرب إفريقيا لاسيما سيراليون وليبيريا وغانا وساحل العاج.
  • الدبلوماسية العسكرية، لاسيما تكثيف الزيارات الدبلوماسية العسكرية المتبادلة، وزيادة عدد الملحقين العسكريين؛ حيث زادت الصين عدد الملحقين في إفريقيا إلى 17 ملحقًا ومن بينهم ستة ملحقين في دول منظمة الإيكواس، بالإضافة إلى الكاميرون وتشاد ولدى دول المنطقة عشرة ملحقين عسكريين في بكين فضلًا عن الزيارات العسكرية للقوات البحرية الصينية للموانئ البحرية في ساحل العاج وغانا والسنغال ونيجيريا والكاميرون لاسيما أن هناك سبعة موانئ تديرها كيانات صينية على الساحل الغربي لإفريقيا.
  • تكثيف الدعم اللوجستي للمنظمات الإقليمية الإفريقية وتعزيز دورها في مكافحة الإرهاب ولاسيما الاتحاد الإفريقي من خلال استثمار مئة مليون دولار في القوة الإفريقية الجاهزة والقوة الإفريقية للاستجابة الفورية للأزمات، وتخصيص جزء من تمويل صندوق السلام والأمن الصيني الإفريقي لتعزيز دور فرقة العمل المشتركة متعددة الجنسيات ضد تنظيم بوكو حرام، كما قدمت الصين حوالي 25 مليون دولار أميركي للمعدات العسكرية للقاعدة اللوجستية للاتحاد الإفريقي في ياوندي بالكاميرون.
  • تدشين منتدى الدفاع والأمن الصيني الإفريقي، الذي استضافته بكين الأول مرة في عام 2019 وأكد على ضرورة تكثيف تبادل المعلومات الاستخبارية وتعزيز دور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في حماية الأمن العام ومكافحة الإرهاب ووضع خطة عمل (2019-2021)، تتضمن تقديم مساعدات عسكرية للاتحاد الإفريقي والجهود الأمنية في منطقة الساحل وخليج غينيا(16).

لقد استطاعت الصين تقوية علاقاتها الاقتصادية مع إفريقيا عبر منتدى التعاون الصيني-الإفريقي الذي أُنشئ بمبادرة من بكين عام 2000 وضم ستًّا وأربعين دولة إفريقية، ومن أهم إنجازاته إسقاط 1.2 بليون دولار من ديون القارة. وهناك أيضًا مجلس الأعمال الصيني-الإفريقي الذي أنشئ في نوفمبر/تشرين الثاني 2004 بغرض دعم استثمارات القطاع الخاص الصيني في كل من الكاميرون، وغانا، وموزمبيق، ونيجيريا، وجنوب إفريقيا، وتنزانيا، كما أن التجارة المتبادلة بين الصين وإفريقيا تزيد حاليًّا على ثلاثين بليون دولار.

كما قامت شركة “سينوبك” الصينية بإنشاء خط أنابيب بطول ألف وخمسمئة كيلومتر لنقل الإنتاج النفطي إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر ومنه إلى ناقلات البترول المتجهة إلى الصين.

وفي تشاد، حصلت الشركات الصينية على استثمارات نفطية بالرغم من أن النظام في نجامينا له علاقات دبلوماسية بتايوان، غير أن المصالح الاقتصادية تعلو مبدأ (صين موحدة) الذي تتمسك به الصين وتضعه معيارًا حاكمًا لعلاقاتها الدولية.

وتسعى الصين لاختراق خليج غينيا الغني بالنفط ومنافسة الولايات المتحدة الأميركية على الاستثمارات النفطية، وبالفعل نجحت في حجز موطئ قدم لها في أنجولا ونيجيريا والجابون وغينيا الاستوائية(17).

