بين إرث الماضي وداء الحاضر: نطاقات العبودية الحديثة في الولايات المتحدة

مها علام

 

“لن تنعم أمريكا بالسلام أبدًا، مادامت العبودية موجودة” بتلك العبارة التي نُسبت لـــــ “جون براون” الذي ناضل لسنوات من أجل حرية العبيد على الساحة الأمريكية، يمكن إدراك حجم التداعيات السلبية الضخمة الناجمة عن وجود العبودية.  وعلى الرغم من اتجاه بعض التحليلات إلى اعتبار العبودية قضية قديمة ضمن صفحات الماضي الأمريكي، إلا أن الواقع يؤشر على كونها لا تزال مستمرة وفق أشكالًا وصورًا أكثر تنوعًا واختلافًا.

تعرف مؤسسة “ووك فري “Walk Free العبودية على أنها “حالات استغلال بحيث لا يمكن للشخص تركها أو رفضها بسبب تهديدات أو عنف أو إكراه أو خداع أو إساءة استخدام للسلطة”. وللحصول على تقديرات على المستوى القطري، أطلقت المؤسسة مؤشر العبودية العالمي The Global Slavery Index في عام 2013. وقد قدر المؤشر الأول وجود 29.8 مليون شخص حول العالم، ثم إلى ما يتجاوز 40 مليون شخص وفقًا لمؤشر عام 2018؛ بينهم نحو 400 ألف في الولايات المتحدة وحدها. الأمر الذي يثير التساؤل بشأن استمرار العبودية على الساحة الأمريكية، وكذا النطاقات التي تنتشر فيها.

إرث الماضي وداء الحاضر

قد يعيد مصطلح العبودية في الولايات المتحدة إلى الأذهان صورة تاريخية لثري أبيض يملك مزرعة تحوي عدد من ذووي البشرة السوداء المستعبدين قبل الحرب الأهلية. منذ نهاية حرب الاستقلال خلقت مسألة العبودية أزمة وأثارت جدلًا واسعًا؛ فبينما طالب البعض بالإبقاء عليها  لما تجلبه من فوائد وأرباح على أصحاب مزارع القطن والتبغ والمناجم، شدد آخرون على أهمية إلغاء العبودية انطلاقًا من كونها ممارسة غير أخلاقية وغير عادلة.

لكن الوضع الحالي على أرض الواقع يدلل على أن العبودية في أمريكا لم تتوقف، لا بعد إعلان تحرير العبيد الذي أصدره الرئيس الأمريكي “إبراهام لينكولن” في عام 1863، ولا حتى بعد التصديق على التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكي في عام 1865 الذي ألغى العبودية رسميًا في كامل الولايات المتحدة، إلا ما يُطبق منها كعقوبة على الجرائم. وعلى الرغم من ذلك، دفعت مجموعة من العوامل، وتحديدًا في المناطق الجنوبية؛ أبرزها: ما أطلق عليه “قوانين السود” وجماعات التفوق الأبيض والتطبيق الانتقائي للقوانين.

وعلى مدى أكثر من 400 عام منذ بدء استقدام “العبيد” إلى القارة الأمريكية حتى اليوم، تغيرت العبودية من حيث الأشكال التي تتم بها والنطاقات التي تقع فيها. فمن كان يُجبر على الإبحار إلى أمريكا مقيدًا بالسلاسل، صار اليوم يدخلها تهريبًا أو تسللاً أو تزويرًا. ما يعني أن رٌحى الاستعباد لا تزال تدور وتسحق معها أكثر الناس ضعفًا وفقرًا وتهميشًا، من خلال استغلالهم في سوق سوداء تكبلهم وتجعلهم “عبيدًا”.  ووفقًا لمنظمة “ووك فري” تضم العبودية الحديثة شكلين رئيسيين:

العمل القسري:  لفت مؤشر العبودية العالمي لعام 2018، إلى أن عدد من يعانون من هذا الشكل من أشكال العبودية يقرب من 25 مليون شخص حول العالم. ويضم هذا الشكل صورًا متعددة أبرزها: (عبودية الدين، استغلال المهاجرين، عمالة الأطفال، استغلال الفئات المهمشة، العمل الإجباري من قبل الدولة).

