القمة الأمريكية – الأفريقية: هل تتجه واشنطن لفصل جديد من العلاقات مع القارة السمراء؟

مها علام

 

استضافت العاصمة الأمريكية واشنطن القمة الأمريكية – الأفريقية، في الفترة من 13-15 ديسمبر الجاري، التي تعد القمة الثانية بين الجانبين، وتُعقد بعد ثماني سنوات من القمة الأولى التي عُقدت في أغسطس 2014، وتأتي هذه القمة في خضم الحديث عن تغير كبير في السياسة الخارجية لواشنطن، وعن إعادة تأطير دوائر تحركاتها الخارجية. الأمر الذي يثير التساؤلات حول حجم التغيير الذي تقوم به إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في تعاملها مع أفريقيا ودوافعه،  وكذا حجم التأثير الذي يمكن أن تساهم به هذه القمة على مسار العلاقات بين الجانبين، سيما في ضوء التغيرات العالمية المتسارعة من جانب، والمشكلات المتداخلة والمعقدة التي تشهدها القارة الأفريقية من جانب آخر.

إدارة “بايدن” وأفريقيا…تغير في الرؤية أم الاستراتيجية؟

يمكن القول بشكل عام، إنه خلال فترة  الحرب الباردة، تركزت السياسة الأمريكية تجاه القارة على احتواء المد الشيوعي. أما في أعقاب الحرب الباردة، حملت السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا بعض ملامح الجمود، وافتقرت كذلك إلى التماسك والفاعلية التي تتطلبها التغيرات المتسارعة والمشكلات المتشابكة بالقارة. بعد التفجيرات التي استهدفت السفارة الأمريكية في كل من كينيا وتنزانيا في أغسطس 1998 حددت واشنطن منطقة القرن الأفريقي باعتبارها واحدة من المناطق التي يجب مواجهة “القاعدة”. كما لعبت الأحداث الإرهابية في  11 سبتمبر وحوادث القرصنة البحرية دورًا في تأطير الاهتمام الأمريكي بالقارة، إذ باتت مواجهة المتطرفين المرتبطين بشبكة إرهابية عالمي، ناهيك عن حماية حرية الملاحة وطرق التجارة، كهدف رئيس يحفز ويوجه قوة وموارد الولايات المتحدة تجاه أفريقيا. وهي المسألة التي يمكن أن تكون قد لعبت دورًا في اتساع الهوة بين واشنطن وأفريقيا؛ إذ لم يتضح أن محاربة الإرهاب وتعزيز التجارة لهما الأسبقية بالنسبة لما يعتبره الأفارقة كأولويات أكثر إلحاحًا، مثل مكافحة الجفاف والتصحر، وتخفيف حدة الفقر، وتعزيز الحكم الرشيد، مما ساهم في تباين سياسة واشنطن تجاه الدول والمناطق المختلفة بالقارة، وفاقم من التفاوت في تأثيراتها.

وفي هذا السياق، أشارت إدارة الرئيس “جورج بوش” الابن إلى رؤية واشنطن بالاستناد إلى كون أمنها يعتمد على الشراكة مع الأفارقة لتقوية الدول الهشة والفاشلة، مع التركيز على دور قانون النمو والفرص في أفريقيا (أجوا) في تعزيز فرص زيادة التجارة بأفريقيا جنوب الصحراء. وفي نهاية ولايته الثانية، أطلقت إدارة “بوش” استراتيجية للدفاع الوطني، في  يونيو 2008، والتي نصت على إنشاء القيادة الأمريكية في أفريقيا.  أما إدارة الرئيس “باراك أوباما” فقد ركزت على تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني والسياسي مع أفريقيا من أجل الوصول إلى الأسواق المفتوحة، ومنع النزاعات، وحفظ السلام، ومكافحة الإرهاب. كما أشارت الاستراتيجية العسكرية الوطنية لعام 2011 إلى تبني واشنطن لشراكة فعالة مع أفريقيا والعمل على تطوير قدرات الإتحاد الأفريقي لمواجهة التحديات الأمنية، مع التأكيد على الاستمرار في بناء قدرات الشركاء في أفريقيا لما يمثله الإرهاب من تهديد لواشنطن.

