تفاعلات حذرة: العلاقات الجزائرية الفرنسية في عهد الرئيس تبون

عبد المنعم على

 

شهدت العلاقات الجزائرية الفرنسية تواترت متباينة منذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون في ديسمبر 2019، في ضوء المورث التاريخي والاستعماري بين الجانبين ومبادئ السيادة من ناحية، والاعتبارات الأمنية والتوازنات الاستراتيجية من ناحية أخرى، وبالرغم من تبني الرئيس “تبون” لسياسة أكثر انفتاحًا وتفاعلًا على صعيد دوائر الاهتمام الخارجي لها وبشكل خاصة مع الدائرة الأوروبية، إلا أن التقاطعات المختلفة تحول دون تصفير المشاكل كنهج يتطلع لتحقيقه الرئيس “تبون”.

وما بين التصعيد والتهدئة على مدار الثلاث سنوات الماضية؛ جاءت عملية إجلاء الناشطة “أميرة بوراوي” المحكوم عليها بتهمة إهانة النظام السياسي الجزائري وتوزيع منشورات تمس الأمن العام وكذلك الآراء الدينية، لتمثل نقطة تصدع أخرى تؤثر على وضعية الاستقرار النسبي في العلاقات بين البلدين التي برزت في ضوء زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في أغسطس 2022.

محطات التصعيد وتكتيكات التعامل

بالرغم من تبني النظام الجزائري الجديد عقب انتخاب الرئيس “عبد المجيد تبون” رئيسًا للجزائر، نهجًا أكثر انفتاحًا على العالم وفاعلية في القضايا الإقليمية بدوائرها الأفريقية والعربية والشرق أوسطية وكذلك الدولية بمستوياتها الشرقية والغربية، وتطلع النظام لتصفير المشاكل التقليدية، إلا أن تلك السياسة الخارجية اصطدمت بواقع تصارع وخلاف مع فرنسا في ضوء الآتي:

  • رفض الجزائر فكرة الهيمنة والحرص على انتهاج سياسة الندية: لقد تميزت إدارة بوتفليقة بالتقارب مع فرنسا وظلت في هذا الطور طوال فترة حكم بوتفليقة، إلا أن تلك العلاقات شابها الكثير من الجمود في أعقاب الحراك الشعبي وإقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ولكن منذ تولي الرئيس “تبون” للسلطة بدا واضحًا أن هناك توجهًا للخروج من مظلة التبعية الفرنسية وكسر الجمود التقليدي في التفاعل الغربي، والعمل على توازن التفاعلات مع الدول الأوروبية، والرغبة في إيجاد قنوات تواصل وحوار بين الشركاء الأوروبيين حول القضايا المحلية الإقليمية تتسم بالتوازن، وهو الأمر الذي يعد واحدًا من بين معضلات التنافر الجزائري الفرنسي وتزايدت حدتها في التصريحات المتباينة للرئيس “تبون” بشأن رفض خضوعها للحماية أو الجناح الفرنسي، سواء أكان على المستوى السياسي أو الأمني، واقتصار التفاعلات على التعاملات التجارية، ولعل هذا الأمر برز بشكل كبير إبان الأزمة الدبلوماسية التي شهدتها الدولتين في أكتوبر 2021 في ضوء تصريحات “ماكرون” المتعلقة بالذاكرة الاستعمارية واتهام الجزائر بتكريس “ريع للذاكرة”، الأمر الذي أدى إلى استدعاء السفير لدى فرنسا احتجاجًا على تلك التصريحات بل صعدت الجزائر من تفاعلها مع الأزمة بإعلانها حظر تحليق الطائرات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل وفي الأجواء الجزائرية.
  • غموض الموقف الفرنسي في قضية الصحراء الغربية: بالرغم من عدم انتهاج فرنسا مسارًا موازيًا للتحرك الأمريكي والإسباني حيال قضية الصحراء الغربية والقائم على دعم المبادرة المغربية بالحكم الذاتي لتلك المنطقة تحت السيادة المغربية، إلا أنها تكرس نهج التسويف حيال هذا الملف، عبر دعم الموقف المغربي حول الصحراء في مجلس الأمن إلى جانب توطيد شراكاتها الاستراتيجية مع المغرب، وهو الأمر يفهم منه رغبة باريس في الاحتفاظ بالأمور كما هي وخلق توازن بين مصالح كل من المغرب والجزائر مع فرنسا، ولعل هذا الموقف في الوقت الراهن وفي ضوء تبدلات المشهد ميدانيًا ودبلوماسيًا في الصحراء الغربية لصالح الرباط، فإن تلك السياسة لم تعد فعالة أو مرضية للجزائر.
  • كسر أحادية التفاعل: ثم هناك نهج يقلق فرنسا يتمثل في توسيع قاعدة التفاعل الجزائري الأوروبي، فبعيدًا عن إسبانيا التي تشهد تصدعًا غير مسبوق في علاقاتها مع الجزائر، إلا أنها استطاعت أن ترسخ مسارًا استراتيجيًا للتفاعل مع إيطاليا على مستوى اقتصادي وطاقوي، حيث حظيت روما بأكبر صفقة غاز مع الجزائر وباتت الشريك الأوروبي المفضل لها، مما يؤثر على مصالح فرنسا الاقتصادية والتجارية مع الجزائر، وكذلك فيما يتعلق بملف الطاقة، ولعل هذا الأمر لم يقتصر على النطاق الأوروبي بل تجاوز ذلك لتشهد الجزائر مرحلة تعاون مع الجانب الروسي برزت ملامحها في زيارة “تبون” لموسكو” وتطلعات الجانبين لتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والاستكشافات والتعليم والصناعة وغيرها، هذا إلى جانب التعاون العسكري الممتد؛ إذ إن الجزائر تسعى لتوثيق علاقاتها العسكرية مع موسكو، سواء عبر المناورات المشتركة أو اللقاءات العسكرية والتمارين التكتيكية على مستوى القوات البحرية أو المناورات العسكرية والتي جاء آخرها في نوفمبر 2022 والتي جمعت القوات البرية الروسية والجزائرية قرب الحدود مع المغرب، والتي كانت الأضخم منذ بداية التعاون العسكري خلال الاتحاد السوفيتي.