الاستغلال الجنسي: لفت مؤشر العبودية العالمي لعام 2018، إلى أن عدد من يعانون من هذا الشكل من أشكال العبودية يقرب من 15 مليون شخص حول العالم. ويضم هذا الشكل صورًا متعددة أبرزها: (الزواج القسري، بيع الزوجات، زواج الأطفال، الاستغلال الجنسي والدعارة القسرية وبالأخص للمهاجرين والفارين من النزاعات).

تنعكس هذه الصور والأشكال داخل الساحة الأمريكية؛ ففيما يتعلق بالعمل القسري، يجري استغلال الناس في مجموعة متنوعة من الأعمال، بما في ذلك: البناء وصالونات التجميل والزراعة وطواقم المبيعات المتنقلة والمطاعم والعمل المنزلي. أما ما يتعلق بالاستغلال الجنسي، توجد العبودية في شكل الاتجار بالجنس في المنتجعات الصحية غير المشروعة وصالونات المساج والفنادق والموتيلات وغيرها. كما لا تزال تشكل العمالة القسرية نسبة في سلاسل التوريد العالمية للسلع والخدمات، بما في ذلك الكاكاو والصلب والإلكترونيات والمأكولات البحرية والمنسوجات وغيرها.

وبشكل أكثر تفصيلًا، ووفقًا للتفاصيل التي أشار إليها مؤشر العبودية العالمي 2018 على موقعه الإلكتروني، يحدث العمل القسري داخل مجموعة متنوعة من الأعمال انعكست في الحالات التي يتم الإبلاغ عنها إلى الخط الساخن الوطني للاتجار بالبشر؛ وهي العمل المنزلي، والزراعة والعمل الزراعي، وأطقم المبيعات المتنقلة، والمطاعم أو خدمات الطعام، وأخيرًا، خدمات الصحة والجمال.

ففيما يتعلق بمظاهر العبودية التي تنعكس في العمل المنزلي، تلعب سياسات الهجرة الأمريكية دورًا مهمًا في انتشارها لأن القانون ينص على أن العمال المنزليين مطالبين بالبقاء مع أرباب العمل الذين قاموا بجلبهم إلى الولايات المتحدة وإلا سيتعرضون للترحيل. ويواجه هؤلاء الضحايا أشكال مختلفة من الانتهاكات، كتخفيض الرواتب أو حجبها، الاعتداء الجسدي أو الجنسي، والتهديد بالترحيل. كما أبلغ العاملون في فرق المبيعات المتنقلة عن حالات من العبودية الحديثة، تتعلق بالاعتداء والتحرش الجنسي والإقامة في مدن غير مألوفة بالنسبة لهم حيث يُمنعوا من المغادرة من خلال مزيج من الاحتيال والقوة والإكراه.

أما ما يتعلق بالزراعة، يواجه بعض العاملين بها حالات واضحة للعبودية الحديثة، حيث يتم احتجازهم ضد إرادتهم، من خلال استخدام العنف أو التهديد به، وإجبارهم على العمل مقابل القليل من المال أو بدون مقابل. ويرجع ذلك لعدد من الأمور؛أبرزها، استبعاد عمال المزارع من قانون العلاقات الوطنية للعمل NRLA))، كما لا يضمن قانون معايير العمل العادلة (FLSA) أجر العمل الإضافي لعمال المزارع. علاوة على ذلك، يدخل العديد من عمال المزارع إلى الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، لذا، فإنهم يقبلون هذه الظروف الصعبة خوفًا من الترحيل.

أما عن العمل الجبري المفروض من قبل الدولة، فقد سلطت عدة قضايا قانونية حديثة ضد (مجموعة جي إي أو(The GEO Group Inc.  الضوء على مزاعم تتعلق بالعمل الجبري في مرافق احتجاز مملوكة لوزارة الأمن الداخلي، كما هو مقرر في التعديل الثالث عشر السابق الإشارة إليه الذي يسمح بالعبودية كعقوبة على الجرائم. تسلط هذه القضية الضوء على سياسات وممارسات إجبار وإكراه المحتجزين على أداء العمل بأجور متدنية انطلاقًا من كونها تنتهك قانون الحد الأدنى للأجور وقانون المنافسة غير العادلة في ولاية كاليفورنيا، وقوانين الولاية الخاصة بالإتجار وحماية ضحايا الاتجار بالبشر.

