هل تسقط امبراطورية أميركا تحت وطأة التاريخ والأيديولوجيا؟

لكأن كثرة الأدمغة، في مناخ فوضوي، أقرب ما تكون إلى كثرة الثيران في غرفة زجاجية”. اتفق مع القائلين إن التاريخ، بدافع ما، قد يكون ميتافيزيقياً، يسحق المجتمعات، ويسحق الدول، ليستدرك “لا شك في أن التاريخ الأميركي بدأ حين كان تاريخ عدد من الدول الأخرى أُصيب بالبارانويا…

قراءة: نبيه البرجي

يعتقد كيندي بأن من المستحيل النظر إلى النظام الدولي كما لو أنه يقف على قرن ثور فثمة ثيران كثيرة في الحلبة ليؤكد أننا نتجه، حتماً، إلى عالم متعدد الأقطاب.

حين قرأ المؤرخ الأميركي ريتشارد بايبس كتاب بول كيندي “نشوء وسقوط القوى العظمى”، والذي تُرجم إلى 23 لغة، كتب في الـ”فورين بوليسي” “أن المعايير التي أخذ بها المؤرخ البريطاني لا يمكن أن تنطبق، في أي حال، على الولايات المتحدة، كنموذج متباين عن سائر النماذج الإمبراطورية الأخرى”، وإلى حد الإيحاء في أنها بمنزلة شكل ما من أشكال الخلاص الإلهي للبشرية.

قال إن تلك الإمبراطوريات سقطت تحت وطأة التاريخ، أو تحت وطأة الأيديولوجيا، وهو ما لا يتماهى مع التجربة الأميركية، كونها ألقت بالتاريخ، وبالأيديولوجيا جانباً، وهما الحالتان اللتان تواطأتا لسحق المجتمعات، كما لسحق الدول.

لكن بايبس أغفل مسألة مهمة، وهي أن كنيدي ركّز كثيراً على أن الاستخدام الأخطبوطي، والمستدام، للقوة، كسبيل للسيطرة بأبعادها الاقتصادية والثقافية والسياسية، لا بد من أن يفضي إلى زعزعة القواعد الفلسفية للدول التي تلجأ إلى هذا الاسلوب، وبالتالي تفككها، وموتها، وهذا ما حدث لكل الإمبراطوريات التي تشكلت، بطريقة أو بأخرى، عبر الأزمنة.

آنذاك علّق كيندي، في المجلة نفسها، بأن بايبس قرأ الكتاب من ثقب الباب. “أميركا خرجت من فوهة البندقية (بندقية الكاوبوي)، أي من جاذبية الدم، لترى في ذلك الطريق المثالي ليس فقط لفتح أسواق العالم أمام منتوجاتها، ولاستثمار ثروات الأمم الأخرى، بل أيضاً استجابة لرغبات فرويدية في التعبير الفوقي عن الذات. لا مسافة هنا بين الرصاصة التي أطلقها جون واين في فيلم “عربة الجياد” والقنبلة الذرية التي ألقاها هاري ترومان على هيروشيما. القوة التي تختزل المنطقة النرجسية في اللاوعي الإمبراطوري”.

اعترف بالإيقاع الأسطوري للتكنولوجيا الأميركية، وحيث المضي إلى ما بعد المكان (الهبوط على القمر أو على المريخ…)، وإلى ما بعد الزمان. لم تكن الفكرة تبلورت، منهجياً، في ذلك الحين. لكن عندما تحول الذكاء الاصطناعي إلى هاجس لدى علماء القرن، بدا أن الأميركيين باشروا في شق الطريق إلى حقبة ما بعد الزمن.

تعليقات أميركية، وأوروبية، شتى، واكبت صدور الكتاب الذي يتحدث عن فترة اندلعت فيها “ثورة المداخن”. لعل هذا ما حمل الكاتب الأميركي جون شتاينبك، مؤلف “عناقيد الغضب”، والحائز جائزة نوبل في الآداب، على القول “لقرون كانت براثن القياصرة تنقضّ على لحومنا، لنتحول إلى هياكل عظمية. الآن، انتقلت المهمة إلى الآلات التي مثلما تنتج البضائع تنتج الضحايا”، ما دام المنحى التاريخي للقوة تجاهل، على نحو دراماتيكي، كل أثر للألم البشري.

المؤلف مؤرخ، وباحث جيوسياسي، بريطاني، أثارت كتبه، بالكثافة الرؤيوية، والموسوعية، كثيراً من الضجيج، إلى الحد الذي حمل رئيسة تحرير صحيفة “نيويورك تايمز” جيل أبرمسون على وصفه بـ”كاهن العائلة”، أي العائلة الدولية.

