تأملات_قرآنية من الآية الثانية والثلاثين من #سورة_فاطر

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

التأمل الأول :
إن الإنسان خليفة الله في الأرض ليحمل كتابه وتشريعاته ويطبقها في الأرض لتتحقق العبادة الحقيقية في الأرض التي تعتبر عِلّة الخلق ، وينقسم عباد الله الى ثلاث أقسام :
1) الأول : ظالم لنفسه بالذنوب والمعاصي فيحرم نفسه من أن يكون خليفة مؤهلاً لحمل شريعة الله في الأرض .
2) الثاني : مقتصد وهو أفضل من الأول ، إذ يكون متوزاناً في كل شيء ، فيبتعد عن المعاصي إلا أنه لا يترك الاستغفار ، ويلتزم بالواجبات مع الشعور بالتقصير ، فيكون أقدر على حمل كتاب الله العزيز من الأول.
3) الثالث : السابق بالخيرات وهو أفضلهم ، إذ أن سباقه نحو الخيرات يجعله تاركاً للمكروهات وكأنها محرمات ، فضلاً عن ترك المحرمات نفسها ، وملتزماً بالمستحبات وكأنها واجبات ، فضلاً عن أداء الواجبات نفسها ، لذا يكون أكثرهم قدرة على حمل شريعة الله عز وجل وأحكامه ، وذلك هو الفضل الكبير .

التأمل الثاني:
إن العبد المؤمن يمر بعدة مراحل تكاملية إن كان ممن يأمل من الذين يصطفيهم ربهم ليورثه الكتاب ، أو على الأقل يكون مؤهلاً من حيث النية والاستعداد ، وأن لا يهمل هذا الشرف الكبير والتكليف العظيم . فعندما يكون العبد ظالماً لنفسه بالعصيان فليسعَ لتجاوز هذا الظلم ويقتصد في الأمور التي تسبب المعصية ، فالمنصب مثلاً من المسائل التي تسهّل ارتكاب المعصية فليتركه إلا لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وكذلك الأموال وغيرها ، ليسابق الآخرين في الخيرات ، لأن انشغال العبد بالمنصب والمال وما شابه يعرقل السباق الى الخيرات إلا أن تكون هذه الأمور هي مصدراً للسباق لنيل الخيرات في الدنيا والآخرة ، فالكتاب الذي يأمل العبد أن يرثه يركّز كثيراً على الانتقال من المعصية الى السباق الى الخيرات ، عندها سيكون على طريق وراثة الكتاب .

التأمل الثالث:
من المتعارف أن الاقتصاد مرتبط بالمال والأعمال ، فمن يريد أن يقتصد بأمواله فعليه أن يصرفها في الأمور الانتاجية ( أو ما تسمى بالمصروفات الرأسمالية ) المهمة أكثر مما يُصرَف على الأمور الاستهلاكية التي يجب أن تُصرَف من أرباح المصروفات الرأسمالية ، فيتحسن حال الفرد أو البلد من خلال نفس المدخولات .
وفي الحقيقة فمن لا يكون مقتصداً بهذا المعنى فسيكون ظالماً لنفسه ، وعلى المستوى الاجتماعي فإن النظام غير المقتصد سيكون ظالماً للمجتمع ، لأنه إن لم يكن مبذراً ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) فسيضيّع كثيراً من الخيرات ، أما إذا كان يسابق بخيرات الاقتصاد فستكون ثمرات تلك الخيرات أكبر بإذن الله تعالى ذي الفضل الكبير .