وخلال إدارة الرئيس “دونالد ترامب”، الذي تبنى مبدأ “أمريكا أولاً” بطريقة أدت إلى تقليل الإنخراط الأمريكي الخارجي في ساحات مختلفة ومنها أفريقيا، فقد ركزت استراتيجية الأمن القومي لعام 2017، على الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار الذي تشهده العديد من دول القارة، ناهيك عن تحول بعض الدول الأفريقية لساحات قتال للتطرف العنيف والإرهابيين؛ حيث يعمل “داعش” و”القاعدة” والجماعات التابعة لهما في القارة على نطاق أوسع بطريقة سهلت من استهداف المواطنين والمصالح الأمريكية. كما ركزت أيضًا على الدور المتنامي للصين بالقارة، والذي اعتبرته سبب في تقويض التنمية طويلة الأمد بالقارة، وهي المسألة التي ارتبط بها – إلى حد كبير – إطلاق الإدارة لاستراتيجية بشأن أفريقيا، في ديسمبر 2018، تدور حول 3 أهداف رئيسية (الإزدهار والأمن والاستقرار). وكنتيجة لرؤية “ترامب” العنصرية، اتسعت الهوة بين واشنطن وأفريقيا، فقد جاءت أبرز انعكاساتها في التصريحات التي أطلقها خلال اجتماع حول الهجرة في البيت الأبيض في يناير 2018.

أثناء السباق الرئاسي عام 2020، كشفت حملة الرئيس “بايدن” عن “رؤية جريئة” تجاه أفريقيا، تستند إلى “مشاركة قائمة على الاحترام المتبادل” والدبلوماسية النشطة. في أعقاب التنصيب، اتهجت الإدارة إلى إلغاء حظر السفر الذي فرضته إدارة “ترامب” على ست دول أفريقية. كما أظهرت المكالمات المبكرة مع وزراء الخارجية الأفارقة ورؤساء دول من جنوب أفريقيا ونيجيريا وكينيا التزام “بايدن” باستعادة المشاركة الدبلوماسية النشطة. وبعد قضائه أسبوعين في منصبه، أرسل “بايدن” رسالة بالفيديو إلى القادة الأفارقة الذين حضروا قمة الاتحاد الأفريقي الرابعة والثلاثين، وعد فيها بالشراكة والتضامن بشأن مجموعة من القضايا الحاسمة. لذا، بدت إدارة “بايدن” في طريقها لتجاوز الإرث السلبي لإدارة سلفه “ترامب”. ولكن، بالنظر إلى هذه البداية الواعدة، لم يتوقع سوى القليل بعض الارتدادات التي وقعت خلال العام الأول، إذ اتجهت الإدارة لفرض حظر سفر بسبب متحور “أوميكرون” على ثماني دول أفريقية، وسحب مزايا قانون “أجوا” من ثلاث دول أفريقية، وهو ما اعتبره بعض القادة الأفارقة تحرك “غير عادل وتمييزي وغير ضروري”،  بجانب استمرار السياسات المتعلقة بالتشدد مع الصين، وهي المسألة التي تلقي بظلالها على أفريقيا – في ضوء التنافس الجاري بين واشنطن وبكين-  إذ طرحت الإدارة خطة البنية التحتية كبديل لمبادرة (الحزام والطريق) الصينية.