لم يتوقف أبداً عن المتابعة الدقيقة لما دعاه “خطوات آدم في الأرض”، مشيراً إلى أن من المستحيل النظر إلى النظام الدولي كما لو أنه يقف على قرن ثور. ثمة ثيران كثيرة في الحلبة، ليؤكد أننا نتجه، حتماً، إلى عالم متعدد الأقطاب، “إذ إن شكل العالم تغيّر كثيراً منذ أن وضعت كتابي “قيام وسقوط القوى العظمى”. هناك توزيع عشوائي، وحتى صدامي، للقوة، مع ظهور دول كثيرة على القمة إلى جانب أميركا وروسيا والصين والهند، أبرزها الاتحاد الأوروبي واليابان وحتى إندونيسيا وايران”.

أكبر غوريلا في الغابة

في رأيه أن من غير الواقعي “الادعاء أن أميركا ستبقى في المرتبة الأولى، حتى لو كانت الغوريلا الأكبر في الغابة، فهي، في نهاية المطاف، واحدة فقط من مجموعة من الغوريلات”، ليتحدث عن عوامل أخرى للتحول، لكن هل يمكن للخبراء، وللمسؤولين، في البنتاغون، الاعتراف بـ “أن حجم القوات المسلحة الأميركية بات أصغر، وأقل كثيراً مما كان عليه في الثمانينيات، إذ إلى متى يمكن لسلاح الجو الاستمرار في ترميم قاذفاته الرائعة “بي ـ 52 ” التي يبلغ عمرها سبعين عاماً؟ وكم من الوقت يمكن لسلاح البحرية أن يستمر في تجديد مدمرات “آرلي بيرك”، حتى لو كان مجرد إرباك موقت أن تتم تخلية الباسيفيك من حاملات الطائرات عندما كانت مجموعة “يو. أس. أس دوايت آيزنهاور” تغطي بدء الانسحاب من أفغانستان؟”، مؤكداً أن عدد حاملات الطائرات العاملة اليوم أقل مما كان عليه في الثمانينيات من القرن الفائت.

لكن، حين أرسل جو بايدن حاملة الطائرات “يو. أس. أس. جيرالد فورد” إلى المتوسط، غداة عملية “طوفان الأقصى”، لمؤازرة “إسرائيل” إذا ما تعرضت لأي خطر، ذكر الخبراء أن الحاملة التي رافقتها 4 غواصات نووية وعدد من المدمرات، تمتلك مزايا ما بعد التكنولوجيا، بقدرات متعددة المهمات، من دون أن يمنع ذلك الخبير العسكري الأميركي، دوغلاس ماكغريغور، من القول إن ثمة جهات في الشرق الأوسط تمتلك أنواعاً من الصواريخ المتطورة يمكن أن تشكل تهديداً حقيقياً لتلك الحاملة.

أغلبية الأبحاث التي تصدر عن “معهد استوكهولم لأبحاث السلام”، أو عن “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية” في لندن، تشير إلى إمكانات هائلة وُضعت أمام شركات تصنيع الأسلحة لتطوير منتوجاتها ما دام هناك من ينتظر أميركا، بالثياب المرقطة، لدى حلول منتصف القرن.

الشيطان مات

الحقبة التي يتطرق إليها بول كنيدي هي، بكل معنى الكلمة، حقبة تأسيسية. الكثير من تداعياته أرخى بظلاله على القرن الحادي والعشرين، بعد أن كان القرن الماضي انتهى بانهيار الإمبراطورية السوفياتية، الأمر الذي حمل الكاتب السياسي جان دانيال، مؤسس مجلة “Le nouvel Observateur ” على الكتابة “لعلك استفقت، ذات صباح، ليأتي أحدهم ويقول لك إن الشيطان مات”. للتو، علّق الكاتب الألماني غانتر غراس (نوبل في الآداب): “لا شك في أن سقوط جدار برلين أعاد ترميم روحي من ذلك الانكسار المروع، لكن لأتساءل في أي عالم سنكون حين يتحكّم في البشرية شيطان واحد؟”.

آنذاك أطلق الرئيس جورج بوش الأب ما عدّه “النظام العالمي الجديد”، ليواجه بتعقيب خاطف من زبغنيو بريجنسكي، الباحث المستقبلي، ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جسمي كارتر: “… بل الفوضى العالمية الجديدة”. على مدى أكثر من ثلاثة عقود في أي عالم، أو جحيم، نضع أقدامنا؟ السؤال للمؤرخ الهولندي نيكولاس مولدر.