أما ما يتعلق بالشكل الثاني من العبودية المتمثل في الاستغلال الجنسي، فقد ذكر التقرير الفيدرالي حول الاتجار بالبشر لعام 2020 إلى أن قضايا الإتجار بالجنس بلغت 91% من قضايا الاتجار بالبشر النشطة التي تم الإبلاغ عنها؛ إذ يقوم المتاجرون باستغلال نقاط ضعف الضحايا، مثل: الإدمان، والهروب من المنزل، والتشرد في الشوارع، والديون المالية، والإعاقات الذهنية…وغيرها. وقد حدد مؤشر العبودية العالمي 2018 النطاقات التي يحدث فيها الاستغلال الجنسي استنادًا إلى المكالمات الواردة للخط الساخن الوطني للإتجار بالبشر؛ وهي: الفنادق والموتيلات، بيوت الدعارة التجارية، عبر الإنترنت، في المناطق السكنية، وفي الشارع.  وذكر التقرير الفيدرالي حول الاتجار بالبشر لعام 2017 أن 14.4 بالمائة من القضايا تحوي “مدعى عليهم قاموا بالاتجار بأطفالهم أو أزواجهم أو أشقائهم أو أفراد عائلاتهم الآخرين”.

وفي السياق ذاته، يسلط الاستغلال الجنسي القسري في صالات المساج والتجميل – على سبيل المثال – الضوء على مواطن الضعف والخلل الخاصة بالمهاجرين في الولايات المتحدة.  إذ يغلب على الضحايا أنهن مهاجرات في منتصف الثلاثينيات إلى أواخر الخمسينيات من العمر، لديهن مهارات محدودة في اللغة الإنجليزية، ويواجهن أعباء مالية. ونتيجة لظروفهن يُفرض عليهن العمل لساعات طويلة ويتم تهديدهن بالاعتقال أو الترحيل إذا حاولن المغادرة. كما تُستخدم التهديدات بإخبار عائلاتهن وأصدقائهن في وطنهن الأم بأنهن يعملن في صناعة الجنس التجاري لثنيهن عن الفرار. أما عن الزواج القسري، فنتيجة لعدم وجود حد أدنى لسن الزواج، تصبح الفتيات عرضة لخطر الزواج بالإكراه.

كما ذكر مؤشر العبودية العالمي أيضًا أن الناجين من العنف والصدمات لا يزالون أكثر عرضة للاستغلال؛ إذ يستهدف المُتاجِرون “ضحايا العنف المنزلي، والاعتداء الجنسي، والحرب والنزاع، أو التمييز الاجتماعي” بطريقة تجعل الضحايا يعتقدوا أن الاستغلال والإيذاء الذي يتعرضوا له هو نتيجة طبيعية لانتقالهم أو هجرتهم. ويعتبر المهاجرين، سيما النساء والأطفال، من الفئات الأكثر عرضة بشكل خاص للعبودية الحديثة في الولايات المتحدة بسبب تدني مستوياتهم التعليمية، وعدم إلمامهم الكافي باللغة الإنجليزية، وعدم وعيهم بحقوقهم ووسائل الحماية المتاحة. فضلًا عن كونهم يعملون غالبًا في وظائف غير منتظمة لا تضمن حقوقهم.  علاوة على ذلك، فإن الأطفال هم أيضًا فئة معرضة بشكل خاص للعبودية الحديثة في الولايات المتحدة، إذ يستهدف المتاجرون بالبشر بعض الأطفال والشباب الذين ينتقلون من دور الرعاية، مستغلين تدني احترام الفرد لذاته وتاريخ إساءة المعاملة.

وعلى الجانب الآخر، في حين أن العبودية الحديثة تحدث بوضوح داخل الولايات المتحدة، فإن حقائق التجارة والأعمال العالمية تجعل من الطبيعي تعرض الولايات المتحدة، مثل العديد من البلدان الأخرى، لخطر العبودية الحديثة من خلال المنتجات التي تستوردها، في مقدمتها: الإلكترونيات والملابس والأسماك والكاكاو والسكر. ووفقًا لمؤشر العبودية العالمي 2018، فإن المصدر الرئيس لهذه الواردات هو الصين، بالإضافة لمجموعة أخرى من الدول تضم: فيتنام والهند وماليزيا وتايلاند والبرازيل والأرجنتين واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وروسيا وغانا وكوت ديفوار وبيرو.