وتنخرط الصين في نوعين أساسيين من “دبلوماسية الشراكة “في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الشراكات الاستراتيجية والشراكة الاستراتيجية الشاملة. وبحسب دراسة ستروفر حول دبلوماسية الشراكة الصينية، تتصف العلاقات بين البلدين الشريكة تبعًا للشراكات الاستراتيجية بالخصائص الأربعة الآتية:

  1. تتخطي العلاقات الدبلوماسية النموذجية، فتتضمن اجتماعات ثابتة بين المسؤولين الحكوميين والوكالات الحكومية لتنمية التواصل والثقة.
  2. لا تقع ضمن حدود التحالفات القائمة على المعاهدات.
  3. يحركها “الهدف” أكثر مما يحركها “التهديد”، فتركز إجمالًا على مجالات التعاون المتبادل في الاقتصاد والثقافة والأمن والتكنولوجيا.
  4. تتميز بتركيزها على السلوك والعمليات المؤسساتية.

ومقارنة بالشراكات الاستراتيجية، تتضمن الشراكات الاستراتيجية الشاملة مستوى أعلى من التواصل المؤسساتي، بما فيها اجتماعات منتظمة عالية المستوى بين كبار الأعضاء القياديين من كلا البلدين الشريكين. ويلاحظ ستروفر أنه يجدر استيفاء شروط ثلاث قبل إبرام اتفاقية حول “شراكة استراتيجية شاملة”، وهي الثقة السياسية والروابط الاقتصادية الكثيفة والتبادلات الثقافية والعلاقات الحسنة في القطاعات الأخرى.

تجدر الإشارة إلى أن الصين وقَّعت مذكرات تفاهم حول مبادرة الحزام والطريق مع عدد من الدول شرق الأوسطية والإفريقية على غرار دول الشمال الإفريقي وتحديدًا الجزائر والمغرب ومصر لكنها لم تعقد شراكة رسمية مع بعض الدول الأخرى مثل تونس وليبيا.

من العام 2012 إلى يوليو/تموز 2016

وبحسب الدبلوماسيين الصينيين، فإن “التبادلات على مستوى الأشخاص” عنصر أساسي في مبادرة الحزام والطريق، مع مشاريع بنى وموانئ ومسارات شحن لا تهدف إلى تحسين التجارة والاستثمار فحسب، بل حركة الأشخاص أيضًا. ويشدِّدون بهذا الصدد على ضرورة اعتبار مبادرة الحزام والطريق وسيلة لإعادة وضع مفهوم “طريق الحرير” القديم على خارطة المجتمع المعاصر؛ إذ قال أحد الدبلوماسيين: “الصورة التي تخطر في بالنا هي التواصل بين مختلف الحضارات… عندما نقول: طريق الحرير، نعني طريق السلام”(18).

ثالثًا: مفهوم الصعود السلمي ومكانة إفريقيا في السياسة الصينية

انشغلت القيادة الصينية طيلة فترة التسعينات من القرن الماضي بالبحث عن وسيلة لتحييد نفسها عن الرادار الأميركي خاصة في الفترة بين حرب الخليج الثانية (1990-1991) وحرب يوغسلافيا (1999). وتوصل الصينيون فيما بعد إثر الحرب التي شنَّتها أميركا على أفغانستان (2001) والعراق (2003) إلى مفهوم الصعود السلمي.

ظهرت نظرية الصعود السلمي “للصين” في العام 2003، وصاغها آنذاك الاستراتيجي الصيني المستشار السياسي “زينغ بيجيان” الذي ورد اسمه في المرتبة 44 في قائمة أفضل 100 مفكر عالمي التي أصدرتها مجلة “فورين بوليسي” في ديسمبر/كانون الأول 2010.
ثم جرت إعادة استخدام للمصطلح نفسه والمفهوم نفسه من قبل كل من الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني “هو جينتاو” ونائبه رئيس الوزراء “وين جياباو”، في العام 2004، مقترحين أن يكون مفهوم “الصعود السلمي” مكونًا رسميًّا من مكونات سياسة الصين الخارجية، وذلك في عدة مناسبات، لعل أبرزها دورة المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني في مارس/آذار من العام 2004؛ حيث اقترح أن يتضمن مفهوم “الصعود السلمي” الإشارة إلى خمسة عناصر رئيسية، هي:

