تايوان بين ” تسويق الخوف ” و” إدارة التوتر “

د. أيمن سمير

 

فرضت الزيارات المستمرة التي يقوم بها أعضاء ونواب الكونجرس لجزيرة تايوان  حالة ” من عدم اليقين ” السياسي والعسكري في الخطوات التي يقدم عليها كل طرف وحلفائه تجاه الطرف الآخر، ففي الوقت الذي ينظر فيه وزير خارجية تايوان جوزيف وو الى المناورات الصينية باعتبارها  ” مقدمة ومحاكاة ” لغزو الجزيرة،  ترى الولايات المتحدة أن النتيجة الطبيعية للإجراءات الصينية في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي هو ” فرض إرادة بكين ”  على ” مضيق تايوان ” بالكامل بما يهدد من وجهة النظر الأمريكية حرية الملاحة في ” مضيق تايوان ” الذي تمر من خلاله وبحر الصين الجنوبي ومضيق ملقا  نحو ثلثي التجارة العالمية أي نحو 72 تريليون دولار ، لكن على الجانب الأخر تقول الصين انه ليس لديها أي خيار لمنع انفصال تايوان إلا القيام بإجراءات تهدف في النهاية للحفاظ على ” الصين الواحدة ” وعلى وحدة وسلامة كل الأراضي الصينية خاصة في ظل وجود نوايا انفصالية معروفة لدى أقاليم أخرى منها على سبيل المثال التبت وهونج كونج وشينجيانج ” تركستان الشرقية ”  ، فما هي الأهداف الأمريكية من تسليح تايوان بنحو 70 مليار دولار بأحدث أنواع الأسلحة ؟ وما هي الرسالة التي تريد واشنطن أن ترسلها لبكين من استئناف المناورات من جديد مع خصوم الصين سواء اليابان وكوريا الجنوبية في الشمال أو اندونيسيا وسنغافورة وفيتنام في الجنوب ؟ وما هي خيارات الصين لإخضاع تايوان دون غزو أو عملية عسكرية كبيرة تجنبها سيناريو العقوبات الغربية على روسيا بعد دخولها أوكرانيا ؟

أهداف أمريكية 

يسأل البعض ما هي الأهداف التي يمكن أن تحققها الولايات المتحدة من زيادة وتيرة الصراع والتنافس مع الصين حول تايوان، ولماذا الإصرار من أعضاء الكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ على تكثيف الزيارات إلى تايوان  ؟

نظرية ” الغائية ” تجيب على هذا السؤال ، فلا يمكن أن تقوم واشنطن بكل هذه الإجراءات دون أهداف قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى ، ويمكن رصد هذه الأهداف في مجموعة من المحاور ومنها:

أولاً : ” إدارة التوتر”

يبدو للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة تقوم بخطوات متعارضة ومتضاربة مع الصين ،لكن هذه السياسة ليست كذلك ، فالخطوات الأمريكية محسوبة تماماً و دقيقة جداً وينفذها المسئولون التنفيذيون بالتزام كامل، وتهدف هذه السياسة إلى ” ” استمرار التوتر”  قرب أبرز المنافذ البحرية للصين، وفي نفس الوقت تعمل هذه السياسة على ” إدارة التوتر ” بمعنى عدم الانزلاق من ” التوتر”  إلى ” الصراع المباشر”، لأنه طبقاً لأرقام عام 2019 قبل جائحة كورونا فإن الناتج القومي الصيني يصل لنحو 13.4 تريليون دولار ، بينما الناتج الأمريكي وصل وقتها لنحو 20.5 تريليون دولار ، ونظراً لإدراك واشنطن أن الحرب المباشرة مع الصين لن تكون في صالح الجميع يرى البيت الأبيض  أن نشر ” التوتر ” حول الصين يكفي جداً لتحقيق الأهداف الأمريكية بمنع الصين من الوصول إلي مكانة ” الدولة الأولى ” عالمياً من حيث الناتج القومي والقوة الاقتصادية التي هي أبرز عناصر ” القوة الشاملة ” في صراع الدول ، ولهذا تعتقد واشنطن أن ” التوتر ” حول تايوان يفيد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين حيث يرفع التوتر أسعار الشحن والتأمين على كل البضائع الصينية التي تمر في بحر الصين الشرقي وبحر اليابان وخليج تايوان وصولاً لمضيق ملقا ، وهو ما يؤدي إلى رفع أسعار البضائع والحاويات  الصينية، وهو الأمر الذي سوف يقود إلى نتيجتين في صالح الولايات المتحدة ، الأولى بحث المستهلكين عن بضائع من مناطق أكثر استقرارا ، أو التحول إلى البضائع الغربية التي سيصبح سعرها أقرب للبضائع الصينية التي زاد عليها ثمن الشحن والتأمين بفعل ” عامل التوتر ” ، وعملياً نجحت هذه السياسة الأمريكية في تراجع النمو الصناعي الصيني بداية من عام 2022 وفق الحكومة الصينية نفسها

