هل يمكن للغضب العام في أوروبا ذات الميول اليمينية أن يقوض الدعم الغربي لأوكرانيا؟

مي صلاح

 

ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلالها القاتمة على القارة الأوروبية بأكملها، فجعلتها تشهد ظروفًا وتحديات لم تواجه لها مثيلًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فبالرغم من أن الحرب الحالية هي حرب بين ميداني روسيا وأوكرانيا، فإن الغرب اختار أن يقف بجانب الميدان المظلوم من وجهة نظره، مقررًا الدفاع عنه وإمداده بكل ما يحتاج لتعزيز انتصاره واستعادة أراضيه، حتى لو وصل الأمر إلى أن تعاقب أوروبا نفسها جراء معاقبتها لروسيا.

وهو ما حدث بالفعل، فبعد أن اتفق الغرب على فرض العقوبات التي لا تنتهي على روسيا، باتت أوروبا تعاني من تداعيات العقوبات بشكل أبعد من أسعار الطاقة وموجات التضخم والغلاء، يصل إلى وجود صدى سياسي لتلك الحرب يتمثل في سأم الشعوب الأوروبية من هذا الدعم، وباتوا يدعون حكوماتهم إلى وقفه، والتركيز في الداخل الأوروبي المنهار، وهو ما تمت ترجمته في الانحياز نحو صعود اليمين بخطاباته الانعزالية النقيضة للخطاب الوحدوي للاتحاد الأوروبي، وجعله مهددًا بالتفكك، ما يجعلنا على أبواب مرحلة جديدة قد يتم من خلالها “إعادة تشكيل” الهوية الأوروبية من جديد.

دعم أوكرانيا عبء “لا بد منه” على الاتحاد الأوروبي

شكلت شرارة الحرب الأوكرانية العديد من الأحداث التي أعقبتها ارتدادات سلبية وتحولات اقتصادية واجتماعية، ومن تداعيات هذه الحرب نشوء أزمة الطاقة التي كشفت السياسات الاوروبية في مجال تأمين مصادرها من الطاقة، فوجدنا أن روسيا قد استحوذت منفردة على نسبة 40 % من الغاز الطبيعي المستهلك في أوروبا، وهذا ما أثار الأسئلة إزاء السياسات التي تؤمّن الحماية الاستراتيجية للاتحاد، والتي وضعته اليوم تحت رحمة أي قرار روسي من شأنه أن يزود أوروبا بحاجتها من مصادر الطاقة أو عدمه.

هذا بجانب التكلفة الباهظة التي تتكبدها الدول الأوروبية لدعم كييف، فبالرغم من يقينها أن تعاني من ارتفاع تكاليف الحياة، فإنها تصر على استمرار دعم أوكرانيا على حساب المواطن الأوروبي، وربما ينبع هذا الإصرار على الدعم من منطلق الإحساس بالذنب من عدم التدخل والوقوف بوجه روسيا عام 2014 عند الاستيلاء على شبه جزيرة القرم.

ولهذا، انعدمت ثقة الشارع الغربي بحكوماته المتمثلة في أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط التي تسيطر على المشهد السياسي، والتي يرون أنها ولعقود لم تستطع حل مشكلات القارة الأوربية والدفع بتحسين حياة الناس للأفضل، ما دفعهم إلى الاستنجاد باليمين واليمين المتطرف لإنقاذهم مما هو قادم، حتى لو وصل الأمر إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وتفكيكه تمامًا لأجل مصلحة كل دولة، وبالفعل، شهدت الانتخابات الأخيرة في معظم الدول الأوروبية تقدمًا واضحًا لتكتلات اليمين والمين المتطرف في دول عدة أبرزها إيطاليا وبولندا والمجر، ما يثير مخاوف من تأثير هذه التوجهات على سياسة التكتل الأوروبي ومستقبله، لا سيما في يتعلق بالحرب في أوكرانيا وتطوراتها.