  1. أن تستفيد الصين من السلام العالمي لتعزيز التنمية في البلاد، في مقابل أن تساعد هي على تحصين السلام العالمي من خلال ما تحققه من تنمية.
  2. الاعتماد على قدرات الصين الذاتية فقط وعلى الجهد الكبير والمستقل المبذول من قبلها.
  3. الاستمرار في سياسة الانفتاح والقواعد الفاعلة للتجارة الدولية والتبادل التجاري كضمان لتحقيق هذا الهدف.
  4. الأخذ بعين الاعتبار أن تحقيق هذا المفهوم “الصعود السلمي” سيتطلب أجيالًا متعددة وسنين عديدة.
  5. أثناء السعي لتحقيق هذا الهدف، لن يتم الوقوف بطريق أية دولة أو تعريض أية دولة أخرى للخطر كما لن ينجز على حساب أية أمة.

عندما تمت صياغة مفهوم “الصعود السلمي” كان الصينيون يعتقدون أنهم يحتاجون إلى 45 عامًا على الأقل أي حتى العام 2050 حتى يصلوا إلى أن يكونوا دولة كبرى في النظام الدولي. لكن الانتقال السريع للقوة (Power Shift) من الغرب إلى الشرق في الثروة وفي النفوذ في السنوات القليلة الماضية أدى إلى حرق سريع للمراحل بما بدأ يؤثر على معادلة “الصعود السلمي”، ولاسيما فيما يتعلق بـــــ:

التسارع في انحدار القوة الأميركية بوتيرة أكبر مما كان متوقعًا أيضًا: فقد شهدت الولايات المتحدة منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، تراجعًا مهولًا في قوتها على الصعيد العالمي، وقد كان من الواضح مع نهاية عهد بوش الابن أواخر العام 2008 أن حروب أفغانستان (2001) والعراق (2003) قد اختبرت حدود القوة الأميركية، فقضت على ما بقي من الهيمنة الأميركية المباشرة.

ونتيجة للخسائر العسكرية والمالية؛ حيث كلَّفت حرب العراق وحدها الولايات المتحدة أكثر من 3 تريليونات دولار استنادًا إلى دراسة أجراها كل من “جوزيف ستيغلتز” من جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل للاقتصاد و”ليندا بلميز” من جامعة هارفارد، وقعت واشنطن في مأزق اقتصادي تبعته عاصفة الأزمة المالية العالمية التي أكملت على ما تبقى من قوة وسمعة للاقتصاد الأميركي. وفي السياق ذاته بدأ التسارع في الصعود الصيني بوتيرة أسرع مما كان متوقعًا؛ مما خلق انطباعًا بأن التحول ليس تدريجيًّا وأنه قد يؤدي إلى صدمة على الصعيد الدولي(19).

رابعًا: الأمن وحفظ السلام محور العلاقة الصين-إفريقيا

تعتبر الصين اليوم الدولة الأولى في إفريقيا من حيث الأعداد الموفدة لقوة حفظ السلام تحت رعاية الأمم المتحدة، مختلفة بذلك عن الأعضاء الآخرين الدائمين في مجلس الأمن، وهذا لا يعني بالطبع وجود قواعد عسكرية دائمة للصين في لإفريقيا، كما هي الحال بالنسبة لفرنسا مثلًا التي لها قواعد عسكرية رئيسة في ست دول إفريقية، ولا يجسد ذلك بالضرورة أطماعًا عسكرية صينية في إفريقيا، هذا ما يدعم الصورة التي ترغب أن تظهر بها في إفريقيا، كما استعملت حق الفيتو في معارضة القرارات الدولية فيما يخص حلفاء الصين كما هي الحال في مشكلة دارفور السودانية، فبحكم مصلحتها في المخزون النفطي والصادرات النفطية للسودان، عارضت بكين الجهود الدولية لفرض حظر على صادرات النفط الإفريقية، وباعتبار أن السودان الحليف الأهم للصين في الشرق الإفريقي كانت الأكثر استقبالًا للقوات الصينية لحفظ السلام التي بلغت ثلاثة آلاف جندي في قوات أممية.