في الكتاب عودة إلى الى بدايات القرن السادس عشر. فيه “لا يمكن القول إن أوروبا حققت شيئاً يقال، أو يذكر، في مجالات الثقافة والرياضيات والهندسة والملاحة، إذا ما قورن ذلك بالحضارات العظمى في آسيا. كان جزء كبير من التراث العلمي، والثقافي، الأوروبي مستعاراً من المسلمين، تماماً كما ظل المسلمون، لقرون عدة، يستعيرون من الصين عن طريق التجارة والغزو والاستقرار. ويمكن للمرء أن يلاحظ أن الايقاع الأوروبي تسارع تجارياً وتقنياً عند أواخر القرن الخامس عشر. وربما كان من الملائم القول إن كلاً من أكثر مراكز الحضارة العالمية كان يمر في حالة مشابهة من التطور، مع النجاح في مجال والفشل في مجال آخر”.

كيندي يشير إلى أنه “كانت هناك الإمبراطورية العثمانية، وكانت هناك الصين تحت حكم أسرة “مينغ”، والهند فيما بعد، حيث كان شماليها خاضعاً للمغول، وكان السائد نظام الدويلات في أوروبا، أكثر تقدماً، من الناحية التقنية، من المجتمعات المتفرقة في أفريقيا، وأميركا والأوقيانوس. وفي حين أن هذا يعني أن أوروبا كانت واحداً من مراكز القوة الثقافية نحو عام 1500، لم يكن من الواضح أنها ستستمر هكذا، يوماً ما، وتحتل القمة”.

أفكار متلاطمة لطالما عصفت بالأمم، وعصفت بالأزمنة. مثلما تدور الأرض تدور البشرية. كيندي يتوقف عند قول المفكر الفرنسي ألكسي دو توكفيل في منتصف القرن التاسع عشر: “إن الولايات المتحدة وروسيا ستكونان القوتين العظميين في المستقبل (نابليون بونابرت سبقه إلى ذلك)، ليلاحظ أن هذه المقاربة فقدت معناها “بعد الكارثة التي حلت بروسيا في حرب القرم (وقد دفعت القيصر ألكسندر الثاني إلى بيع آلاسكا للرئيس أندرو جونسون عام 1867، وإلا لكانت روسيا على الأرض الأميركية)، وفي عراضها الرديء في مواجهة تركيا عام 1877. على الجانب الآخر، الحرب الأهلية الأميركية، وأعوام اعادة البناء والتوسع غرباً”.

كما لاحظ أن “النمو الصناعي والزراعي الأميركي، وكذلك التوسع العسكري، أدّيا إلى إشاعة حالة من القلق لدى الساسة الأوروبيين حيال النظام الذي أنتجه الواقع في القرن العشرين (العصا الايديولوجية الروسية والحقيبة المالية الأميركية)”.

يضيف كيندي: “ولعل ظهور الأفكار التجارية ـ التي تستند إلى القوة السياسية، وبالضرورة القوة العسكرية ـ وغلبتها على المشهد العام السلمي الذي تسوده معايير السوق الحرة وآلياتها، كانا السبب في الاعتقاد أن القوة الاقتصادية لابد من أن تفضي، بإيقاعها الديناميكي، إلى حدوث تغييرات جيوسياسية وجيوستراتيجية، ليقول لورد سالزبوري، رئيس وزراء إنكلترا، عام 1898، إن العالم انقسم ما بين القوى الحية والقوى التي تحتضر، فكانت هزيمة الصين أمام اليابان عامي 1894 و1495، وانكسار إسبانيا أمام أميركا، عام 1898، وتقهقر فرنسا، ديبلوماسياً، أمام إنكلترا في حادثة فاشودة، أعالي النيل، عام 1898، لينتج من ذلك مصطلح “متلازمة فاشودة” في قاموس السياسة الخارجية الفرنسية”.

مصيدة توقيديس

منذ أن وضع كيندي كتابه لاحظ أن التحولات الاقتصادية تستتبع، تلقائياً، تغيّرات في موازين القوى، لتنشأ حالة من الفوضى السياسية، والفوضى العسكرية، مستعيداً ما جاء في كتاب المؤرخ الإغريقي توقيديد توقيديس “تاريخ الحرب البيلوبونية”، وفيه “أن ما يجعل الحرب حتمية هو نمو قوة أثينا، والمخاوف التي أثارها ذلك في إسبارطة”، ليكرّس العالم السياسي الأميركي غراهام آليسون مصطلح “مصيدة توقيديس”، لتوصيف نزعة حتمية نحو الحرب عندما تهدد قوة صاعدة قوة عظمى تمارس هيمنتها الإقليمية والدولية، ولطالما استخدم هذا المصطلح في الأبحاث التي تطرقت إلى دلالات، واحتمالات، الصراع بين أميركا والصين.

