تجدد التوترات: قضية الهجرة وأثرها على العلاقات التونسية-الأوروبية

عبد المنعم على

 

شكّل رفض وزارة الشئون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج استقبال وفد من الاتحاد الأوروبي في الثامن عشر من سبتمبر 2023 لتقييم الوضع السياسي التونسي، نقطة حرجة في العلاقة بين الجانبين، خاصةً بعدما خيّم التوتر على العلاقات بين الجانبين على إثر تجدد أزمة المهاجرين غير النظاميين من تونس وليبيا باتجاه السواحل الجنوبية لأوروبا، وذلك بالرغم من الاتفاق المبرم في يوليو 2023 بين الجانبين لإرساء شراكة استراتيجية وشاملة في العديد من الملفات التنموية ومكافحة الهجرة غير النظامية. وتدشن تلك الأزمة مرحلة دقيقة في تاريخ العلاقات التونسية الأوروبية تتراجع فيها حسابات منهج المنافع المتبادلة بين الجانبين، بالرغم من المصالح الحيوية الجامعة بينهما.

أسباب التوتر الجذرية

جاءت أزمة وصول ما يزيد على 5000 مهاجر إلى مدينة “لامبيدوزا” الإيطالية منتصف سبتمبر 2023، كإشارات سلبية من تونس؛ على خلفية تزايد الانتقادات الموجهة للنظام التونسي وعدم الوفاء بالتعهدات المتضمنة في الاتفاق الشامل الخاص بالتعاون في ملف مكافحة الهجرة غير الشرعية، التي قابلت الالتزام الأوروبي بتوفير الدعم المادي لتونس، وقد ظهرت هذه التوترات لتضاف إلى سياق عام يخيم عليه التوتر والاضطراب في التفاعلات المتبادلة بين الجانبين بسبب:

  • تقلّص مساحة التعاون والتأثير: ظهر تراجع لافت لهامش التأثير الأوروبي في دائرة شمال أفريقيا بصورة كبيرة منذ العامين الماضيين، في ضوء تبني سياسات الاستقطاب والمحاور التي باتت تُشكل في هذه الدائرة من جانب الدول الأوروبية؛ ما بين انحياز إيطاليا للجزائر خاصةً في ملف الطاقة وعقود الغاز الموقعة مؤخرًا بين الجانبين مقابل تصدع فرنسي إسباني في علاقاتها مع الجزائر، إضافةً إلى تراجع هامش التعاون المغربي الفرنسي. وتجلت معالم هذه التغيرات مؤخرًا في أزمة الزلزال الذي ضرب المغرب، بعد رفض الرباط تلقي المساعدات المقدمة من باريس. على زاوية أخرى افتقد الاتحاد الأوروبي مجالات التأثير في المشهد الليبي وكذلك السوداني عقب التطورات الأخيرة، وهو ما يفرض بطبيعة الحال حتمية احتواء أي مسارات تصعيد مع تونس لكونها الحلقة الباقية في معادلة مصالح الدول الأوروبية في هذا النطاق المهم من الناحية الجيوستراتيجية.
  • الانقسام الأوروبي حيال قضية الهجرة: لا تزال قضايا الهجرة تشكل ملفًا مثيرًا للانقسامات الأوروبية البينية. حيث تزايدت الفجوة بين فريقين يرى أحدهما أهمية انتهاج سياسات أكثر صرامة لوقف الهجرة غير الشرعية، بل والدعوة إلى شن حرب عالمية ضد ذلك الملف، ويمثل هذا المسار كلًا من إيطاليا وهولندا؛ حيث دعت رئيسة الوزراء الإيطالية خلال كلمتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة في الحادي والعشرين من سبتمبر 2023 إلى شن حرب عالمية على الهجرة غير الشرعية، في حين يرى الفريق الآخر أهمية احترام الاعتبارات الإنسانية في ذلك الملف. وهذا التصدع كان له تأثيره في الالتزام الأوروبي بالبنود المنصوص عليها في الاتفاق الموقّع في يوليو 2023، خاصةً فيما يتعلق بالمنح والدعم المالي اللازم توفيره لتونس للتصدي لذلك الملف.
  • تأزم الوضع الاقتصادي التونسي: تشهد تونس حالة تأزم غير مسبوقة على المستوى الاقتصادي فيما يتعلق بالسياسات النقدية والمالية، إلى جانب النقص الحاد في المواد والسلع الأساسية مع تزايد معدلات التضخم وأزمة الدين الخارجي، وكذا أزمة السيولة لدى المؤسسات العامة وما تبعها من تراجع مستويات التنصيف الائتماني والاقتصادي لها من قِبل مؤسسات التصنيف الدولية، أدت لافتقاد الثقة على مستوى الاستثمارات الأجنبية وكذلك ثقة البنوك الخارجية. وفي ظل ضبابية المشهد في تونس عقب تعثر مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، حمل الاتفاق الذي تم في السابع عشر من يوليو 2023 الخاص بملف الهجرة غير النظامية إلى سواحل إيطاليا أهمية اقتصادية كبرى، كونه قد تضمن قيام الاتحاد الأوروبي بمنح تونس مساعدة مالية طويل الأمد بقيمة 990 مليون دولار، وكذلك مساعدة بقيمة 240 مليون دولار تُصرف بشكل فوري للميزانية التونسية، وكذلك نحو 195 مليون دولار لإدارة الهجرة عن العام الجاري؛ إلا أن العديد من المؤشرات كشفت عن تراجع التزام الجانبين بالتنفيذ الدقيق لهذا الاتفاق مما أثر على مستويات الثقة بينهما.