التأمل الرابع:
بعض الأنظمة الاقتصادية تحقق اقتصاداً متميزاً من وجهة نظر علم الاقتصاد إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون غير ظالم لمن يُطبَّق عليهم ، وفي الوقت نفسه لا يكون هذا النظام ومن يُطبَّق عليه مصدراً للسباق بالخيرات والى الخيرات ، وبالتالي فإن عباد الله الذين يأملون أن يكونوا من ورثة كتاب الله أو ممن يسير على نهجهم لا يرتضون أن يكون النظام الاقتصادي الذي يدير شؤونهم الاقتصادية وفق أسس تظلم الناس – بإبعادهم عن الله وتقرّبهم من المعاصي – ولا تجعلهم يسابقون بالخيرات والى الخيرات ، بل يَتَّبَنَون نظاماً إقتصادياً وفق رؤى قرآنية ، فيرفضون الربا والمتاجرة بالخمر والفواحش وامتهان الغش والسرقة وغير ذلك لأنها ظلم لهم ولمجتمعهم، وينتهجون كل نهج فيه سباق الى الخيرات بواسطة الخيرات ، بحيث تكون الخيرات وسيلة وغاية ، فلا يكفي أن تكون الغاية مليئة بالخيرات ، بل لا بد أن تكون الوسيلة مليئة بالخيرات أيضاً ، وهذا هو الفضل الكبير الذي لا نناله إلا بإذن الله تعالى .

التأمل الخامس:
من الضروري أن نتعلَّم مما نقله لنا كتاب الله العزيز الذي أورثه الذين أصطفاهم تعالى من عباده عن الأقوام السابقة ( كاليهود والنصارى ) ، فلو أن اليهود والنصارى أقاموا كتبهم ( التوراة والإنجيل ) في أممهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) أي يتحقق عندهم أمنٌ غذائي ، أو ليست غاية الاقتصاد أن يكون هناك أمنٌ غذائي ؟! ولكن المشكلة أن بعضهم أصبحوا مقتصدين وكثيرٌ منهم ساء ما يفعلون بظلمهم أنفسهم ( مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ? وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) . ولو أن كل شخص صار مقتصداً لكانت أمتنا مقتصدة ، وكما أن المقتصد يبتعد شيئاً فشيئاً عن ظلم نفسه ويسابق بالخيرات ، فالأمة المقتصدة ستبتعد أيضاً عن ظلم نفسها وتسابق بالخيرات .

التأمل السادس:
من أوجه الاختلاف بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الإسلامي هو أن الأول يعطي حرية لتنامي رؤوس الأموال حتى لو كانت على حساب ظلم الآخرين ، فيشرعون القوانين مثلاً التي تساهم في زيادة أموال أصحاب رؤوس الأموال حتى لو كانت تضر بعقيدة وكرامة الإنسان ، كما في موضوع الجندر والمثلية وشرب الخمر والربا وغيرها ، بينما الاقتصاد الإسلامي يشجع على نمو رأس المال ولكن بشروط وقيود لمنع ظلم الآخرين ، سواء ظلمهم في دينهم أو دنياهم ، لذلك نجد تطور رأس المال الإسلامي – إذا ما طُبِّقت الشريعة الإسلامية – بطيئاً مقارنة برأس المال الغربي لأن الإسلام يريد تحقيق الغاية النبيلة ( ومنها نمو رؤوس الأموال ) بغايات نبيلة أيضاً ، وتكون هذه الغايات النبيلة وسائل سباق لتحقيق الخيرات ، أما الغرب فعنده الغاية تبرر الوسيلة .

التأمل السابع:
على المسلمين أن لا ينبهروا بالتطور الاقتصادي الذي تشهده دول الغرب ، لأن هذا الانبهار سيدفع المسلمين الى السعي – من حيث يشعرون أو لا يشعرون – الى الاستسلام لهذا النظام الاقتصادي المنحرف والافتخار بتطبيقه في بلدانهم !! فهذا التطور لم يُبنَ على أساس صحيح ، باعتبار أن غايتهم تبرر وسيلتهم ، فظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين ، وظلموا شعوبهم – بإضلالهم وخداعهم بعناوين براقة – وظلموا شعوب العالم عبر ما يسمى بالأمم المتحدة ومجلس الأمن ، ونحن كمسلمين لا تتناسب معنا هذه السياسة الاقتصادية ، ولو أراد ساستنا تطبيق هذه السياسة في دولنا فيفترض أن نرفضها ونقف بوجهها ، لا أن نرى العكس ، إذ يصفق بعض المسلمين لكل حاكم يتبع النظام الاقتصادي الغربي حتى لو أدّى الى إضعاف دِين شعبه ويمنعه من السباق بالخيرات التي يراها الغرب تخلفاً وتقهقهراً وكراهية وما شابه .