وتبع هذا التناقض آليات تعامل وتصعيد جزائري حيال التفاعلات الفرنسية، ما بين استدعاء للسفير الجزائري في فرنسا، إلى جانب اتخاذ قرار وقف تحليق الطائرات العسكرية الفرنسية في الأجواء الجزائرية، وذلك في ضوء أزمة التصريحات المنسوبة للرئيس الفرنسي “ماكرون” في أكتوبر 2021، ولعل هذا النهج كان أكثر المسارات تصعيدًا، وصولًا للأزمة الأخيرة المتعلقة بالناشطة “أميرة بوراوي”.

وعلى الرغم من ذلك فإن هناك تكتيكات للتفاعل لاحتواء التصعيد، تباينت ما بين زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” للجزائر في الخامس والعشرين من أغسطس 2022 كأول زيارة له بعد انتخابه للمرة الثانية وثاني زيارة لرئيس فرنسي إلى الجزائر منذ عام 2017، إلى جانب تصويب مسار الذاكرة الاستعمارية التي تمثل موضع جدل تاريخي بين البلدين وأحد مواطن التضارب والتضاد بين باريس والجزائر، ومعالجة لتلك الأزمة من خلال إنشاء لجنة مشتركة من المؤرخين لفحص الفترة الاستعمارية وتكليف الرئيس “ماكرون” للمؤرخ الفرنسي من أصل جزائري “بنجامين سطورا” من أجل وضع تصور حول الذاكرة المشتركة بين الجانبين ليشكل أرضية تعترف بموجبها فرنسا بمسئوليتها التاريخية في الكثير من التجاوزات التي تمت بحق الجزائر.

هذه التحركات تأتي لتؤكد الأهمية الإقليمية للجزائر لدى باريس والتطلع لتنشيط العلاقات الثنائية بينهما والمضي بالعلاقات بينهما بما يخدم مصالحهما المشتركة، وتستند بصورة رئيسية إلى رؤية مستقبلية قائمة على الشراكة والتعاون في العديد من المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، خاصة في ظل تعقيدات المشهد العالمي على خلفية الصراع الروسي الأوكراني وما أنتجه من اشتداد حدة أزمتي الغذاء والطاقة.