مواجهة العبودية الحديثة بين الجهود والعراقيل:

وضع مؤشر العبودية العالمي 2018 الولايات المتحدة في مرتبة متقدمة فيما يتعلق باستجابة الحكومة لمواجهة العبودية الحديثة. إذ احتلت المرتبة الثانية بعد هولندا بتصنيف (BBB*)، وبنسبة (دعم للضحايا) تصدرت بها كل دول العالم وصلت إلى 92.6%، بجانب تصدرها كافة دول العالم فيما يتعلق بــــــــ”إجراءات مواجهة العبودية الحديثة في سلاسل التوريد” بنسبة وصلت إلى 65%.

واستنادًا إلى ذلك، يتضح أن هناك جهود مكثفة على الساحة الأمريكية لمواجهة العبودية الحديثة وتقليل نطاقاتها على المستويين التشريعي والتنفيذي. إذ يحظر قانون التعريفة الجمركية الأمريكية لعام 1930 (القسم 307) استيراد السلع المنتجة أو المصنعة، كليًا أو جزئيًا، في أي بلد، عن طريق عمل مدان أو قسري أو بالسخرة، بما في ذلك عمالة الأطفال بالسخرة. ومع ذلك، فقد قوض تأثير هذا القانون ما عُرف بثغرة “الطلب الاستهلاكي”، التي سمحت لهذه الواردات بالاستمرار في الدخول للسوق الأمريكي إذا كان الإنتاج المحلي غير كافٍ. إلا أن قانون تسهيل التجارة وإنفاذ التجارة لعام 2015 قد ساهم في العمل على سد هذه الثغرة.

تم وضع هيكل الاستجابة لمكافحة الاتجار بالبشر في الولايات المتحدة منذ عام 2000، ويتألف من أكثر من 15 وكالة فيدرالية تكافح الاتجار بالبشر. كما يواصل قانون حماية ضحايا الاتجار في الولايات المتحدة (TVPA) فرض متطلبات الإبلاغ على الوكالات الفيدرالية الأمريكية، مثل تقرير الاتجار بالبشر الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، وقائمة وزارة العمل الأمريكية للسلع التي تنتجها عمالة الأطفال أو العمل الجبري. غالبًا ما يتم النظر في نتائج واستنتاجات هذه التقارير من قبل الحكومة في اتخاذ قرارات السياسة الاقتصادية والتجارية. بالإضافة إلى ذلك، فإن جميع الولايات الأمريكية لديها قوانين جنائية تتعامل مع الإتجار بالبشر.

وخلال عام 2016، أقر الكونجرس مبادرة إنهاء العبودية الحديثة، وهي تشريع قدمه رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ “بوب كوركر” وبدعم من الحزبين بالكونجرس، والمنظمات الدينية مثل Bread for the World وWorld Vision ، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الأفراد. قال “كوركر” عندما تم التوقيع على مشروع القانون ليصبح قانونًا في 23 ديسمبر 2016: “إن الواقع الصارخ للعبودية الحديثة غير معقول، ويتطلب من الولايات المتحدة والعالم المتحضر بالالتزام بإنهائه نهائيًا”.

علاوة على ذلك، تعد القائمة السنوية لوزارة العمل للمنتجات التي تم تعدينها أو إنتاجها أو تصنيعها عن طريق عمالة الأطفال القسرية أو بالسخرة مفوضة بموجب الأمر التنفيذي 13126 لعام 1999، المعنون حظر اقتناء المنتجات التي ينتجها العمال القسريون أو العاملون بالسخرة. كما نفذت لائحة الحيازة الفيدرالية (FAR) الأمر التنفيذي رقم 13627، تعزيز الحماية ضد الاتجار بالأشخاص في العقود الفيدرالية، وقانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2013. تسمح هذه القواعد للوكالات الفيدرالية بإنهاء العقود الحكومية إذا انخرط أي مقاول أو مقاول من الباطن في الاتجار بالبشر.

عطفًا على ما سبق، فقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقرير الاتجار بالبشر  في عام 2017  الذي يقوم بإصدار موجز سنوي لتقييم الإجراءات التي تتخذها الحكومات في جميع أنحاء العالم لمعالجة هذه القضية. كما تمول الحكومة الأمريكية الخط الساخن الوطني للاتجار بالبشر الذي يوفر خطًا ساخنًا مجانيًا متعدد اللغات وخدمة الرسائل النصية لأولئك الذين يسعون إلى الإبلاغ عن حوادث العبودية الحديثة المشتبه بها أو لتلقي المساعدة في تركها.