التأمل الثامن:
من المؤسف أن نرث ثقافة خاطئة كالأعراف والتقاليد بدل أن نرث كتاب الله العزيز ، فمثلاً يعتقد البعض أن الاقتصاد في المصرف هو بُخلٌ وأن التبذير كرمٌ ، مع إن القرآن الكريم يشيد بالمقتصدين وينتقد المبذرين ، مما أدى الى خلق جيل مُبذّرٍ بحجة الكرم وغير مقتصد بحجة أنه غير بخيل ! وبذلك قد خالف الكتاب الذي أورثه عباده الذين يُفتَرَض أنه منهم ، وظَلَمَ نفسه بتضييع فرص التقدم والتكامل من خلال الاقتصاد ومن خلال هدر كثير من الأموال والطاقات تحت عنوان الكرم ! وبذلك لم تبقَ أمامه فرصٌ للسباق بالخيرات لأنه ضيّعها بالتبذير وعدم الاقتصاد ، وكان عليه أن يفَهمَ الاقتصاد على أنه الإنفاق على ما يجب وترك ما لا يجب وأن الكرم هو أن يُغدِقَ على الآخرين بما ينفعهم من دون زيادة لا يستفيدون منها كما كان يفعل الإمام الحسن عليه السلام .

التأمل التاسع:
إن الخسائر في الوقت والجهد والمال تُضعّف الاقتصاد ، وكلما قلّت هذه الخسائر كلما كَبُر الاقتصاد ، وهذا ينطبق على أصغر المشاريع التجارية ، فأي محلين تجاريين بسيطين متساويين في الإيردات فإن أكثرَهما ربحاً أقلُهما إنفاقاً على الأمور التشغيلية ( الإيجار والرواتب والوقود والمواد الخام وغيرها ) ، هذا في الجانب المادي ، وفي الجانب المعنوي هناك أمر مشابه ، فالاقتصاد المعنوي – إن صح التعبير – هو التمكن من السباق بالخيرات ، فكلما كان المتسابق بالخيرات أكثر عطاءاً كلما كان أكثر إقتصاداً من الناحية المعنوية ، وبما أن ظلم النفس يؤخّر ويعرقل هذا السباق فإن السباق بالخيرات يتناسب عكسياً مع ظلم النفس ، فيزداد إذا قلّ ويقلّ إذا ازداد ، هذا ما تعلمناه من عباد الله المصطفين ممن ورثوا كتاب الله المبين .

التأمل العاشر:
من الواضح أن الوقت والجهد والمال إذا لم تتم إدارتهم بشكل محترف فستؤدي الى هزات في الاقتصاد ، فتصنيع سلعة لا بد أن يكون ضمن وقت معين وإلا ستكون صناعة هذه السلعة غير مربحة ، وكذلك إذا كان الجهد والمال المصروفان عليها كبيرين . وهذا لا يقتصر على الاقتصاد المادي فقط ، فالاقتصاد (المعنوي) يتأثر بهذه العوامل وغيرها أيضاً ، فإذا كان بالإمكان تقليل الوقت والجهد والمال المبذول للوصول الى مرحلة تكاملية معرفية معينة ولم نقللها فقد ظلمنا أنفسنا ولم نكن من المقتصدين ، وسيعرقل هذا التضييع في الوقت والجهد والمال سباقنا الى الخيرات ، لأن السباق يتطلب وقتاً أقصر وجهداً أكبر ومالاً أكثر ، فإن وفّرها غيرنا كان له الفضل الأكبر والحظ الأوفر من الخيرات فنخسر .