إلا أنه في المقابل، أخذت المؤشرات الإيجابية في الاتساع؛ إذ قدمت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية “أنتوني بلينكين” في نوفمبر 2021 إلى كينيا ونيجيريا والسنغال مجموعة مهمة من الأولويات لسياسة “بايدن” بأفريقيا: كالتعافي من جائحة “كوفيد -19″، ومكافحة تغير المناخ، ودعم الديمقراطية، وزيادة التجارة والاستثمار. كما قام بزيارة إلى المغرب والجزائر في مارس 2022، وجنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا أغسطس 2022. أي أن الوزير “بلينكين” قد قام بزيارة القارة ثلاث مرات في غضون 10 أشهر فقط؛ ما يعد الأول من نوعه لأي وزير أمريكي، ناهيك عن كونه وزير الخارجية. كما أن “بلينكين” ليس وحده في هذا الزخم الدبلوماسي، فقد شارك عدد من كبار المسؤولين مع نظرائهم الأفارقة في قضايا مختلفة تتراوح من مكافحة الإرهاب إلى تغير المناخ، والأمن الغذائي، والمعادن الاستراتيجية، والحكم الرشيد والتحول الديمقراطي. علاوة على ذلك، فقد دعمت الإدارة الأمريكية تعيين الاقتصادية النيجيرية “نغوزي أوكونجو إيويلا” كأول امرأة أفريقية وأول مديرة عامة لمنظمة التجارة العالمية.

مع وصول “بلينكين” إلى جنوب إفريقيا، أصدر البيت الأبيض استراتيجيته الموعودة تجاه أفريقيا، والتي كانت قيد الإعداد منذ ما يقرب من تسعة أشهر. تسعى استراتيجية “بايدن” تجاه أفريقيا إلى تأكيد تدشين “وكالة أفريقيةAfrican agency” والعمل نحو “هيكل إقليمي أكثر مرونة”. وفقًا للنهج الجديد، يجب على واشنطن “إعادة ضبط علاقاتها مع نظرائها الأفارقة، والاستماع إلى الأصوات المحلية المتنوعة، وتوسيع دائرة المشاركة لتعزيز أهدافها الاستراتيجية لصالح كل من الأفارقة والأمريكيين. على النقيض من نهج إدارة “ترامب” في المنطقة، التي اعتبرت القارة مجرد ساحة معركة لــ”القوى العظمى” بين روسيا والصين من جانب والولايات المتحدة من جانب، فإن نهج “بايدن” في التعامل مع القارة يبدو أكثر توازنًا إلى حد كبير، كما يدرك أهمية العمل على نحو متعدد الأطراف مع شركائها من أوروبا والشرق الأوسط ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

تقوم الاستراتيجية على أربع ركائز رئيسية، وهي: تعزيز انفتاح المجتمعات، وتحقيق مكاسب ديمقراطية وأمنية، دفع عجلة التعافي من الجائحة والفرص الاقتصادية، ودعم التكيف مع المناخ والتحول العادل للطاقة. وقد حظى القطاع الخاص بأهمية ضمنية كبيرة في الاستراتيجية. كما يعد تضمين التكيف مع المناخ والانتقال العادل للطاقة أيضًا بعدًا رئيسيًا للاستراتيجية، بل ويميزها عن نماذج التنمية الأقل ملاءمة للقارة. ومن الملامح البارزة للاستراتيجية، كونها لم تستبعد حالة التنافس الشرس بين واشنطن وخصومها، إذ أشارت إلى أن بكين تستخدم أفريقيا كساحة لتحدي النظام الدولي، ولفتت إلى أنه تماشيًا مع استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2022 ستعمل وزارة الدفاع مع نظرائها الأفارقة لكشف وإبراز مخاطر الأنشطة السلبية لكل من الصين وروسيا.

وعلى هذا النحو، فقد قدمت القمة الأمريكية – الأفريقية التي عقدت في واشنطن تأكيد إضافي على رغبة واشنطن في تعزيز روابطها مع القارة السمراء. فقد جاء في نص البيان الصادر عن البيت الأبيض تعليقًا على القمة، العمل على تعميق التعاون لحل المشكلات العالمية وتشكيل قواعد الطريق للتكنولوجيا والفضاء والأمن السيبراني والتجارة وحماية البيئة والاقتصاد. كما بلور البيان صورة واشنطن كمدافع عن الحقوق الأفريقية، بالاستناد إلى عمل واشنطن على تحقيق تمثيل أفريقي أكبر بالمؤسسات الدولية، كمقعد دائم بمجلس الأمن، وعضوية مجموعة العشرين. بالإضافة إلى تعزيز التعاون عن طريق استثمارات ومبادرات جديدة من شأنها الاستجابة للفرص والتحديات الناشئة، كمعالجة أزمات الأمن الغذائي والمناخ، وتعزيز النظم الصحية والاستعداد للأوبئة، وبناء اقتصاد عالمي قوي وشامل، ودعم الحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز السلام والأمن؛ وكذا، توسيع المشاركة والتعاون بين واشنطن والدول الأفريقية لدعم أهداف اتفاقية إنشاء منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية. وتحقيقًا لهذه الغاية، عينت إدارة “بايدن” ممثل رئاسي خاص جديد لتنسيق جهود تنفيذ مخرجات القمة.