وتشمل النماذج الجديدة للتشريعات قانون كاليفورنيا للشفافية في سلاسل التوريد (CTSCA)، الذي دخل حيز النفاذ اعتبارًا من يناير 2012، يتطلب من تجار التجزئة والمصنعين الذين يمارسون الأعمال التجارية في كاليفورنيا الكشف على مواقعهم الإلكترونية عن جهودهم للقضاء على العبودية والاتجار بالبشر من سلسلة التوريد المباشرة للسلع الملموسة المعروضة للبيع. كما صادق الرئيس “جو بايدن”، في ديسمبر المنصرم، على قانون يحظر الواردات من منطقة شينجيانج الصينية بسبب مخاوف بشأن العمل القسري الذي قد تمارسه السلطات الصينية على أقلية الإيجور..

على الرغم من الإجراءات الكثيفة التي تتخذها الولايات المتحدة على المستويين التشريعي والتنفيذي لمواجهة العبودية الحديثة، والتي تم الإشارة إلى بعضها، إلا أنه لا يبدو أن الولايات المتحدة بصدد إنهاء حقيقي شامل للعبودية الحديثة في كافة أشكالها وصورها، ويرجع ذلك لعدد من الأمور؛ أبرزها: 

تتعلق أول هذه الأمور باعتبار الذاكرة التاريخية المرتبطة بالعبودية جزء مهم في بناء العقلية الأمريكية على مدار سنوات. فقد ذكر “جوزيف ماكجيل” – مؤرخ لتاريخ العبودية في الولايات المتحدة – في حوار له مع قناة الجزيرة، أنه كان هناك 12 رئيس أمريكي من ملاك العبيد، و25 ممن صاغوا الدستور الأمريكي كانوا أيضًا من ملاك العبيد، و41 ممن وقعوا على إعلان الاستقلال كانوا معنيين بحفظ نظام العبودية.

إضافة إلى التداخل والتشابك الكبير بين قضيتين العنصرية والعبودية، بطريقة قد تساهم في استخدام مبررات عنصرية من أجل دعم استمرار الأشكال والصور المختلفة للعبودية.  فرغم إلغاء الفصل العنصري في الولايات المتحدة عام ١٩٦٤، إلا أن هذه الظاهرة لا تزال جمرًا تحت الرماد. إذ يتضح أن المعرضين للعنصرية هم الأكثر عرضة للعبودية الحديثة.

علاوة على ذلك، فقد تمثل إشكالية المفهوم ذاته عاملًا مؤثرًا في التعامل مع هذه القضية. فقد أوضح “مايكل دوتريدج Michael Dottridge” – الذي أمضى 25 عامًا في العمل في منظمات حقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية ومنظمة مناهضة العبودية الدولية (حيث كان مديرًا لمدة ست سنوات) – أن استخدام مصطلح العبودية ليس مناسبًا. كما لفتت منظمة العمل الدولية إلى أنه ليس كل من لا يحصل على أجر غير عادل يتم إجباره على العمل.

عطفًا على ما سبق، فلاتزال هناك صعوبة من التحقق من العدد الفعلي لضحايا العبودية الحديثة سواء على الصعيد العالمي أو داخل الولايات المتحدة؛ ويرجع ذلك لعدد من الأسباب، مثل: غياب الوعي بالحقوق ووسائل الحماية لدى بعض الأشخاص، والعوائد الاقتصادية الكبيرة التي تدفع الشركات إلى عدم تصحيح ظروف العاملين لها أو حتى الكشف عن معاناتهم للمنظمات المعنية، وكذا الفساد السياسي والإداري الذي يرى في مصلحته استمرار هذا الوضع، بجانب البعد الثقافي الذي لا يرى غضاغة تجاه بعض الممارسات بل ويعتبرها انعكاسًا طبيعيًا لثقافته. وبالتالي، فإن عدم القدرة على تحديد الحجم الحقيقي للمشكلة يعني مزيد من العراقيل في سبيل مواجهتها.