ومؤخرًا، ظهرت دعوات في عدة دول أوروبية، كألمانيا والنمسا والتشيك وإيطاليا وفرنسا، ضد سياسة التعامل مع المشاكل الاقتصادية ودعم أوكرانيا تحت شعار “منح السلام فرصة”؛ إذ تحث هذه التظاهرات والوقفات الاحتجاجية المتكررة الحكومات على أن تسعى بكل جهد لدفع الجهتين الروسية والأوكرانية نحو التفاوض من أجل إحلال السلام، وتخفيف العقوبات الروسية التي يرون أنها فشلت في تحقيق مساعيها، وتوفير تكلفة تمويل أوكرانيا من الأسلحة لصالح شعوب أوروبا التي تعاني بالفعل، والاكتفاء بالمساعدات الحالية التي يرون أنها تكفي بالفعل وزيادة. وبين مؤيدين للدعوات ومعارضين كثر لها، نجد أن تصاعد الخلافات في منطقة اليورو في ملف العقوبات على موسكو، يعتبر فرصة لروسيا للحد من العقوبات.

أما كييف فلديها الآن سبب يدعو للقلق بشأن تحول الرياح في الديمقراطيات الغربية؛ فهي قلقة للغاية من أن صعود اليمين من شأنه أن يعطل استمرارية الدعم الغربي لها، خاصة وأنها ترى أن الغرب وعد بتقديم الكثير لكنه قدم أقل مما وعد به. وهي تتخوف كذلك من انقلاب الدفة خاصة مع ارتفاع أسعار الطاقة جراء العقوبات الغربية على روسيا، وبالطبع تتخوف من فقدان التعاطف الشعبي معها، وذلك بعد موجة المظاهرات المعترضة على دعمها وتريد وقفه، وتطالب ببساطة بإطلاق مشاورات وطنية؛ لإنهاء الأمر والتفاوض.

صعود اليمين في مصلحة روسيا أم أوكرانيا؟

فشلت أوروبا في التعافي التام من التداعيات الاقتصادية للأزمة العالمية التي عصفت بها عام 2008، واستمرت بين كرٍ وفر تحاول أن تتأقلم، لكن جائحة كورونا ومن بعدها الحرب الروسية أعادتها إلى نقطة البداية، فوجدت نفسها أمام تحديات اقتصادية وأمنية، وخاصة فيما يتعلق بأمني الطاقة والغذاء، فبات المواطن الأوروبي لا يفكر في الديمقراطية، أو في انتصار أوكرانيا، أو إذلال الروس، وإنما يفكر في مصيره الفردي، وكيف سيتحمل تكاليف ارتفاع الطاقة وكل شيء من حوله، خاصة مع هجوم فصل الشتاء.

وتزايد ذلك خاصة عقب تبني الحكومات سياسة “التقشف” كأحد الأدوات الرئيسة في مواجهة الأزمة، والاعتراف بارتفاع معدلات البطالة، وفتح ملف اللاجئين الحساس. كل هذا جعل الغضب يزداد، ومع ازدياد موجات الغضب والاعتراضات، ظهرت جماعات اليمين واليمين الراديكالي لتحاول امتصاص هذا الغضب، وتعزز المكانة المفقودة منذ زمن لصالح أحزاب الوسط واليسار، وانتهاز الفرصة لمحاولة تفكيك الاتحاد الأوروبي، وهو ما يرتكز عليه أساس أحزاب اليمين.

ولكن حتى الآن، لا تتجه أوروبا بالكامل إلى اليمين، ولم تصبح الأحزاب اليمينية ذات أغلبية لتتمكن من قيادة الاتحاد الأوروبي، وإنما هي فقط تستمر في الصعود وتتمدد في فضائه السياسي، ما يعني أنهم أصبحوا صوت المحتاجين الذين يفوضونهم ليس قناعة بالفكر اليميني وإنما من أجل تلقين الحكام الموجودين بالسلطة والأحزاب النخبوية درسًا يؤكد أن الشعوب ستفرض حتمًا رؤيتها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ولكن كيف تستفيد روسيا من وصول اليمين إلى سدة الحكم في معظم البلدان الأوروبية؟

لا يمكن إنكار أن شعبية بوتين تتزايد منذ زمن بعيد لدى اليمين؛ إذ يُنظر إليه على أنه “القائد الفعلي” لتجمع دولي يضم المحافظين المتطرفين الداعمين للقومية، بجانب أنه من وجهة نظرهم هو الأكثر نجاحًا دون مساومة في حماية القيم الأوروبية وتطبيق الأجندة والمثل العليا الخاصة بهم؛ إذ أنشأ دولة فاشية متطورة تمتلك أسلحة نووية، لا تتسامح مع أي انتقاد، وهو كذلك يكره المثليين ويقدم نفسه على أنه بطل الحضارة الغربية المسيحية.