تفاعلات حذرة: دوافع التهدئة والاحتواء

بالرغم من تكرار التصعيد والتأزم في العلاقات الدبلوماسية الفرنسية الجزائرية، إلا أن هناك سقفًا لهذا التصعيد ناجمًا عن أهمية التعاون بين الجانبين في العديد من القضايا؛ ولعل مساعي الاحتواء تبرز في تهدئة وتيرة التصعيد الإعلامي من ناحية واقتصار الرد على استدعاء سفير الجزائر في فرنسا دون الوصول إلى مرحلة قطع العلاقات الدبلوماسية أو التجارية مثلما هو الحال بالنسبة لإسبانيا، فضلًا عن اتباع تكتيكات للاحتواء تستند إلى الزيارات الرسمية عالية المستوى وكان أبرزها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجزائر في أغسطس 2022، وأعقبها زيارة رئيسة وزراء فرنسا “إليزابيث بورن” في أكتوبر من العام ذاته، هذا الأمر يُفهم منه أن هناك سقفًا للتصعيد لا يمكن لأيهما تجاوزه في إطار من التفاعل البراجماتي، ويُعزى ذلك للملفات والقضايا محل الاهتمام المشترك.

  • ملف الطاقة والأسواق البديلة: هناك دوافع متباينة تدفع الدولتين للإسراع في تدارك الأزمات وخفض التوتر، خاصة في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية. فمن ناحية جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتلقي بظلالها على أمن الطاقة لأوروبا وتسبب في أزمة الغاز العالمية، مما يتطلب البحث عن الأسواق البديلة لتأمين تلك المصادر خاصة في المنطقة المغاربية لقربها الجغرافي للجنوب الأوروبي، وتحديدًا الجزائر، لما تحظى به من احتياطيات للغاز الطبيعي تقدر بنحو أربعة مليارات متر مكعب، إلى جانب احتياطي نفطي يقدر بنحو 1.5 مليار طن، كما تستهدف إقامة أطول أنبوب غاز من نيجيريا إلى البحر المتوسط.
  • الأمن في الساحل والصحراء: انطلاقًا من كون تلك المنطقة محورًا استراتيجيًا للقوى الإقليمية والدولية في ضوء التهديدات الإرهابية والأمنية وما تمثله من نافذة لتعزيز تواجد تلك القوى عسكريًا، ونتيجة للحسابات الفرنسية المتعلقة باستراتيجية لإعادة الانتشار الإقليمي عبر بوابة النيجر وتشاد، بالتزامن مع موجة الانقلابات العسكرية في مالي وتشاد وبوركينافاسو، وقرار سحب 2400 جندي فرنسي من مالي، هذا الفراغ الفرنسي الذي تركته باريس في تلك المنطقة فتح المجال واسعًا أمام مزيد من التدخلات الدولية، سواء أكانت عبر القوات الروسية “فاغنر” وتكثيف تعاونها العسكري مع القوات المالية، أو عبر تفاعل واشنطن النشط مع المغرب لصد الثغرات الأمنية التي تشهدها منطقة الساحل والتي برزت في زيارة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي ” كريستوفر راي” للمغرب في فبراير 2023، كل هذا الأمر يجعل من فرنسا تفقد مناطق نفوذها التقليدي في واحدة من اهم المناطق المليئة بالثروات المعدنية المختلفة فضلًا عن موقعها الجيوستراتيجي، لذلك تبقي على علاقات تعاون عسكري وشراكة استراتيجية مع الجزائر.
  • الهجرة غير الشرعية وظاهرة الإرهاب: واحد من بين الملفات المشتركة بين باريس والجزائر يكمن في ملف الهجرة النظامية وغير النظامية، سواء من الجزائر أو من الدول الأفريقية الأخرى عبر الجزائر كدولة عبور إلى دول الحوض الشمالي للمتوسط، وهو الأمر الذي يمثل تحديًا اقتصاديًا وتهديدًا أمنيًا للدول الأوروبية، وقد تزايدت موجات الهجرة غير الشرعية عقب إصدار السلطات الفرنسية قرارًا بخفض عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين، علاوة على مخاطر الإرهاب