ومن جانب آخر، يعترف القانون الاتحادي بأنه لا ينبغي معاملة الضحايا كمجرمين بسبب السلوك المرتكب كنتيجة مباشرة للتعرض للاتجار. ومع ذلك، تفيد بعض التقارير بأن الضحايا يتعرضون للاعتقال بسبب جرائم ارتكبوها أثناء العبودية الحديثة. فالأطفال – على وجه الخصوص – عرضة للاعتقال بسبب الاستغلال الجنسي التجاري. وفقًا لبيانات وزارة العدل الأمريكية عام 2019، تم القبض على ما لا يقل عن 290 مراهقًا وقاصرًا تتراوح أعمارهم بين 10 و 17 عامًا لجرائم جنسية، على الرغم من إصدار ما يصل إلى 10 ولايات قوانين تنص على أنه لا يمكن القبض على القاصرين بسبب الإغواء أو الدعارة. ووفقًا لصحيفة “واشنطن بوست”، تشهد ولاية نيفادا أكبر عدد من الاعتقالات للقصر بسبب الدعارة.

عطفًا على ما سبق، تبدو قضية الهجرة وسياسات التعامل مع المهاجرين من أبرز العوامل المؤثرة في انتشار العبودية الحديثة على الساحة الأمريكية. قد لا يكون هناك مكان يلجأ إليه ضحايا العبودية الحديثة – سيما من المهاجرين – للحصول على الضروريات الأساسية مثل الطعام والمأوى والوصول إلى الخدمات الطبية بعد الفرار. الأمر الذي قد يجبرهم على الاستمرار من جانب، كما قد يدفعهم إلى أن يتحولوا إلى مجرمين من جانب آخر.

وفيما يتعلق بالعمل الجبري الذي تفرضه الحكومة على السجناء، فيبدو أنه من غير المرجح أن يشهد تحركات لوقفه على المدى القريب. فجانب كونه مبرر قانونيًا، من المتوقع أن تفرض الشركات التي تستفيد منه ضغوط كبرى ضد الحملات التي تدينه؛ سيما شركات الأسلحة الكبرى. إن استخدام السجناء الذين توظفهم شركة Unicor، وهي شركة مملوكة للحكومة كانت تُعرف سابقًا باسم Federal Prison Industries، يوفر لصانعي “باتريوت” و”ريثيون” و”لوكهيد مارتن”، الكثير من المال على تكاليف العمالة. فقد قال “ويليام هارتونج”، مؤلف كتاب “أنبياء الحرب: شركة لوكهيد مارتن وتكوين المجمع الصناعي العسكري”، إنه “لا توجد قيود على حقوق العامل أكبر من كونه عالقًا في السجن”.

أما ما يتعلق بسلاسل التوريد، فيبدو أن الشركات الأمريكية الكبرى تمارس ضغوط كبرى على الكونجرس لمنع تمرير القوانين التي تفرض إجراءات صارمة تتعلق بمزاعم للعبودية الحديثة في سلاسل التوريد. فقد ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، أن “نايكي وكوكا كولا وأبل من بين الشركات الكبرى ومجموعات الأعمال التي كانت تضغط على الكونجرس لإضعاف مشروع قانون يحظر الواردات من منطقة شينجيانج الصينية. ما يعني أن تمرير هذا القانون جاء لاعتبارات سياسية في إطار الصدام الجاري بين واشنطن وبكين، وليس انطلاقًا من مواجهة العبودية الحديثة. وبالتالي، فمن الصعب توقع إصدار قوانين مماثلة تجاه الدول الأخرى الحليفة لواشنطن.

في حين يتضح أن الجانب الأكثر ضعفًا المرتبط بالاستغلال الجنسي يرتبط بكون الزواج القسري ليس مجرمًا على المستوى الفيدرالي، فقط ثماني ولايات أمريكية، بالإضافة إلى واشنطن العاصمة وجزر فيرجن الأمريكية، لديها قوانين جنائية محددة ضد الزواج القسري. بينما تحدد جميع الولايات سن 18 عامًا أو أكثر كحد أدنى للزواج دون موافقة الوالدين، تسمح العديد من الولايات بالزواج دون السن بموافقة الوالدين.

مجمل القول، إنه على الرغم من النموذج القيمي الذي تحاول الولايات المتحدة تصديره عالميًا، إلا أن العبودية لاتزال قضية قائمة على الساحة الأمريكية، وإن اختلفت أشكالها وصورها. الأمر الذي يرسل برسائل إنذار حول وضع السلام المجتمعي داخل الولايات المتحدة وتأثيراته على استمرار قوتها وهيمنتها دوليًا.

.
رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M