ما يلفت في مقاربات المؤلف أن نفقات الولايات المتحدة على التسلح، عام 1938، أي عشية الحرب العالمية الثانية، كانت أقل من نفقات كل من بريطانيا أو اليابان، فهل أيقظ أدولف هتلر النسر الأصلع الأميركي والدب القطبي الروسي. ثمة مارد خرج من القمقم لتبدأ، وفق تعبير كيندي، “حقبة الروك أند رول” في التاريخ الأميركي، بعد أن بدا أن الحرب الباردة ضرورة تكتيكية، مثلما هي ضرورة استراتيجية، لاحتواء الإمبراطورية السوفياتية بذلك الإعصار الأيديولوجي (نظرية جورج كينان)، بل باحتواء العالم حتى إن الغطرسة بلغت بديك تشيني حد السؤال ما اذا كان كينان يقصد أيضاً… العالم الآخر!

السؤال الذي انفجر في رأس جون فوستر دالاس، وزير الخارجية في عهد دوايت ايزنهاور (بطل إنزال النورماندي)، بعد أن لاحظ مظاهر الشيخوخة في الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية “لماذا لا نكون الورثة؟”، ورثة الكرة الأرضية ليبقى الاتحاد السوفياتي وراء الستار الحديدي. والمثير هنا أن ونستون تشرشل، على هامش مؤتمر يالطا في شباط/ فبراير 1945 (فرنكلين روزفلت، جوزف ستالين، ونستون تشرشل)، قال في حديث هامس إلى افريل هاريمان، مستشار الرئيس الأميركي “إن الشيوعية كأيديولوجيا، تريد إحداث تغيير في الروح البشرية لا بد من أن تصطدم بمجتمعات الجمهوريات التي تشكل الدولة السوفياتية، بالثقافات المضادة، ليبدأ التحلل من اللحظات الأولى”.

لا يتصور كيندي أن في استطاعة أي من القوتين الأميركية والسوفياتية (الآن الروسية) الانتصار، عسكرياً، على الأخرى “إلا إذا أرادتا خوض الحرب على أرض جهنم”، ليرى أن الأميركيين استخدموا “فائض الغباء” الذي هو، في نظره، الداء الذي يصيب الإمبراطوريات، من أجل تفجير الوضع في أوكرانيا، من دون أي مبرر استراتيجي سوى تلك الرغبة الغريبة، والغرائبية، في كسر أنف القيصر في عقر داره، وتالياً تفكيك الاتحاد الروسي، ووضع اليد قبل الصين على سيبيريا، بموقعها الفائق الحساسية بالنسبة إلى الأميركيين والصينيين على السواء. ألم يقل جون بولتون “لا يكفي أن نحطم أعصاب التنين. عظامه أيضاً !

العصا الفلسفية

في الكتاب لا أحد يمكنه إدارة التاريخ، أو التنبؤ بما يأتي به التاريخ. مثلما هناك تفاعلات جيولوجية في الطبيعة، هناك تفاعلات جيولوجية في الأوديسه البشرية، ليلاحظ أن القوى العظمى حاولت، دوماً، الابتعاد عن هذه الحقيقة لتميد الأرض من تحتها وتسقط في لحظة ما كما لو أنها لم تكن.

ما يُستشف من آرائه بشأن ديناميات القيام والسقوط أن الإمبراطورية الأميركية، في وضعها الحالي، وبعد أن حولت القوة إلى “عصا فلسفية” للضرب على الرؤوس، إنما تتأرجح الآن، بسبب تشابك الأزمات بما في ذلك الأزمات ذات الدلالات الكوارثية، بين جدلية البقاء وجدلية الفناء.

أكد أكثر من مرة أنه يحمل، في كتاباته مصباح ديوجين (لا أرى نفسي حتى في المرآة). شاهد على مسار الأحداث، وعلى مسار الأفكار، وايضاً على مسار الصراعات، بعد أن بدا جليّاً أن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على القوى العظمى بلورة أرضية مشتركة لإدارة جماعية للعالم.

هذا إن كان الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك أعلن الرفض المطلق لأي شكل من أشكال الاستقطاب، سواء كان أحادياً، أو متعدداً، “في الحالتين، الإدارة التوتاليتارية للبشرية”، ليضيف “لن نكون أمام نسخة براقة للميدوزا ـ الكائن الخرافي الذي تخرج الثعابين من رأسه ـ لأن كوكبنا أكثر قداسة بكثير من أن يدار هكذا”.