التأمل الحادي عشر:
قد نرى الإيرادات المالية لدولة معينة أفضل من إيرادات دولة أخرى فيظن البعض أن الأولى أفضل اقتصادياً من الثانية ، وهذا الأمر صحيح إذا كانت الإمكانيات الاقتصادية ( البشرية والطبيعية وغيرها ) للأولى أفضل من الإمكانيات الاقتصادية للثانية بنسبة لا تزيد على الفرق بين الإيرادات لكل منهما ، أما إذا كان العكس فإن الدولة الثانية تكون أفضل إقتصاداً من الأولى .
يمكن أن نستفيد مما تقدم في الجانب المعنوي بأننا إذا رأينا الخيرات التي يقدمها شخص أكثر من الخيرات التي يقدمها شخص آخر فهذا لا يدل على أن الأول مقتصد – معنوياً – أكثر من الثاني وبالتالي فهو أفضل منه، فربما يكون الأول أقل ظلماً لنفسه ( أي إمكانياته أكبر ) من الثاني بنسبة تفوق زيادة خيراته عليه ، ولو كانا بمستوى ظلم واحد لكان الأمر صحيحاً .

التأمل الثاني عشر:
إن الذين ورثوا الكتاب اصطفاهم الله تعالى من عباده وفق مواصفات خاصة ، فرغم مكانتهم العالية عند ربهم إلا أنهم لا يرون هذه المكانة سبباً للتعالي على الناس ، فإن كانت هذه المكانة المرموقة قد حصلوا عليها لسباقهم بالخيرات ولم يسبقهم أحدٌ بها فهذا لا يدل – بحكم تربيته السماوية – على أنهم أفضل من الآخرين ، لأنهم يعلمون أنهم أقل الناس ظلماً لأنفسهم وهذا يعني أنهم أكثر الناس قدرة على العطاء والسباق بالخيرات ، وبالتالي فإن عطاءهم جاء نتيجة طبيعية لقدرتهم العالية على العطاء ، وهذا لا يدعو الى التفاخر والتباهي والتعالي ، بل قد يدعو الى الاعتراف بالتقصير ، لأن عطاءهم الحقيقي يفترض أن يكون أعلى من عطائهم الحالي بسبب مقدرتهم الكبيرة على العطاء التي لا يتميز بها غيرهم .
وهذه التربية درسٌ لنا لنتعلم كيفية النظر الى عطائنا ، كي لا تتسبب – هذه النظرة – في إحباط أعمالنا والعياذ بالله .

التأمل الثالث عشر:
الحمد لله رب العالمين الذي اصطفى من عباده ليورثهم الكتاب ، رحمة منه عز وجل لأنه رحمنٌ بالخلائق رحيم بعباده ، هذا الاصطفاء لا يكون إلا لمن اعترف بربوبيته تعالى للعالمين إعترافاً نظرياً انعكس على أفعاله وأعماله وأقواله ، ومقراً بأن المعاد له سبحانه باعتباره مالك يوم الدين ، وكيف يظلم نفسه بالمعصية مَن كان يفكّر بحساب يوم الدين ؟ فيستعين به جل وعلا على نفسه كي لا تُجبره على ظلمها ، وعلى أن يكون مقتصداً حتى يكون سابقاً بالخيرات فيهديه الصراط المستقيم ، لأن التوفيق لهذا السباق لا يكون إلا بإذن الله تعالى ، وبالتالي فهو فضل كبير كنعمة الصراط المستقيم التي لا يُنعمها الله جل جلاله إلا على مَن لا يظلم نفسه مِن غير المغضوب عليهم ولا من الضالين .

