تداعيات خطيرة: مستقبل السودان في ظل تطورات الصراع في النيل الأزرق 

صلاح خليل

 

تجدد الصراع القبلي في الجزء الشمالي من ولاية النيل الأزرق مرة أخرى، في أكتوبر 2022، بين كل من الهوسا من جهة، وبيرتا والهمج والأنقسنا من جهة أخرى، وأصبح التوتر يسود المنطقة المتاخمة للحدود الإثيوبية، مع اتساع رقعة عمليات القتل والحرق لمناطق السكانية والتجارية والزراعية، وهو العنف الذي تمدد ليشمل العديد من المناطق، كالروصيريص، ود الماحي، وقيسان، الدمازين، كما جاءت تلك الاشتباكات بعد سلسلة من أعمال عنف قبلي، منذ يوليو 2022، بين قبيلة “الهوسا” وجماعات قبلية أخرى، بسبب خلافات على أحقية قيام إدارة أهلية في المنطقة التي تضم أكثر من ثمانية مجموعات قبلية أخرى.

من جانبها، أعلنت المؤسسة العسكرية إعلان ولاية النيل الأزرق في حالة الطوارئ، وفرضت قيودًا على حركة التنقل بين مدنية الدمازين وود الماحي، وانتشارًا كثيفًا لأجهزة الدولة الرسمية في المنطقة لنزع فتيل الوضع الذي لا يزال متوترًا ولا يمكن التنبؤ به مع احتمال وقوع هجمات انتقامية في أي وقت. كما شكلت لجنة تقصي حقائق للنظر في الاشتباكات، في ظل الانتشار العسكري في المناطق التي تشهد اقتتالًا قبليًا، كما أعطت القوات المسلحة أوامرها لقوات الأمن بصلاحيات كاملة لوقف الاقتتال العرقي وفرض سيادة وهيبة الدولة في الولاية المضطربة. كما تم تعيين اللواء الركن ربيع عبد الله آدم في منصب قائد منطقة النيل الأزرق العسكرية، ضمن محاولات لاستعادة زمام الأمن في الإقليم من أجل تحقيق الاستقرار والسلام، وفرض هيبة الدولة وتعزيز سيادة حكم القانون بولاية النيل الأزرق.

وحاليًا تسود ولاية النيل الأزق حالة هدوء حذر، بعد وصول تعزيزات عسكرية وأمنية بغرض فرض الأمن ونزع فتيل التوتر القبلي منذ يوليو 2022، لكن ما تزال آثار العنف تستحوذ على المشهد كما أن تداعياته تنذر بمخاطر عديدة.

ويحاول هذا التقرير أن يلقي الضوء على جذور الصراع وتداعياته على السودان.

الجذور وعوامل اندلاع الصراع 

يتعرض السودان بشدة لتداعيات غير المناخ، كواحد من دول العالم والبلدان الأقل نموًا والأكثر تعرضًا للطقس غير المستقر، والفيضانات المتكررة، وارتفاع درجات الحرارة وتقلب هطول الأمطار والجفاف، والممارسات الزراعية غير المستدامة، وندرة الموارد الطبيعية، وهو ما كان أحد أهم الأسباب وراء الصراعات في النيل الأزرق.

فقد ساهم انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي في السودان بعد انفصال الجنوب عام 2011، في ضعف الأداء الاقتصادي للدولة، حيث استمر عدم الاستقرار السياسي، بجانب متلازمات جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية العالمية، مما زاد من اتساع رقعة والعنف القبلي وزيادة الفقر وانعدام الأمن الغذائي. وقد تسببت الفيضانات في غمر مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية بالماء، وسجلت ولاية النيل الأزرق أعلى معدل فيضانات في المائة سنة الأخيرة.

وعلاوة على ذلك، يتأثر السودان بالعنف الطائفي المعبأ على أسس عرقية أو الهوية في المجتمع في النيل الأزرق. كما ارتبطت النزاعات في السودان في ولاية النيل الأزرق بالصراعات الاقتصادية والسياسية، فضلًا عن التهميش الناتج عن أنماط التنمية غير المتكافئة في المنطقة. يضاف إلى ذلك عقود من التدخل السياسي القبلي المرتبط بالنزاعات المحلية المرتبطة (بالأراضي والموارد الطبيعية)، فضلًا عن الأزمات السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد، والتي أسهمت في إشعال فتيل التوتر الراهن في بعض المناطق بالنيل الأزرق.

وعلى جانب آخر، تسببت نظم إدارة الموارد وحوكمة الدولة السودانية، سواء إدارة الموارد الطبيعية وزيادة التهميش بالمجتمعات الريفية، في تفاقم حدة الصراع القبلي، ولا سيما فيما يخص إدارة الموارد الطبيعية، ومعالجة القضايا ذات الصلة لحيازة الأراضي، وأنظمة ملكية الأراضي، والتي لها تأثير على الموارد الطبيعية في إدارة ومنع النزاعات القبيلة، وعدم الاعتماد على الحلول دون التشريعات المختصة.