ثانياً : تسويق الخوف

نجحت السياسة الأمريكية بامتياز في”  تسويق الخوف”  في أوربا من روسيا بعد الحرب الروسية الأوكرانية ، ونتيجة لتسويق وبيع الخوف انضمت فنلندا والسويد فيما تفكر دول أخر في الانضمام للناتو ، وتتحول ألمانيا تدريجياً نحو مزيد من التسلح  ،ولهذا تتسابق وسائل الإعلام الأمريكية في إبراز الخطوات الصينية خاصة المناورات البحرية أو تجاوز السفن والطائرات لخط الوسط المتفق عليها في مضيق تايوان ، وهو الخط الفاصل بين الصين وتايوان  ، كما تنفخ وسائل الإعلام الغربية في أي تصريح أو موقف صيني يحمل شبهة تهديد لتايوان ، والغرض واضح تماماً وهو دفع الدول الأسيوية للابتعاد عن الصين والارتماء تحت المظلة الأمنية والعسكرية الأمريكية والغربية ، ونتيجة لسياسة ” تسويق الخوف ” من الصين نجحت الولايات المتحدة في تحقيق سلسلة من الأهداف في منطقة الاندو باسيفيك ” المحيطين الهندي والهادئ ، ومنها :

1-عودة المناورات المشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية من جانب واليابان وكوريا الجنوبية بعد أن توقفت هذه المناورات في عهد الرئيس دونالد ترامب ، والهدف هذه المرة ليس كوريا الشمالية فقط بل الصين أيضاً ، فنمط المحاكاة في المناورات الأمريكية مع حلفائها الآسيويين تضمن لأول مرة التصدي ليس فقط لكوريا الشمالية بل لأي تحرك من الصين وروسيا في المحيط الهادئ، وترافق مع هذه التدريبات مناورات ضخمة جمعت الولايات المتحدة مع حلفاء أسيويين في جنوب شرق آسيا مثل سنغافورة وأندونيسيا

2-إصرار كوريا الجنوبية على شراء وتشغيل منظومة ” ثاد ” الأمريكية الأعلى سعراً بين كل المنظومات الدفاعية العالمية ، فعندما اعترضت الصين وروسيا على نشر هذه المنظومة التي تقول بكين وموسكو أنها تكشف وتتجسس على أجزاء من أراضيها لصالح الولايات المتحدة، رفضت كوريا الجنوبية الطلب الصيني، وقالت في بيان أن نشر نظام الدرع الصاروخي الأميركي الصنع (ثاد)، “غير قابلة للتفاوض” ، وهو ما يحد من الجهود التي تبذلها الصين لإلزام كوريا الجنوبية  بتجميد نشر بطاريات ” ثاد ” بل يعمل ” البيت الأزرق ” على تسريع العمل بالقاعدة الأميركية في مدينة سيونجو الجنوبية التي تستضيف ” نظام ثاد ” ، والأكثر من ذلك أن كوريا الجنوبية أبلغت الصين على لسان وزير خارجيتها بارك جين أن سيول لن تلتزم باتفاقية 2017، التي يطلق عليها اسم “اللاءات الثلاثة”،والتي كانت تهدف لتخفيف التوتر بين الصين وكوريا الشمالية ، ومنذ عام 2016 كانت الحكومة الكورية تتردد في نشر منظومتي ” ثاد ” و” باتريوت”  خوفاً من غضب الصين التي أعلنت عن تخفيض التجارة مع كوريا الجنوبية عندما أعلنت سيول عن شرائها منظومة ثاد قبل نحو 6 سنوات