في الأعوام الأخيرة ركز كيندي على “مأزق القوى العظمى”. “كلها أمام أسوار عالية، ولا أفق هناك”، مشيراً، بوجه خاص، إلى التصدعات البنيوية داخل الفسيفساء الأميركية. وإذا كان عدد من البلدان المركبة مهدَّداً، لسبب أو لآخر، بالتفكك الإثني، أو الديني، أو المناطقي (أو تبعاً للمسار الانحداري الذي تحدثت عنه نظرية ابن خلدون)، تبدو المشكلة في الولايات المتحدة أكثر تعقيداً، وأكثر سوريالية. هنا الخوف ليس من انفكاك ولاية أو ولايات ما، وإنما من تفتت الولاية، أو الولايات، نفسها، بعد أن أخذ الصدام الإثني، حتى في صناديق الاقتراع، منحى ينذر حتى بالحرب الأهلية.

آفاق ملبدة، إذا ما أخذنا في الحسبان أن الركيزة الأيديولوجية للولايات المتحدة انطلقت من مفهوم الإلدورادو، أي طريق الذهب، الذي قد يتحول، أمام عواصف ثقافية، أو اقتصادية، أو حتى سيكولوجية، إلى طريق الجلجلة. روبرت كاغان، أحد منظّري اليمين، لا يستطيع أن يتصور الإمبراطورية معلقة… على خشبة.

الغرنيكا الأبدية

كنيدي كاد يصف المسار البشري بـ “الغرنيكا الأبدية” (اللوحة الأبوكاليبتية لبابلو بيكاسو). ليست أزمة القوى العظمى فقط، وإنما أيضاً أزمة كل القوى التي تشعر بالتيه أمام الصراعات المحتملة، ونتائج هذه الصراعات “بين أزقة قرية تدعى الكرة الأرضية”، من دون أن يكون هناك أي إمكان، لا لنشوء نظام عالمي يعيد ضبط الإيقاع، ولا لظهور نظام إلهي يفرض علاقات أوركسترالية بين الأمم.

لكن، ألا يستشف من كلام المؤرخ البريطاني أن الغوريلا الأكبر في الغابة احترفت لعبة العبث (العبث السيزيفي) برقعة الشطرنج، لتبقى، ولو بساقي بطة عرجاء على رأس القرن؟ يعود إلى جوزف ستيغليتز (نوبل في الاقتصاد) الذي تنبأ بالزلزال المالي، عام 2008، بعد أن ناهزت تكلفة الحرب في أفغانستان والعراق ثلاثة تريليونات دولار، تلاشت بين “تلك الوجوه المكفهرة التي تشبه الصخور”.

وإذا كان الباحثون السياسيون والعسكريون يستخدمون مصطلح “نهش الكلاب” في وصف الاستراتيجية العسكرية التي تضرب هنا وهناك من دون وجود رؤية متكاملة، فإن ستيغليتز يستخدم مصطلح “نهش الذئاب” لوصف العشوائية التي تحكم طريقة التعاطي مع مسائل حساسة، مثل الموازنة العامة، وسقف الدين العام، وإعادة هيكلة الديون. الدليل ما يحدث تحت قبة الكابيتول حيث يسود منطق الصفقة الآنية لا منطق المعالجة بعيدة المدى.

هذا القصور القاتل في دولة أنتجت 67 باحثاً حازوا جائزة نوبل في الاقتصاد، التي أُنشئت عام 1968، من أصل 93 ينتمون إلى 14 دولة.

كيندي لم يتورع عن القول: “في هذه الحال، لكأن كثرة الأدمغة، في مناخ فوضوي، أقرب ما تكون إلى كثرة الثيران في غرفة زجاجية”. اتفق مع القائلين إن التاريخ، بدافع ما، قد يكون ميتافيزيقياً، يسحق المجتمعات، ويسحق الدول، ليستدرك “لا شك في أن التاريخ الأميركي بدأ حين كان تاريخ عدد من الدول الأخرى أُصيب بالبارانويا. لكن من تُراه في أميركا يفهم التاريخ الأميركي ليعرف إلى أين تقوده قدماه. لم يقل إلى أين يقوده رأسه!

على الرغم من كل ذلك فإنه يتساءل (من دون إجابة) عما إذا كان انفجار أميركا يستتبع، تلقائياً، انفجار العالم، لأن كل الشبكات التي تتحكم في مناحي حياتنا تدار من أميركا. ربما الإجابة لدى المفكر الروسي ألكسندر دوغين: “كل الإمبراطوريات سقطت لأن من قادوها كانوا يشبهون القادة الذين يحكمون أميركا”.

المصدر : https://annabaa.org/arabic/books/38168

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M