وتدفقات العناصر المتطرفة إلى العمق الأوروبي قادمة من مناطق التوتر وعلى رأسها الساحل والصحراء، مما يتطلب قدرًا من التنسيق بين الجانبين للتصدي لهذين الملفين، خاصة وأن للجزائر سجلًا تاريخيًا مميزًا في مكافحة ظاهرة الإرهاب، ولعل الاهتمام الفرنسي بالتصدي لتلك الإشكالية برز في زيارة وزير الداخلية الفرنسي “جيرالد دارمانان” في الثامن عشر من ديسمبر 2022 التي تناولت سبل التعاون مع السلطات الجزائرية في التصدي لتلك الظاهرتين، علاوة على مناقشة سبل ترحيل الرعايا الجزائريين المتواجدين بشكل غير شرعي في فرنسا.
  • ضمان التواجد وعدم الإطاحة بنفوذها: لعل أحد أهداف إبقاء سقف للتصعيد المتبادل بين الجانبين وسرعة تدارك باريس لأي أزمة ناشبة مع الجزائر، يكمن في مساعي “باريس” ضمان تأكيد تواجدها وعدم الإطاحة بنفوذها ومصالحها في تلك المنطقة الجيواستراتيجية، ويأتي هذا في ضوء تزاحم القوى الأوروبية لخلق موطئ قدم لها داخل دول الشمال الأفريقي وغربها، انطلاقًا من معادلة الطاقة والغذاء، وآخرها صفقة الغاز التي تم توقيعها بين الجزائر وإيطاليا في يوليو 2022، علاوة على تزايد الارتباط الجزائري الروسي عسكريًا وآخرها المناورات العسكرية البرية التي انعقدت في نوفمبر 2022، تلك التحركات تقلص من مساحة التواجد الفرنسي داخل الجزائر، وهو ما يعد تراجعًا عن ساحة التواجد التقليدية لها، وهذا يبرهن حجم المساعي الفرنسية لمواجهة النفوذ الروسي وكذلك الصيني في المنطقة، ولعل الجزائر تعد البوابة الملائمة لهذا الهدف، خاصة في ضوء حتمية التعاون مع انعدام الأمن المتزايد في منطقة الساحل.
  • خلق مساحة تنافس جيوسياسي: انطلاقًا من السابق وفي ضوء تغلغل روسي متزايد في الشمال الأفريقي وفي دول الساحل والصحراء على وجه الخصوص، خاصة في ضوء الشراكة الجامعة بين موسكو والجزائر في الملف العسكري والأمني، وهو ما يمثل في حد ذاته تهديدًا للجنوب الأوروبي، ليس فقط توطيد الشراكات العسكرية مع مالي بل امتدت لتشمل (بوركينافاسو- تشاد – النيجر)، ونظير تلك التهديدات هناك تحركات غربية متلاحقة تتمثل في مساعي “الناتو” لتحقيق شراكة مع دول الشمال الأفريقي “موريتانيا” وذلك في ضوء تغير معادلة القوة والتوسعات التي حققتها روسيا في غرب أفريقيا، ومن ثم فهي بمثابة تصحيح للحسابات الخاصة بالناتو، الأمر الآخر يتجلى في إعادة توطين التواجد الفرنسي بصورة جديدة للانخراط في معادلة القوة في الشمال الأفريقي وغربها.

وفي التقدير؛ تشهد ولاية الرئيس “تبون” الأولى علاقة مد وجزر مع فرنسا، ولكن في حدود معينة لا يرغب أي منهما في تجاوزها، وذلك في ضوء الشواغل المشتركة بينهما الأمنية والعسكرية وكذلك الاقتصادية والطاقوية، إلى جانب المصالح الجيواستراتيجية الجزائرية الفرنسية على صعيد الصحراء الغربية بالنسبة للأولى، وفي ضوء النفوذ التقليدي ومعادلة الطاقة بالنسبة للثانية. ولكن في ضوء خطة إعادة الانتشار العسكري الإقليمي لفرنسا في خضم تعاطيها مع ملف الساحل والصحراء وتوافر البديل الاستراتيجي “روسيا – فاغنر”، ومع تزايد التفاعل الروسي والصيني وكذلك الإيراني عسكريًا واقتصاديًا مع الجزائر، فإنه من المحتمل أن يتجاوز سقف التصعيد، حال حدوث أزمة مماثلة لتلك التي وقعت عام 2021، فكرة استدعاء السفراء.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/33421/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M