التامل الرابع عشر:
يفترض أن تكون غاية كل مسلم أن يهديه الله تعالى الصراط المستقيم ، باعتبار أنه – أي المسلم – يدعو على الأقل يومياً عشر مرات ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، هذا الصراط قد أنعمه الله سبحانه على فئة من عباده الصالحين الذين لم يظلموا أنفسهم ليكونوا من المغضوب عليهم أو من الضالين ، هذا يعني أن على المسلم أن يبحث عن هذه الفئة ويقتدي بهم ليكون ممن اهتدوا الى هذا الصراط المستقيم .
وهذا ينطبق أيضاً على من أورثه الله عز وجل الكتاب ، فعلى المسلم الراغب في أن يكون من ورثة الكتاب أن يبحث عن مَن اصطفاه الله لوراثة الكتاب ويقتدي بهم فيقتصد ويسابق بالخيرات عسى أن يرث الكتاب مثلهم ، ويتنعّم بهذا الفضل الكبير الذي لا مثيل له .

التأمل الخامس عشر:
إن الله تعالى كرّم بني آدم ( ولقد كرمنا بني آدم ) فأورثه الكتاب الذي فيه مواريث السماوات والأرض ، ولم يورثه مالاً أو منصباً أو زعامة كما يبحث عُبّاد الدنيا ممن ظلموا أنفسهم ، لأن هذه المسميات الزائلة لا تليق بعباد الله الذين أرادهم خالقهم أن لا يظلموا أنفسهم ليكونوا مؤهلين للاصطفاء ، فيكون الكتاب بالنسبة إليهم مناراً ينير دربهم فيقتصدون في حياتهم – بالاتجاهين المادي والمعنوي – حتى يتأهلوا ليسابقوا بالخيرات ، لأن هذا الكتاب الذي ورثوه يضع خارطة الطريق التي تسهّل هذا السباق .
وقد جاء في الروايات ( أن الفقهاء ورثة الأنبياء ) ، وبما أن الأنبياء أُرِثُوا الكتاب فقد صار الفقهاء مؤهلين لوراثة الكتاب ، وعليه فمن أراد أن يرث الكتاب – ولو الأساسيات منه – ولم يهتم بوراثة المال والزعامة فعليه أن يتجه صوب الفقهاء .

التأمل السادس عشر:
إن الله تعالى اصطفى من عباده قوماً ليورثهم الكتاب ، وعلى رأس من اصطفاهم المصطفى محمد صلى الله عليه وآله لأنه العبد الحقيقي ، وهو الذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه كما روي عنه ، وعليه فإنه يورث ما أورثه الله سبحانه الى من يستحق الوراثة ، ممن لم يظلم نفسه وكان مقتصداً حتى أصبح سابقاً بالخيرات ، فليس كل شخص يمكنه وراثة الكتاب ، إذ لا بد أن يكون مُهيَّأً لتحمل هذه المسؤولية ، لذا أوصى النبي المصطفى صلى الله عليه وآله بإتباع عبادٍ معينين بالأسماء الى جانب الكتاب الذي أورثه الله عز وجل ، حيث قال ( إني تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا: كتاب الله، وعِترتي أهل بيتي ) ، وعلى المسلمين الذين يريدون أن يرثوا الكتاب من ورثة الكتاب أن يلتزموا بوصية المصطفى صلى الله عليه وآله كي لا يظلموا أنفسهم ويكونوا مقتصدين بل ومسارعين بالخيرات .

التأمل السابع عشر:
الاقتصاد بالمعنى المادي يعتمد كثيراً على المال ، فيُقيَّم كلُ شيء بما يساويه من مال ، فمن كانت قيمته المالية أعلى كانت قيمته المعنوية – من وجهة نظرهم – أعلى ، حتى الوقت اهتموا به لأنهم يعادلونه بالمال فانتشرت مقولة ( الوقت يعني المال Time is money ) ويحترمون العلماء الذين يحققون لهم أرباحاً ، ويقدّرون العمال الذين يزيدون من إيراداتهم المالية ، وبهذه الطريقة يمكنهم بناء جيل بعقلية وثقافة اقتصادية .
أما الاقتصاد المعنوي فيستند الى تحقيق الخيرات والسباق بها لتحقيق خيرات أخرى ، هذه الخيرات والتي يُنال بها الجنة تتناقص مع ظلم الإنسان لنفسه ، والجنة لا تُدخَل إلا بإذن الله تعالى ، ودخولها فضل كبير منه جل وعلا ، لا باقتصادنا ولا بسباقنا للخيرات .