امتدت مشاركة الصين في قضايا الأمن إلى دول جنوب الصحراء الإفريقية للمشاركة في عمليات حفظ السلام، وبرامج التبادل في عمليات نشر الجنود، في شهر أبريل/نيسان 2003، تم إرسال قرابة 175 جنديًّا من جيش التحرير الشعبي، وفريق طبي مؤلَّف من 42 شخصًا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية في مهمة لحفظ السلام مجهزين بحوالي 200 عربة عسكرية وشاحنات نقل المياه إلى ليبيريا، وكانت هذه أكبر عملية تشارك فيها الصين تحت لواء الأمم المتحدة منذ أن أرسلت 800 مهندس عسكري إلى كمبوديا في الفترة من 1992 إلى 1994، وأعادت مؤخرًا تأكيد عزمها على تقوية التعاون العسكري وبرامج تبادل البعثات مع إثيوبيا وليبيريا ونيجيريا والسودان.

في منتصف سنة 2011، وصل عدد قوات حفظ السلام التي نشرتها الصين في إفريقيا إلى 1550 فرقة شرطية و42 خبيرًا عسكريًّا. وخلال نفس الفترة أصبح جنوب السودان المنطقة الثانية في إفريقيا من حيث عدد قوات حفظ السلام التابعة للصين، وتراجعت الكونغو الديمقراطية للمرتبة الثالثة بعد أن كانت تحتل المرتبة الثانية.

نظرة لمستقبل العلاقات الصينية-الإفريقية

 تتبع الصين سياسة نشيطة في البلدان الغنية بالموارد المعدنية، فهي الآن تعد أكبر مستهلك للنحاس في العالم(20).

وإذا كانت التجارة تعد أحد أهم مؤشرات تطور ومتانة العلاقة بين أي طرفين دوليين، فإن نمو حجم التبادل التجاري بين الجانبين، الصيني والإفريقي، خير شاهد على الدفعة الكبيرة التي شهدتها العلاقات الصينية-الإفريقية، فقد كان حجم التبادل التجاري بينهما عشرة مليارات دولار أميركي في عام 2000، فوصل في عام 2017، وفقًا لإحصاءات الجمارك الصينية، إلى مئة وسبعين مليار دولار أميركي، منها صادرات صينية إلى إفريقيا قيمتها حوالي 95 مليار دولار أميركي مقابل صادرات إفريقية إلى الصين قيمتها أكثر من 75 مليار دولار أميركي، مع تراجع الفائض التجاري للصين بنسبة 45% تقريبًا مقارنة مع عام 2016.

تأتي قمة بكين 2018 لمنتدى التعاون الصيني-الإفريقي، بعد تطورات هيَّأت لتعاون أوسع بين الجانبين، وخاصة في ظل مبادرة “الحزام والطريق” التي تتبناها الصين وشاركت فيها دول إفريقية عديدة، وفي أعقاب قمة دول “بريكس” في جنوب إفريقيا التي عُقدت تحت عنوان “بريكس في إفريقيا.. التعاون من أجل المشاركة في النمو الشامل وتقاسم الرخاء في الثورة الصناعية الرابعة”.

في قمة جوهانسبرغ لمنتدى التعاون الصيني-الإفريقي 2015، أعلن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أن بلاده وإفريقيا رفعتا العلاقات الثنائية بينهما إلى شراكة تعاون استراتيجية شاملة، وفتح مرحلة جديدة في التعاون المربح للطرفين والتنمية المشتركة. وأعلن شي أيضًا عن عشر خطط كبرى لتعزيز التعاون المربح للطرفين، وتخصيص ستين مليار دولار أميركي للتنمية في إفريقيا، مؤكدًا أن بلاده تسعى لإقامة علاقات مع دول إفريقيا تقوم على المساواة. وكان شي قد أعلن في سبتمبر/أيلول 2015، في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن تأسيس صندوق لدعم تعاون الجنوب-الجنوب وتوفير ملياري دولار أميركي للمرحلة الأولى لدعم الدول النامية في تنفيذ أجندة التنمية لما بعد 2015. ومواصلة الاستثمار في الدول الأقل نموًّا لتبلغ قيمة استثمارات الصين اثني عشر مليار دولار أميركي بحلول عام 2030(21).