3-الإنفاق العسكري غير المسبوق من جانب اليابان ، وهو ما يهدد ” بتلاشي نتائج الحرب العالمية الثانية” التي كانت سائدة منذ عام 1945 ، و التي كانت تعتمد اليابان وألمانيا على الحماية الأمريكية ، وتعمل اليابان الآن  على ميزانية قياسية تصل لنحو 74 مليار دولار عام 2023 ، وهو ما يفيد واشنطن في تخفيف ضغط الإنفاق الأمريكي على  نحو 50 ألف من الجنود الأمريكيين في اليابان ، كما أن سياسة  الحذر القائمة على الدفاع فقط بدأت تتراجع لدى جميع الأحزاب اليابانية بفعل ما تسميه الولايات المتحدة ” البيئة المتوترة عسكرياً ” في المنطقة ، كما تسعى اليابان إلى تغيير سياستها الخاصة بالأسلحة النووية حيث تدعو بعض الأطراف السياسية لاستضافة ” أسلحة نووية أمريكية ” رغم أن اليابان هي الدولة الوحيدة في العالم التي تعرضت لضربة نووية، ولهذا  اعتمدت ما يسمى ” المبادئ الثلاث ” التي تلزم طوكيو منذ عام 1945 بعدم تملك أن تصنيع أو نشر الاسلحة النووية  حيث تنص المبادئ الثلاث ” لا تصنع، ولا تمتلك، ولا تسمح بإدخال أي سلاح نووي إلى أراضيها، وكل ذلك بسبب نجاح سياسة ” التخويف ” من الصين

4-تسليح أستراليا بأحدث الأسلحة الأمريكية ومنها على سبيل المثال صفقة الغواصات النووية الشهيرة التي بلغتا قيمتها نحو 50 مليار دولار أمريكي ، وأحدثها بيع الولايات المتحدة مروحيات ” بلاك هوك ” هذا الأسبوع بنحو 2 مليار دولار لأستراليا

توتر دون حرب 

وفي سبيل الحفاظ على سياسة التوتر وعدم الانزلاق للحرب المباشرة تقوم واشنطن ببعض الخطوات التي تبدو إيجابية تجاه الصين ومنها :

1-تجميد واشنطن لبعض الرسوم الجمركية على جزء من السلع الصينية ، وهي الرسوم الإضافية التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب على نحو 250 مليار دولار من الواردات الصينية إلى الأسواق الأمريكية ، لكن واشنطن في حاجة شديدة لهذه الخطوة لأن غالبية هذه الواردات هامة للغاية للمصانع الأمريكية،  فهي مواد تدخل في الصناعات التي تعيد واشنطن تصديرها للعالم مرة أخرى

2-تكرار المسئولين الأمريكيين الالتزام بسياسة ” الصين واحدة ” ، بل والإعلان عن عدم اعتراضهم على توحيد تايوان مع الصين،  لكن بشرط أن يتم هذا بإجراءات سلمية وليس بالقوة المسلحة ، وهذا الأمر مستحيل في ظل البيئة السياسية السائدة الآن بين تايبيه وبيكين

3-  سعي المسئولين الأمريكيين للتواصل مع نظرائهم الصينيين وخاصة وزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين حتى لا يحدث ما يسمى ” الحرب بالخطأ ”

4-الإعلان السريع من جانب البيت الأبيض بأن الرئيس جو بايدن سوف يلتقي نظيره الصيني في نهاية ديسمبر القادم ، وهو ما يعني ضمنياً موافقة الولايات المتحدة على قرار الحزب الشيوعي الصيني المتوقع في أكتوبر القادم بمنح الرئيس شي جين بيجنج ” ولاية رئاسية ثالثة “، وهي مغازلة سياسية واضحة من جانب واشنطن لبكين

خيارات صينية 

لا تتحمل الصين ” رفاهية انفصال تايوان ” ولهذا سوف تعمل كل ما تستطيع من أجل الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي الصينية ، لكن تحليل المواقف الصينية يقول بوضوح أنها لا تفضل حتى الآن ” الخيار العسكري ” ، لكن المناورات المستمرة منذ زيارة نانسي بيلوسي لتايوان تحقق للصين مجموعة من الأهداف وفي مقدمتها :