اهتمام متزايد…الدوافع والمحفزات:

يعكس مشهد تزايد الإنخراط الأمريكي بالقارة السمراء – والذي تمثل القمة الأمريكية الأفريقية المنعقدة في واشنطن أحد انعكاساته – اهتمام أمريكي متزايد بأفريقيا ورغبة أمريكية قوية بشأن تعزيز الروابط معها. وهي المسألة التي يبدو أنها مدفوعة بعدد من الدوافع والمحفزات التي لعبت دورًا في إعادة تشكيل السياسة الأمريكية وإعادة ترسيم مسارات تحركاتها. ويمكن توضيح أبرزها على النحو التالي:

دعم القيادة العالمية لواشنطن: 

منذ وصول الرئيس “بايدن” لسدة الحكم أراد الانقضاض على إرث سلفه “ترامب”، وهي المسألة التي ارتبط بها التراجع عن مبدأ “أمريكا أولاً” والاتجاه لدعم القيادة العالمية للولايات المتحدة، وذلك بالاستناد إلى أن أي فراغ تتركه واشنطن يملأه خصوم واشنطن الرئيسيين (روسيا والصين). وعلى هذا النحو، يتضح أن واشنطن قد عززت وجودها في أكثر من ساحة، مثل: أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي – الهادىء، والشرق الأوسط، ثم أفريقيا.

دعم دورها في مواجهة الخصوم:

شهدت سنوات تراجع الاهتمام الأمريكي بالقارة الأفريقية تزايد مماثل في نفوذ خصومها الرئيسيين (روسيا والصين). فيما يتعلق بروسيا، فقد اعتبرت “فيديريكا سايني فاسانوتي”، الزميلة البارزة غير المقيمة بمعهد “بروكنجز”، أن المحفز الأساسي للكرملين بأفريقيا يكمن في إحباط أهداف السياسة الأمريكية، “بصرف النظر – تقريبًا – عن جوهرها”. وعلى هذا النحو، فقد عززت موسكو من نفوذها عبر المدخل العسكري والأمني المتعلق – بشكل رئيسي – بمبيعات السلام ونشر المرتزقة. أما عن الصين، فمنذ تولي الرئيس الصيني “شي جينبينج”، فقد كثف من تركيز بكين على القارة السمراء الذي لم يتوقف عند حدود الأداة الاقتصادية بأشكالها المتنوعة، وإنما وصلت إلى تدشين أول قاعدة عسكرية خارجية صينية بجيبوتي عام 2017. لذا، فقد اعتبر “هيبوليت فوفاك”، رئيس ومدير الأبحاث والتعاون الدولي في بنك التصدير والاستيراد الأفريقي، أن عملية “إعادة الاصطفاف الجيوسياسي” تجري على قدم وساق في أفريقيا حيث تدور “الحروب بالوكالة”، بطريقة باتت أشبه بــــ”الحرب الباردة الجديدة”.

ضمان قاعدة “الأفروأمريكان”:

يمثل الوصول إلى أكبر قطاعات شعبية على الساحة الأمريكية هدف رئيس لكافة الإدارات الديمقراطية منها والجمهورية، وبالتالي يصعب استبعاد الأبعاد الداخلية في تحركات إدارة “بايدن” الخارجية، وذلك بالاستناد إلى حالة الاستقطاب الشديدة التي تشهدها الساحة الأمريكية. بعبارة أوضح، يمكن النظر إلى التحركات الخارجية لواشنطن في إطار حرصها على تحقيق أكبر قدر من الشعبية في الداخل في مواجهة التحركات المستميتة التي يقودها الجمهوريين، سيما من التيار الداعم لـــ”ترامب”. وعلى هذا النحو، يمكن النظر إلى حرص الإدارة على تعزيز تعاونها مع أفريقيا في ضوء رغبتها في ضمان أصوات قاعدة “الأفروأمريكان” خلال السباق الرئاسي القادم 2024.