كما يشكل الصراع السياسي بين النخب السياسية بيئة مهمة للدور السياسي للقبيلة، في ظل تنامٍ ملحوظ لخطاب الكراهية القبلية. بالإضافة إلى عدم نزع سلاح المنتشر لدى الكثير من القبائل. وقد أدى الانشقاق الذي حدث داخل الحركة الشعبية قطاع الشمال عام 2017، بين كل من عبد العزيز الحلو ومالك عقار والصراع على السلطة للسيطرة على منطقة النيل الأزرق، إلى تأجيج النزاعات بين قبيلة الهوسا والهمج، وثم تم توظيف هذا الصراعات مرات عديدة لخدمة الأجندات السياسية.

تداعيات الصراع

أدى اتساع رقعة الصراع في النيل الأزرق، إلى تطور كمي ونوعي في مؤشرات العنف مما أصاب الحياة العامة في المنطقة بشلل تام، مصحوبة بتفلتات مسلحة خاصة في المناطق الشمالية من مدينة الدمازين، ود الماحي، وأسفرت اشتباكات الأخيرة بين بين الهوسا والهمج إلى مقتل 233، وأكثر 217 جريحا ونزوح أكثر 50 ألف شخص من منازلهم. واندلع الصراع في الإقليم الذي شهد في السابق حربًا لا تزال آثارها ماثلة، بسبب خلافات حول مساعي الهوسا لتكوين نظارة أهلية مستقلة، وهو أمر ترفضه مكونات الأنقسنا والبرتا والهمج بدعوى أنهم أصحاب الأرض التاريخيين.

على صعيد متصل، يُعيد الصراع المندلع في منطقة النيل الأزرق الصراعات القبلية والإثنية إلى الواجهة في السودان، وهو ما يعكس أزمة الدولة الوطنية وفشل مشروع بناء الدولة على أسس حداثية تعلي من الوطن على الانتماءات الأولية، وهو واحد من عوامل عدم الاستقرار التي تهدد الدولي وتماسكها في السودان، لا سيما في ظل الازمة السياسة الراهنة والفشل في بناء نظام سياسي يخرج السودان من المرحلة الانتقالية التي طال أمدها، والصراع بين القوى المتنافسة التي تتنازع السودان.

ويؤثر الصراع اقتصاديًا سواء في مناطق الصراع أو في السودان ككل، وذلك في ظل ازمة اقتصادية غير مسبوقة تمر بها البلاد، ولا سيما في ظل غياب الحكومة المركزية، وغياب الخطط الحكومة من أجل مواجهة التحديات، فالبلاد على الرغم من رفع العقوبات وعلى الرغم من إخراجها من قوائم الإرهاب، لكنها بحاجة إلى الاستقرار من أجل جذب الاستثمارات والمشروعات التي تسمح بتغييرات مهمة في حياة الناس، وتنقل السودان من الاقتصاد العشوائي الراهن.

ويخشى أن الجماعات المسلحة غير الراضية عن تطورات المشهد السوداني، وعن مكانتها في العملية الانتقالية ودورها بموجب اتفاق السلام في جوبا، أن تستغل الأحداث من أجل الانقلاب على التفاهمات التي تم الاتفاق عليها، بما يعيد ترتيب المشهد من جديد لصالحها، وهو أمر قد ينذر بعودة الصراع إلى الواجهة بل وتمدده.

إن الصراع قد لا يتوقف على حدود الإقليم ولا حتى حدود السودان بالنظر إلى تمدده إلى المناطق المجاورة مما ينذر بحرب قبلية واسعة النطاق في السودان، وربما حرب تمتد إلى الدول المجاورة في ظل التمددات القبلية العابرة للحدود، فضلًا عن توظيف بعض دول المنطقة لهذه الصراعات من أجل الخروج من أزماتها الداخلية ومواجهة الأزمات السياسية في الداخل، ناهيك عن تصفية الحسابات بين الدول، واستغلال هذه الصراعات من اجل امتلاك أوراق ضغط والتأثير على القضايا المشتركة فيما بينها.

وبخلاف كل ذلك فإن الأزمة قد تتسبب في أزمة غذاء وأزمة إنسانية كبيرة، في وقت تعاني فيه العديد من دول القارة من أزمات مماثلة، وثقف المنظمات القارية والدولية عاجزة أمام حالة البؤس الذي خلفه الجفاف الذي يضرب العديد من دول الجوار.

وفي الأخير، يمكن القول إن الأزمة لها أسباب عديدة، وإن تداعياتها كارثية على السودان، وإن الحكومة تحاول أن تستوعب الصراع، وأن تفرض الأمن، لكن في الحقيقة يظل غياب الدولة والتفكك الذي يهدد السودان في ظل الصراع الذي تشهده البلاد بين المكونات السياسية هو أكبر خطر ليس على تجدد الصراع في النيل الأزرق، ولكن تجدده على مستوى واسع بما يقود البلاد نحو الهاوية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/31808/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M