كيف يؤدي عدم حل القضية الفلسطينية إلى تنامي الظاهرة الإرهابية؟

صلاح وهبة

 

دائمًا ما تشكل القضية الفلسطينية أحد المرتكزات الفكرية الأساسية للجماعات الإرهابية، وذلك نظرًا لما تمثله من صراع وجودي قائم منذ عام 1948 وحتى اللحظة الراهنة يحتل مكانة رمزية متقدمة لدى المواطن العربي بسبب احتلال الأراضي الفلسطينية ومحاولات نزع الهوية عن المقدسات ومشاريع التهويد، فضلًا عن مشاعر الغضب بسبب الممارسات الإسرائيلية الوحشية عبر سنوات طويلة تجاه الفلسطينيين، وهو ما استغلته الجماعات الإرهابية بشكل مباشر سواء لتبرير أفعالها أو تجنيد من المزيد من المقاتلين لديها.

تعد القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لكل الشعوب العربية والإسلامية، انطلاقًا من تعلق المسلمين بالمسجد الأقصى المبارك ونضال الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من قمع من الجانب الإسرائيلي، مما جعلها دومًا محل اهتمام وتضامن ودعم. وانطلاقًا من ذلك، ركزت التنظيمات الإرهابية المختلفة على إدراج القضية الفلسطينية ضمن خطابها الدعائي العام لتحقيق أهدافها المتعلقة بالتجنيد والحشد والدعم المادي. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى نسب الجماعات الإرهابية اسمها ليعبر عن دفاعها عن القضية “مثال جماعة أنصار بيت المقدس”، على الرغم من أن هذه الجماعات لم تقدم شيئًا لخدمة القضية ولم توجه سلاحها إلى الجانب الإسرائيلي على الإطلاق، بل على العكس كانت تنفذ إرهابها في مناطق نشاطها الجغرافي وأسفرت عن سقوط المئات من الأبرياء.

وتستخدم الجماعات الإرهابية القضية الفلسطينية في تجنيد الشباب للعمل تحت لوائها، عبر ترويج أفكارها واستراتيجيتها في التعامل مع القضية كمدخل رئيس لإثارة عاطفة الشباب واستغلالهم تحت شعار تحرير الأرض المحتلة ونصرة المستضعفين، ومن ثم استقطابهم لاحقًا لساحات القتال في عدد من المناطق الجغرافية التي تكون بعيدة كل البعد عن القضية الفلسطينية أو استهداف الاحتلال الإسرائيلي.

يضاف إلى ذلك تحويل القضية من قضية وطنية إلى قضية صراع ذات طابع ديني، وإقناع المقاتلين أن المستهدفين سواء عدو قريب أو بعيد أو كانوا مسلمين أو غيرهم فهم جميعًا يشنون حربًا على الإسلام والمسلمين ويساعدون الاحتلال الإسرائيلي في جرائمه بأشكال مختلفة، فيتعمق لدى المجندين مفهوم العدو ويتسع من إسرائيل إلى سائر الدول التي تريد الجماعات وفقًا لنطاق عملها استهدافها، وتتجاهل مع الوقت القضية الفلسطينية لتصبح مجرد شعارات، ويكون الهدف النهائي هو تحويل القضية الفلسطينية من قضية وطنية إلى قضية صراع ذات طابع ديني قائمة على استهداف الدول والأنظمة السياسية وتهديد استقرارها.

وكانت جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مارس عام 1928 في مقدمة الجماعات التي استغلت القضية؛ وذلك لنشر أفكارها إلى خارج مصر على المستوى الإقليمي لتجنيد وضم المزيد من العناصر لها، انطلاقًا من محورية فلسطين لأي مواطن عربي، وعلى الرغم من تناول الجماعة للقضية الفلسطينية من خلال تحركات خارجية وداخلية لها وإفراد مساحات واسعة من إصداراتها الصحفية للحديث عنها. إلا أن ذلك التناول تراجع بشكل نسبي في ضوء الضربات العنيفة المتوالية التي تلقتها منذ اغتيال مؤسسها حسن البنا وحتى خمسينيات القرن الماضي إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

وذلك حتى ظهرت للعلن كتب وأفكار القيادي الإخواني “سيد قطب” التي كانت بمثابة الإلهام وأحد أهم روافد الفكر “الجهادي” لاحقًا وتم البناء عليها في التنظيمات الحديثة؛ إذ عمد “قطب” إلى تركيز القضية على أنها صراع ديني بين المسلمين واليهود، وعلى سبيل المثال، قال في كتابه “معركتنا مع اليهود” (ص 34): “لقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدًا، وأعرض مجالًا، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون –على ضراوتها– قديمًا وحديثًا، إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عامًا في جملتها، وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول، أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية”.

ولم تقتصر كتابات وأفكار سيد قطب على تأطير القضية الفلسطينية ضمن الصراع بين الإسلام واليهود، وإنما شملت كذلك تكفير المجتمعات المسلمة والأنظمة الحاكمة وجواز الخروج عليها، حيث قال في صفحة 17 من كتابه “معالم في الطريق” الذي أثر تأثيرًا كبيرًا في جماعات العنف: “نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم.. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًا، هو كذلك من صنع الجاهلية”.

وكذلك قال في نفس الكتاب في الصفحة رقم 158: “المسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام، وهذا ما ينبغي أن يكون واضحًا أن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون وهم يحيون حياة الجاهلية، وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو الآخرين، فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك، ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئًا، ليس هذا إسلامًا وليس هؤلاء مسلمين”.