مواجهة التهديدات الإرهابية:

لطالما كان البعد الأمني مسيطر على رؤية الولايات المتحدة لأفريقيا، كما مثلت مواجهة الإرهاب الآخذ في التمدد والاتساع في أفريقيا هدف رئيس لواشنطن في تعاملها مع القارة السمراء، وذلك في ضوء هدفها العالمي المتعلق بالحرب على الإرهاب. وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2022، شكلت أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 48٪ من الوفيات الناجمة عن الإرهاب العالمي. وكذا تعد منطقة الساحل هي موطن الجماعات الإرهابية الأسرع نموًا والأكثر فتكًا في العالم. الأمر الذي يعني أن الساحة الأفريقية باتت في حاجة إلى مزيد من الجهود المشتركة لمواجهة التهديدات الإرهابية المتصاعدة.

الاستفاد من موارد القارة وفرصها المتصاعدة: 

تمتلك أفريقيا احتياطيات ضخمة من الموارد الطبيعية، إذ تمتلك حوالي 12% من إجمالي احتياطيات النفط العالمي، حوالي 10% من إجمالي احتياطيات العالمية للغاز الطبيعي، بجانب احتياطات كبيرة من عنصر اليورانيوم والذهب والماس والبلاتين والكوبالت. ومن ناحية أخرى، فإن ما أبرز ما يميز أفريقيا عن غيرها من قارات العالم هي توقعات النمو المتسارعة؛ إذ إنه من المتوقع أن تكون 10 من دول القارة صاحبة الاقتصادات الأسرع نموًا في العالم خلال العقد القادم، وتتجه الطبقة المتوسطة بها نحو زيادة كبيرة بطريقة ستجعل منها سوقًا أكثر ديناميكية. وبالتالي، تمثل مسألة الاستفادة من الفرص التي تحملها القارة الأفريقية بعدًا لا يمكن إغفاله في تعامل أمريكا مع القارة السمراء، سيما في ضوء التنافس مع الصين، وذلك في إطار تركيز واشنطن على تعزيز فرص القطاع الخاص الأمريكي داخل الساحة الأفريقية.

تأمين الملاحة وطرق التجارة:

تشكل القرصنة قبالة القرن الأفريقي تهديدًا لأرواح ورفاهية المواطنين والدول حول العالم، حيث يمر ما يقرب من 12٪ من بترول العالم عبر خليج عدن. غالبًا ما تؤثر هجمات القرصنة على مصالح العديد من الدول، بما في ذلك المالكة للبضائع ودول إعادة الشحن ودول المقصد.  كذلك، فقد أدت أنشطة القرصنة في قبالة القرن الأفريقي وفي خليج عدن والمحيط الهندي إلى تقويض الجهود الإنسانية الدولية في أفريقيا. لذلك، ففي عام 2008، صدقت الحكومة الأمريكية على سياسة لمعالجة تهديدات القرصنة في القرن الأفريقي بشكل فعال من أجل الإدارة السلسة للاقتصاد العالمي والملاحة البحرية.

دعم الاستقرار بالقارة:

نشأت بعض دول القارة على ميراث صراع أهلي متجدد، أفرز دولاً تعاني من الهشاشة وعدم الاستقرار.

الأمر الذي يؤشر على أن القارة السمراء تحوي عدد من بؤر الاحتقان التي قد تدفعها نحو الاشتغال بين الحين والآخر، بما يعني دخولها في حالة من عدم الاستقرار الذي لا تتوقف آثاره عند حدود القارة، وإنما قد تطال آثاره الساحة العالمية. نتيجة لذلك، يتضح أن هذا الوضع وما يحمله من مؤشرات سلبية يمثل محفز لواشنطن لبذل جهودًا لتجفيف مصادر النزاعات، وتعزيز قوة دول المنطقة، وكذا، العمل على الانخراط في حل الصراعات، مثل: حرب التيجراي، وشرق الكونغو الديمقراطية.