عُقدت يوم الأربعاء، 17 يونيو/حزيران 2020، القمة الاستثنائية الصينية-الإفريقية بتقنية التواصل عن بعد، وقد شارك فيها عدة فاعلين دوليين في مقدمتهم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، وعضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي، وانغ هو نينغ، وعدد من رؤساء الدول الإفريقية، منهم: عبد المجيد تبون، رئيس الجزائر، وعبد الفتاح السيسي، رئيس مصر، وسيريل رامافوزا، رئيس جنوب إفريقيا، وماكي صال، رئيس السنغال. كما حضر القمة فيلكس تشيسيكيدي والرئيس الغابوني، بونجو أونديمبا، وأوهورو كينياتا، إضافة إلى رئيس النيجيري، محمد بخاري، ورئيس رواندا، بول كاجامي، ورئيس النيجر، محمد إيسوفر، وإيمرسون منانجانجوا، رئيس زيمبابوي، ورئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، وممثل عن الاتحاد الإفريقي، ورئيس المفوضية الإفريقية، موسي فقي محمد. وعلى المستوى الدولي، حضر كل من الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، والمدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، ضيفين خاصَّين.

تناولت أجندة القمة عدة قضايا مستجدة ومستعجلة على رأسها التضامن الصيني-الإفريقي لمكافحة وباء كورونا، وتفعيل العلاقات الاقتصادية وتنشيط حركة الاستثمار والتجارة بين الطرفين، إلى جانب الاهتمام الصيني ودعوتها لفض النزاعات المسلحة بطريقة سلمية.

استحوذت الأزمة الصحية الراهنة أو ما تُعرف بجائحة كورونا “كوفيد 19” على مجمل أشغال القمة وأخذت حصة الأسد فيها كونها تمس الأمن الصحي العالمي بشكل مباشر، فهذه القمة غير العادية تهدف إلى تعزيز التضامن العالمي في مواجهة الوباء. في هذا الصدد، قدَّم الرئيس الصيني جملة من المقترحات لمواجهة كورونا متمثلة في:

  • مواصلة الالتزام بمكافحة (كوفيد 19) معًا: ستبدأ الصين قبل الموعد المقرر في إنشاء مقر المركز الإفريقي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها هذا العام.
  • مواصلة الالتزام بتعزيز التعاون الصيني-الإفريقي: توجد حاجة إلى إعطاء أولوية كبرى للتعاون بشأن الصحة العامة واستئناف النشاط الاقتصادي ومعيشة الشعب.
  • مواصلة الالتزام بتبني التعددية: ستعمل الصين مع إفريقيا لتبني نظام حوكمة عالمي، في القلب منه الأمم المتحدة ودعم منظمة الصحة العالمية في تحقيق إسهامات أكبر في الاستجابة العالمية للمرض.
  • مواصلة الالتزام بالمضي قدمًا في الصداقة الصينية-الإفريقية(22).

إن الصين تدَّعي أن توجهها إلى القارة الإفريقية يحمل بُعدًا إنسانيًّا، أو تراه الصين يدخل في خانة المسؤوليات الدولية التي تتمحور حول مساعدة الدول الإفريقية المتخلفة أو النامية للوصول إلى حالة التقدم Progress والاستقرار.