1-إرسال رسائل لأي أقاليم صينية أخرى تفكر في الانفصال بأن هناك ثمن ضخم لهذا التفكير ، كما ترسل رسائل واضحة للدول التي تدعم انفصال أقاليم خاصة  غرب الصين بناء على رويات تاريخية ترفضها بكين بشكل حازم وقاطع ، وان هذا الأمر سوف تواجهه الصين بكل ما تملكه من قوة

2- تكرار المناورات يكرس السيطرة الصينية في الاتجاهات الأربع نحو جزيرة تايوان ، الأمر الذي يؤكد عملياً الرواية الصينية بأن مضيق تايوان مضيق صيني بامتياز ، ولا يحق للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والآسيويين ما يسمونه ” بالمرور الحر ” في المضيق

3-تعزز المناورات الصينية سيطرة بكين على بحري الصين الشرقي والجنوبي ، بل تستطيع الصين من خلال المحاكاة التي تقوم بها بربط مصالحها بشكل مباشر في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي عبر مضيق تايوان

4-أثبتت الصين من خلال هذه المناورات قدرتها الكاملة على منع وصول التعزيزات الأمريكية الى تايوان من جانب القوات الأمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية إلى بحر اليابان ومن ثم إلى تايوان ، وهو أمر ضروري في حال قررت الحكومة الصينية السيطرة المباشرة على تايوان

5- أثبتت المناورات الصينية أنها تستطيع أن تنفذ أكثر من سيناريو ” لإخضاع تايوان ” دون السيطرة الكاملة على الجزيرة الرئيسية وفق السيناريوهات التالية :

 أولاً : السيطرة على جزر تابعة لتايوان

 وهي جزر قريبة جداً من البر الصيني ولا تبعد عن الصين إلا نحو 10 كلم مثل جزيرتي كينمن وماتسو”، كما يمكنها أن تسيطر على الجزر البعيدة عن الجزيرة التايوانية الرئيسية في بحر الصين الجنوبي مثل جزر “براتاس وتايبينج”، بل تستطيع الصين أن تسيطر على أرخبيل بينجو” الذي لا يبعد عن الجزيرة الرئيسية إلا نحو 60 كلم  ، ومعروف أن كل هذه الجزر وأرخبيل بينجو  تعرضوا لقصف صيني مكثف في السنوات التي تلت انتقال الحكومة المنهزمة أمام الحزب الشيوعي  عام 1949 من البر الصيني إلى تايوان

 ثانياً : الإغلاق الجمركي

يستطيع الجيش الصيني من خلال القدرات التي أظهرها في المناورات الأخيرة أن يفرض “إغلاقاً جمركياً” ، بمعنى السيطرة الكاملة على الحدود الجوية والبحرية لتايوان ، ويمكن للصين أن تمنع على سبيل المثال أي طائرات أو سفن تشك أنها تحمل أسلحة أو خبراء عسكريين أجانب لدعم الحكومة التايوانية  ، ومن شأن هذه الخطوة أن تعزز موقف أبناء الجزيرة الداعي للوحدة مع الصين وتضعف دور الأحزاب الانفصالية

ثالثاً ” خيار الحصار الدائم

فمن يشاهد مناورات الذخيرة الحية في 6 محاور يتأكد له قدرة الصين على فرض ” حصار دائم ” على تايوان ، ومن شان هذا الخيار أن يضعف الاقتصاد التايواني ويمنع بشكل كامل وصول السلاح والذخيرة من الغرب لتايبية التي اعترفت في تقرير عن وزارة الدفاع التايوانية عام 2021 أن الجيش الصيني يستطيع فرض حصار كامل على الموانئ والمطارات والمسارات البحرية والبرية بشكل كامل

رابعاً : القصف من بعيد

تجنباً للعقوبات الغربية قد يكون السيناريو الرابع والأخير المتاح أمام بكين هو قصف المطارات والموانئ العسكرية  ومخازن الذخيرة من بعيد بالتوازي مع هجوم سيبراني كاسح  بما يقود إلى شل القدرات الدفاعية لتايوان ومنع وصول الإمدادات إليها ، لكن هذا السيناريو يظل الأقل ترجيحاً لأن من شان هذا الأمر أن يوقع عدد كبير من القتلى والضحايا وهو أمر تهتم الحكومة الصينية به بشكل كبير حيث تقول الصين دائما عن سكان تايوان الـ23 مليون نسمة أنهم أخوة للشعب الصيني

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20714/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M