إحتواء الأوضاع الإنسانية المتردية:

لا تزال الأزمة الإنسانية بعدد من دول القارة هي الأسوأ في العالم؛ فقد نتجت عن الاضطرابات السياسية والصراعات المتجددة وموجات الجفاف والمجاعة. ناهيك عن كون الكثير من صراعات العنف يغذيها الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية والسياسية التي تتسبب في تفاقم الأزمات الإنسانية. ومن ناحية أخرى، تلعب التغيرات المناخية دورًا ملموسًا في تفاقم الأوضاع الإنسانية؛ فقد قدرت المنظمة الدولية للهجرة تضرر حوالي 15 مليون شخص بشدة من الجفاف في كينيا والصومال وإثيوبيا، معتبرة أن منطقة القرن الأفريقي تشهد “أسوأ موجة جفاف منذ عقود”.  وكاستجابة لذلك، انخرطت واشنطن إنسانيًا في المنطقة، إذ قدمت مساعدات تنموية وإنسانية لدول المنطقة في مجالات الصحة والزراعة والأمن الغذائي والانتعاش الاقتصادي والتنسيق الإنساني والمياه والصرف الصحي.

أطر وحدود التغيير:

عكست القمة الأمريكية الأفريقية الثانية نطاقًا من التغير في رؤية واشنطن تجاه القارة السمراء، وكذلك أطر أكثر اتساعًا لمجالات التعاون والتشارك بين الجانبين. وتأتي هذه القمة في وقت يبدو فيه أن النظام الدولي الذي تبلور في أعقاب الحرب الباردة آخذ في التلاشي وبصدد طور جديد؛ إذ تتعرض المصالح الأمريكية الاقتصادية والسياسية والأمنية للتحديات على الصعيد العالمي، ما بين الحرب في أوكرانيا، والتوترات المتصاعدة في بحر الصين الجنوبي، السلوك العدائي من كوريا الشمالية وإيران، واتساع نطاق التهديدات التقليدية وغير التقليدية في أفريقيا.

وارتباطًا بذلك، يبدو أن هناك تزايد في الإدراك الأمريكي بشأن التحديات التي تفرضها القارة الأفريقية، وكذا الفرص التي تحملها. ناهيك عن التأكيد الإضافي الذي سيعكسه تزايد نفوذ واشنطن داخل القارة السمراء للقيادة العالمية للولايات المتحدة في ظل تزايد حدة التنافس الدولي. وعلى هذا النحو، يمكن النظر إلى حدود التغيير الذي غلف رؤية وسياسة إدارة “بايدن” تجاه أفريقيا وفق عدد من الأمور:

بداية، تجدر الإشارة إلى أنه على ما يبدو أن واشنطن قد أدركت وجود فجوة في الرؤى بين الأولويات التي تراها بشأن أفريقيا، وبين ما يراه الأفريقيون لأنفسهم وقارتهم. وهي المسألة التي يبدو أنها قد دفعتها لتبني – أي واشنطن – اقتراب يضع في اعتباره الأولويات التي رسمتها القارة السمراء لنفسها، والتي رسمت أطرها في الاستراتيجية الخمسينية 2063.

واتصالاً بذلك، فإن أبرز النقاط المضيئة في تعامل إدارة “بايدن” مع أفريقيا هو التركيز على دور الشباب والمجتمع المدني. الأمر الذي يعني أن واشنطن لا تسعى إلى تعميق تعاونها الرسمي مع الحكومات فحسب، وإنما تسعى إلى تعزيز انخراط متعدد المستويات يضع في اعتباره الطاقات البشرية الهائلة بالقارة السمراء، وهي المسألة التي لم تكن تحظى بالتركيز الكافي في تحركات واشنطن في أفريقيا من قبل.