للمسؤوليات الدولية الصينية تجاه إفريقيا ثلاثة مظاهر:

في سياستها الإفريقية تنتهج الصين سياسية مساعدات التنمية والاستثمار غير المشروط في القارة على الرغم من الانتقادات الدولية الموجهة لتلك الاستراتيجية في المقابل. تتيح الأسواق الإفريقية فرصًا كبيرة للشركات الصينية في الوقت الذي تسهم فيه الأنشطة الصينية في إفريقيا في إنعاش النشاط الاقتصادي في القارة بخاصة أنه ليس هناك أية مصالح أجنبية حيوية أخرى في الوقت الراهن.

وتشير إحصائية لمركز البحوث «بيو غلوبال» بعنوان «نفوذ الصين أكثر إيجابية من نفوذ أميركا» إلى تفوق التأثير الصيني على الأميركي في القارة الإفريقية، ووصفته بأنه أكثر إيجابية، وقد راوحت الفروقات في نسبة التفوق بين كل الولايات المتحدة والصين لفائدة الأخيرة ما بين (ساحل العاج وأوغندا) 42% بينما يتراجع التأثير الصيني أمام مثيله الأميركي في كل من نيجيريا إلى 63% مقابل 64% لفائدة أميركا ما مثَّل فرقًا نسبته 1% وغانا 59% لفائدة الصين و64% لفائدة أميركا (الفرق 5%)، بينما بلغت النسبة الأكبر التي نظرت إلى النفوذ الأميركي بإيجابية أكثر من النفوذ الصيني مع الأوغنديين 59% لفائدة الولايات المتحدة و47% لفائدة الصين والفرق هو 12%(23).

لقد حافظت الصين على تعاون اقتصادي وتجاري قوي مع إفريقيا رغم تفشي وباء كورونا حيث سجلت التجارة الثنائية رقمًا قياسيًّا من يناير/كانون الثاني إلى سبتمبر/أيلول 2021؛ إذ ارتفعت التجارة بنسبة 32.2% على أساس سنوي لتصل إلى 185.2 مليار دولار أميركي، كما بلغت الاستثمارات الصينية المباشرة في إفريقيا 2.55 مليار دولار في الأشهر التسع الأولى من سنة 2021 بزيادة 9.9%.

كما وقَّعت الشركات الصينية عقودًا بقيمة 53.5 مليار دولار مع إفريقيا، وبلغ حجم إيراداتها 26.9 مليار دولار أميركي كأكبر شريك لإفريقيا لفترة 12 سنة متواصلة(24).

تتحرك الصين بمصفوفة متكاملة تتشكَّل من عناصر تربط بين (الاقتصاد والأمن والثقافة والسياسة)، وتعد إفريقيا القارة التي يناور فيها العملاق الصيني في دبلوماسيته الناعمة بأريحية كبيرة، فالقفزة النوعية في حجم الاستثمار الصيني في إفريقيا، وتعاظم قوات حفظ السلام الصينية في إفريقيا، والتنسيق الإفريقي-الصيني في قضايا التكامل والأمن والأزمات يتزايد بوتيرة تطوِّق التحرك الأميركي والأوروبي على السواء. ويبدو أن سياسية التصعيد السلمي الصينية تعاد قراءتها وصياغتها مع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وستجد القوى الدولية المنافسة نفسها مطوَّقة سياسيًّا بعد صعود راديكالي بشكل متصاعد ومتسارع، وهو ما سيسهِّل هيمنة التنين الصيني على السوق والساحة الإفريقية.

بالنظر إلى حجم المخاوف الأوروبية والأميركية، يتجه المنظِّرون الغربيون إلى تبني خطاب يحث صانعي السياسات الأميركيين والأوروبيين أن يعوا أن الفراغات التي خلَّفها انسحابهم من شمال إفريقيا -تحديدًا- ستملؤه الصين وهي تسعى إلى تطوير علاقات “الراعي/العميل” أكثر مع دول المنطقة، ومع القارة الإفريقية ككل.

.

رابط المصدر:

https://www.politics-dz.com/%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86-%d9%88%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b1%d8%a7%d9%83%d8%a7%d8%aa-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d9%8a%d8%af%d8%a9/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M