التأمل الثامن عشر:
الإنسان غير المقتصد يظلم نفسه سواء كان غير مقتصد من الناحية المعنوية أم من الناحية المادية ، لأن النتيجة أن السباق بالخيرات سيضعف وقد يتلاشى وربما سيكون السباق بالاتجاه المعاكس عندما يكون باستخدام أدوات شريرة .
ومع هذا فإن ظلم النفس عندما يكون الإنسان ( والمجتمع أيضاً ) غير مقتصد معنوياً أشد من ظلم النفس الذي يجعل الإنسان ( والمجتمع كذلك ) غير مقتصد مادياً ، خاصة إذا كان قاصراً غير مقصرٍ في تحقيق الاقتصاد المادي ، لأن الظلم الأول يجعل المصير الأخروي للإنسان في خطر ، أما الثاني فسيجعل الحياة الدنيا للإنسان خطر ، إلا أن يكون الاقتصاد المادي طريقاً لتحقيق الاقتصاد المعنوي .

التأمل التاسع عشر:
من الممكن أن يكون ورثة الكتاب ظالمين لأنفسهم ، ولكن ظلمهم لأنفسهم لا يعني بالضرورة أنه معصية لله عز وجل ، وإنما هو ظلم كترك الأولى أو ترك المستحب أو القيام بعمل وهناك عمل أكثر ثواباً منه ، وهكذا ، لذلك يكون ورثة الكتاب مقتصدين بدرجة تفوق تصورنا ، فلا يضيعون وقتاً في عَمَلِ عَمَلٍ مستحب وهناك عملٌ أثوب منه ، فضلاً عن تضييع الوقت بالملهيات حتى وإن كانت مباحة ، وبالتالي فيكون تضييع الوقت والجهد وربما المال على المعاصي أمر مُستبعَد لأن الكتاب الذي ورثوه يرفض ذلك .
هذا يعني أن سباقهم بالخيرات مختلف تماماً عن سباقنا ، فإذا كان الوقت والجهد والمال من الخيرات وأنهم لا يضيعونها إلا في ما يرضي الله تعالى فهذا يعني أن سباقهم باستثمار تلك العناصر أعلى بكثير من سباقنا ، أو على الأقل أن سباقهم يفوق سباقنا بمقدار تضييعنا للوقت والجهد والمال في المعاصي والملهيات .

التأمل العشرون:
إن لعباد الله الذين اصطفاهم لوراثة كتابه رافضين وداعمين ، فالرافضون هم الذين يقفون بوجه تطبيق كتاب الله الكريم في عباده وخلقه ، وكثير من الناس لا يرضون بما جاء في كتاب الله فيرفضونه ويرفضون من يريد تطبيق أحكامه في المجتمع وعلى رأسهم ورثة ذلك الكتاب . وهناك آخرون يتمنون تطبيق أحكام الله تعالى في أرضه ، وهذه الأحكام لا يعرفها إلا ورثة الكتاب فيدعمونه ، ويكونوا مقتصدين في كل ما يجعلهم تابعين لأولئك الورثة ، والخُلَّص لا يكتفون بذلك بل يسابقون بالخيرات حتى لو كانت تلك الخيرات نفوسهم الطيبة كما فعل شهداء كربلاء مع وارث الكتاب الحسين عليه السلام ، فأذِنَ لهم الله عز وجل ومنّ عليهم بفضله إنه ذو الفضل الكبير .