علاوة على ذلك، فقد استمرت ملفات الأمن التقليدي في تبوأ مكانة مهمة على رأس أولويات واشنطن في تعاملها مع أفريقيا، سيما المتعلقة بالإرهاب. لكن تبقى المسألة الأكثر لفتًا للنظر في تبني اقتراب أمريكي لا يستند فقط إلى قضايا الأمن التقليدي، ولكن يضع في اعتباره قضايا الأمن غير التقليدي (مثل: البيئة والمناخ والغذاء…وغيره)، وكذا الأمور المتعلقة بالأبعاد التكنولوجية والأمن السيبراني بما يتناسب مع حالة التطور المتسارعة التي يشهدها العالم.

عطفًا على ما سبق، وفي ضوء العمل على رسم قواعد من المصالح المشتركة للجانبين (الولايات المتحدة وأفريقيا)، استمرت إدارة “بايدن” في مساعي واشنطن المستمرة والمتجددة المتعلقة بدعم دور ومصالح القطاع الخاص الأمريكي داخل القارة السمراء، سيما في ضوء التنافس الجاري بين واشنطن وبكين على الثروات والفرص المتصاعدة التي تزخر بها أفريقيا.

ويرتبط بذلك، استمرار الهدف المتعلق بمواجهة خصوم واشنطن في القارة السمراء على رأس أولويات إدارة “بايدن” تجاه القارة، وهي المسألة التي تحمل نتائج مزدوجة؛ بالاستناد إلى أن تزايد نفوذ خصوم واشنطن في أفريقيا قد يمثل محفز مهم لها صوب مزيد من الانخراط المتعدد الأبعاد بالقارة من جانب، لكنه في ذات الوقت قد يضع قيود على تحركاتها من جانب آخر، وذلك في ضوء رفض أفريقيا لأن تصبح ساحة حرب بالوكالة تتطلب منها الاصطفاف في معسكر ضد الآخر، وذلك أيضًا في ضوء القناعة الأفريقية بالاستفادة من كل الفرص المتاحة وتعميق الانخراط مع كل الأطراف.

ومن ناحية أخرى، يتضح أن إدارة “بايدن” لا تزال تسير وفق نهج “الانخراط الانتقائي” في الأزمات، إذ يتضح بالنظر إلى تفاعل الإدارة مع مشكلات وأزمات القارة أنها تبدو كحريصة على الانخراط في بعضها وتنأى عن الانخراط في أخرى؛ ومن الأمثلة الواضحة على ذلك (أزمة سد النهضة)، التي يبدو حتى الآن أن إدارة “بايدن” لم تعطيها الاهتمام الكافي والمطلوب للتوصل إلى تسوية. ومن ثم، يضر نهج “الانخرط الانتقائي”، بمصداقية واشنطن وصورتها داخل القارة السمراء، بل ويقوض أيضًا من فرص تعزيز تعاونها مع القارة.

وأخيرًا، وعلى الرغم من حالة الإيجابية التي تغلف تعامل إدارة “بايدن” مع أفريقيا، إلا أن التنفيذ والتحركات على الأرض هي التي ستثبت حجم التغيير الإيجابي الذي حققته الإدارة من عدمه. إذ أن إطلاق الإدارة لاستراتيجية خاصة بأفريقيا لا يضمن بالضرورة تنفيذها على النحو المطلوب، وهو الافتراض الذي يمكن أن يدلل عليه إطلاق “ترامب” لاستراتيجية شبيهة دون تحقيق تقدم ملموس على الأرض. وكذا، يبقى انعقاد القمة الأمريكية الأفريقية مسألة “بروتوكولية”، لحين الاتجاه لوضع توصياتها موضع التنفيذ الذي يحقق المصالح المرجوة للطرفين. لكن تبقى تحركات الإدارة تحمل مؤشرات إيجابية، بل وتمهد الطريق أمام تعاون أمريكي أفريقي يحقق مصالح الطرفين. ومن ثم، حتى وإن لم تحقق القمة الأمريكية الأفريقية كل الأهداف المرجوة منها، إلا أنها تظل كإنطلاقة لفتح أفاق جديدة أمام شراكة أمريكية أفريقية متوازنة للمستقبل.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/31834/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M