وتم البناء على أفكار سيد قطب للمراحل التالية من الفكر “الجهادي”، إذ بنى “محمد عبد السلام فرج” كتابه “الفريضة الغائبة” الذي مثل الإطار الفكري الأساسي لتنظيم الجهاد في مصر بعد أن اعتمد منذ نشأته عام 1966 على التناقل الشفهي بين أعضاء التنظيم وبعض كتب تفسير وفقه القرآن، ولكن جاء الكتاب الذي ألفه “فرج” بمثابة التأصيل الفكري والأيديولوجي والعقائدي لاستراتيجية التنظيم وخاصة الجزء الخاص بإقامة الدولة الإسلامية وتكفير الحاكم.

وانطلاقًا من هذه الأفكار، ظهرت نظريتا “العدو القريب” و”العدو البعيد”. تقوم النظرية الأولى على قتال الأنظمة السياسية واستهدافها بمختلف الطرق؛ نظرًا لأنها تعيق عمل هذه التنظيمات المتطرفة، وأن قتالهم أولى من قتال إسرائيل لأن تلك الأنظمة هي السبب في وجود الاستعمار في بلاد المسلمين على حد تعبيرهم، وأن القضاء على الاستعمار يتطلب في البداية القضاء على أعوانه في الدولة محل النشاط، وهذا لن يتحقق إلا بقيام الدولة الإسلامية واستبدال الأنظمة السياسية الموجودة لتحل محلها أنظمة سياسية إسلامية، وأن الجهاد ليس تحرير الأرض المحتلة أو القدس وإنما يتمثل في اقتلاع الأنظمة السياسية كنقطة أولى.

فيما تشير نظرية “العدو البعيد” إلى مواجهة العدو البعيد المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وحلفائهما والحكام الموالين من حكام الشعوب العربية، وأن الاقتصار على العدو القريب في هذه المرحلة لن يجدي، لأنه لا يمكن تأجيل الصراع مع العدو الخارجي انطلاقًا من أنه لن يمنح الفرصة للتنظيمات العاملة في الجهاد الفرصة لهزيمة العدو القريب. وهو ما أكده أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة في كتابه “فرسان تحت راية النبي”.

فيما مثل كتاب “إدارة التوحش” الذي ألفه أبو بكر ناجي نقلة كبيرة في هذا الإطار؛ نظرًا لأنه يسعى إلى الدمج بين النظريتين والعمل على قتال العدو القريب والانتقال إلى قتال العدو البعيد وصولًا إلى إقامة الدولة الإسلامية واستعراض الدروس المستفادة والأخطاء التي وقع فيها الجهاديون الأوائل لتلافيها في المراحل اللاحقة.

وبالنظر إلى وجود القضية الفلسطينية في صدارة البيانات التي تصدرها المنظمات الإرهابية، كأحد المسببات التي تسوقها هذه المنظمات لتبرير نشاطها الدموي، على الرغم من أنها وسيلة بلا غاية هدفها تحقيق أهداف التنظيم على الأرض واستعطاف الجماهير المتابعة لتجنيد أعداد إضافية من المقاتلين والحصول على المزيد من التمويلات؛ نجد أن زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن قد صرح بعد أيام من هجمات 11 سبتمبر والتي شكلت نقطة تحول نوعية في مسار هذه العمليات وما تبعها من تداعيات “أما أمريكا فأقول لها ولشعبها كلمات معدودة اقسم بالله العظيم الذي رفع السماء بلا عمد لن تحلم أمريكا ولا من يعيش في أمريكا بالأمن قبل أن نعيشه واقعًا في فلسطين وقبل أن تخرج جميع الجيوش الكافرة من ارض محمد والله أكبر والعزة للإسلام”.

فيما أصدر تنظيم داعش الإرهابي عددًا من الإصدارات المرئية بشأن القضية الفلسطينية حملت عناوين “أرهبوا أهل اليهود يا أهل بيت المقدس وأعيدوا الرعب إلى اليهود” وغيرها. وعقب قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، دعا تنظيم القاعدة المسلمين إلى التحرك إلى القدس، وهو ما جاء في نفس سياق التقرير الذي نشره تنظيم داعش في العدد رقم 109 من جريدة النبأ حول هذا الأمر، وهو ما جاء كذلك في سياق بيان حركة حسم الإرهابية التي دعت إلى إحياء انتفاضة.مجمل القول، باستعراض ما سبق يتأكد أن الجماعات الإرهابية المختلفة التي تضمن القضية الفلسطينية في محتواها الفكري أو الأيديولوجي أو الإعلامي، أنها تستغل القضية من منطلق أنها تشكل حجر الزاوية لدى العرب بوصفها قضية مركزية تحظى بتعاطف وتأييد كبير منذ نشأتها وحتى اللحظة؛ من أجل تحقيق مكاسب وقتية وتبني خطاب دعائي لتحقيق مصالحها. ذلك على الرغم من أن أنشطة تلك الجماعات أضرت بصورة القضية الفلسطينية والعرب والمسلمين بشكل عام، وأسهمت في تشكيل حالات من عدم الاستقرار الأمني في عدد من دول المنطقة وتدميرها عبر السنوات الماضية. وكذلك يؤكد ما سبق استعراضه أن بقاء القضية الفلسطينية دون حل عادل يوفر مناخًا نموذجيًا لتلك المنظمات في تكرار حالات عدم الاستقرار والعمليات الإرهابية التي قد تطال أي دولة في العالم.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/79718/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M