التأمل الحادي و العشرون:
قد يسأل سائل كيف يتوافق الاقتصاد المعنوي والاقتصاد المادي ؟ وبصياغة أخرى : كيف يمكن للمؤمن المقتصد معنوياً أن يكون مقتصداً مادياً من دون أن يظلم نفسه فيفسد اقتصاده المعنوي ؟
وللجواب نقول : إن المقدمات المشتركة بين الاقتصاد المعنوي والاقتصاد المادي عديدة منها ( الوقت ، المال ، الجهد ) ، فإذا استطاع المؤمن أن يجعل هذه العناصر من الخيرات ومن أدوات الخير واستثمرها بأي إستثمار إيجابي صحيح فسيكون من السابقين بالخيرات وبالتالي يكون مقتصداً معنوياً ، فإن كان استثماره في الجانب الاقتصادي (المادي) مع المحافظة على بقاء هذه العناصر أدوات للخير وأدوات للسباق الى الخير لا أدوات شر عندها سيوافق بين الاقتصادين ، وفي الحقيقة الموافقة بين هذين الاقتصادين فضل من الله كبير .

التامل الثاني و العشرون:
مما لا شك أن ورثة الكتاب الذين اصطفاهم الله من عباده يتلون هذا الكتاب تلاوة واعية يتدبرون من خلالها ما يكتنزه هذا الكتاب الكريم ليقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقهم الله جل وعلا سراً وعلانية ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ) ، وهذه الأعمال من أوضح مصاديق الخيرات التي يمكن أن يسابق بها المؤمن ليسير على نهج ورثة الكتاب ، ويرجو بها تجارة لن تبور ( يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ) حتى يكون مقتصداً غير ظالم لنفسه لا على المستوى المادي ولا المستوى المعنوي ، باعتبار التجارة من مقومات الاقتصاد ، فإن بارت فشل الاقتصاد والعكس بالعكس ، وهذا ينطبق على المجتمعات كما ينطبق على الأفراد .

التأمل الثالث و العشرون:
بيّن القرآن الكريم صوراً جميلة من صور الآخرة التي يطمح إليها المؤمنون ، منها ( إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْكٌ ) ، فمن أراد أن ينال تلك المراتب الجليلة وأن يكون أولئك الأبرار فعليه أن يكون مقتصداً في حياته الدنيا مستثمراً كل طاقاته لا يضيّع شيئاً فيظلم نفسه ويُحرَم جزءٌ من تلك الجوائز ، وربما يُحرَم منها كلها ، وبالتالي فإن فعل الخيرات لا يكفي لنيل تلك المراتب، بل لا بد أن يتسابق بالخيرات ويتنافسون مع المتنافسين ، فمن فاز منهم كان من عباد الله المصطَفَين الذين أورثهم الله تعالى الكتاب وكان من المقربين ، فكانت ثمرة الفوز ( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) ، وذلك هو الفضل الكبير .

التأمل الرابع و العشرون:
في العادة يُورث من يرحل عن هذه الدنيا شيئاً الى ذريّته ، ونحن على أعتاب رحيل أعظم مخلوق خُلِق وأرقى عبدٍ عُرِف ، ألا وهو النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وآله ، فماذا أورث الخاتم صلى الله عليه وآله لذريته ؟
من يعرف حقيقة الرسول محمد صلى الله عليه وآله فإنه يفكّر بأبعد مما نتصور ، فهو لا يفكّر بنفسه ولا بأهله ولا بذريته بقدر تفكيره بالرسالة الإلهية والكتاب الذي أورثه الله تعالى إياه ، لذا أورث لهذه الأمة كتاب الله ( الثقل الأكبر والأمانة العظمى ) وعترته ( الثقل الأصغر ) لكي تحفظ الكتاب من التلاعب ليس بألفاظه لأن ألفاظه محفوظة ولكن التلاعب بمعانيه وتفسيره ، فمن لم يلتزم بهذا الإرث ولم يبالِ بوَرَثَة نبيه صلى الله عليه وآله فقد ظلم نفسه ، وأما من التزم به فقد كان سابقاً بالخيرات بإذن الله ، فذلك الإرث من الفضل الكبير على هذه الأمة .

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M