آثار سلبية ممتدة

ظهرت التوترات المتعددة على العلاقات التونسية-الأوروبية نتيجة للتوظيف المتبادل لأوراق الضغط ما بين ورقة المهاجرين غير الشرعيين التي توظّفها تونس في التصدي للتحركات الأوروبية المتجاوزة للأعراف الدبلوماسية الرامية للتدخل في السيادة الوطنية التونسية عبر مراقبة وتقييم الوضع السياسي ومساعيها للانخراط في الحوار الوطني بعد الانتخابات الأخيرة في تونس.

وتأتي هذه الأزمة لتطرح تحديات مختلفة وذلك على مستويين؛ فعلى مستوى تونس فإن سياسة التلويح بورقة الهجرة غير الشرعية سوف يقابلها ضغط أوروبي متصاعد، سيركز على استخدام أداة تقييد الدعم الموجه لتونس في مسار تفاوضها مع صندوق النقد الدولي؛ إذ إن “جورجيا ميلوني” رئيسة الوزراء الإيطالية قد دعت صندوق النقد الدولي في غير مرة إلى تبني نهج مرن وعملي لدعم تونس بالقروض اللازمة دون أن تكون هناك شروط مسبقة، وفي ظل وضعية الاتحاد الأوروبي داخل المؤسسات المالية المانحة خاصةً صندوق النقد الدولي إلى جانب (البنك الأوروبي للاستثمار، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية) أهم ممولي تونس، فإنه من المرجح أن يتم توظيف هذا الملف كأداة لممارسة المزيد من الضغوط على الحكومة التونسية من أجل لعب دور أكثر نشاطًا في تقييد تيارات الهجرة عبر البحر المتوسط.

وفي المقابل، وفي ضوء الضغط الاقتصادي الأوروبي، قد تتجه تونس للمزيد من التشدد، من خلال الحد من التزامها بما اتفق عليه مع الاتحاد الأوروبي بشأن ملف الهجرة، مما قد يسفر بصورة سريعة عن تزايد في موجات الهجرة غير الشرعية. ويحمل هذا التشدد التونسي المحتمل تداعيات هامة على المستوى الأوروبي، عبر مفاقمة أزمة الثقة بين المجتمعات الأوروبية وحكوماتها، وبصورة خاصة إيطاليا التي وعدت رئيسة وزرائها بتقليص الهجرة غير الشرعية ومكافحتها خلال حملتها الانتخابية في أكتوبر الماضي، ولكنها عجزت عن تحقيق هذا الهدف حتى وقتنا هذا، بما يؤثر على مصداقيتها داخل الأوساط السياسية الإيطالية، ويجعلها عرضة للانتقادات المختلفة. وعلى المستوى الأوروبي، سوف يكون هذا الملف هو المحدد الرئيسي لنتائج انتخابات البرلمان الأوروبي المنتظر عقدها عام 2024.

وإجمالًا، فإنّ مسارات التفاعل التونسي الأوروبي باتت تشهد تصعيدًا مزدوجًا، سواء عبر الضغط الأوروبي على المشهد السياسي التونسي بإصدار التقارير الخاصة بمسار التحول الديمقراطي التونسي والتلويح بورقة حقوق الإنسان، في حين تصعّد تونس تجاه أوروبا بورقة المهاجرين غير الشرعيين، وهو ما يحمل في طياته أزمة مستترة سوف تتفاقم حدتها في حال استمرارية موجات تدفقات الهجرة غير الشرعية، وكذا عدم التزام أوروبا بتنفيذ بنود اتفاقها الشامل مع تونس.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/37787/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M