وعلى الرغم من عدم وجود تنسيق عملي بين السياسيين اليمنيين وبوتين بشكل مباشر، فإنه يمكن القول إن لديهم ما يشبه “التقاء الأفكار البوتينية والإعجاب بها”، ويأتي في مقدمتها الاتفاق على أن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو الخصم المشترك، وأنهما القوى المناوئة التي تسعى إلى تقويض نفوذها، فبعض التيارات السياسية ترى أن وجود هذا الاتحاد قد “سلب السيادة من الدول الأعضاء في أوروبا”.

وحرصت روسيا على دعم اليمين واليمين المتطرف داخل أوروبا، وذلك من خلال الزيارات السياسية، عبر دعوة رموز وقادة هذا التيار لزيارة روسيا، ومساندتهم إعلاميًا من خلال ظهورهم في وسائل الإعلام الروسية، والتنسيق معهم والتفاهم حول عدة قضايا، ما يثبت أن التعاون اليميني مع روسيا هو بمثابة بادرة نحو التعاون السلمي.

ولم يقتصر الأمر على الزيارات، فقد حرصت روسيا أيضًا على تقديم الدعم المالي، فعلى الرغم من صعوبة تتبع مسارات التمويل الروسي لقوى اليمين في أوروبا، فقد كشفت العلاقة بين حزب الجبهة الوطنية الفرنسي وموسكو -على سبيل المثال- عن تداخل عنصر المال في معادلة الدعم الروسي للقوى اليمينية الأوروبية، ما يعني أن موسكو قد وظفت تحالفها مع هذا التيار لخدمة مصالحها بشكل أو بآخر، وسعت نحو تحقيق رؤيتها للنظام الدولي كنظام يعترف بمناطق النفوذ الروسي.

وكما ذكرنا سابقًا أن الحرب الروسية على أوكرانيا أعطت الفرصة للجماعات اليمينية أن تظهر وتعلن دعمها لروسيا، إما من خلال التبرير بأن روسيا لديها وجهة نظر من هذه الحرب، ويجب احترامها، أو التأكيد بأن روسيا اختارت أن تقف في وجه العولمة التي تقودها الولايات المتحدة.

كيف استفادت أوكرانيا من وصول اليمين إلى الحكم؟

الجناح اليميني برغم مواقفه المتضادة من الحرب يبذل الجهود الكافية من خلالها لوضع نفسه في “الجانب الصحيح من التاريخ”؛ فهو لا يريد أن يخسر الدعم الشعبي الأوروبي بأي تصريحات قد تقلب الموازين، إذ إنه يعلم جيدًا أن أوروبا لن تسطيع التخلي أو القطيعة مع الولايات المتحدة في الوقت الحالي، وأنه لن يستطيع أن يكون سببًا في وقف أو الدعوة إلى وقف المساعدات الأوروبية الأوكرانية، فاختار أن يمسك بالعصا من المنتصف، وبدأ بتوجيه الخطابات اليمينية التي يحاول من خلالها إرضاء الشعوب الغاضبة، والمساس بقضاياهم الحساسة، بدءًا من ارتفاع الأسعار والتضخم، وصولًا إلى ملف الهجرة والمهاجرين، والتحدث بلهجة العصبية القومية، ونأى جزء كبير من الأحزاب اليمينية بنفسه عن بوتين بعد غزوه لأوكرانيا، بحجة أن بوتين الآن مختلف عمن كان في السابق، لتنتشر من بعدها موجات التعاطف مع الأوكرانيين، وأصبح أشد المعارضين لقبول اللاجئين من سوريا وأفغانستان، يرحب بالأوكرانيين الهاربين من الحرب.

ولكن هل يمكن للغضب العام في الغرب أن يقوض الدعم لأوكرانيا؟ وإلى متى يصمد الإجماع الغربي على دعم أوكرانيا؟ الانقسامات الداخلية بلا شك تصب في مصلحة بوتين الذي يراهن الآن على تراجع عزيمة وإصرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه أوكرانيا مع تفاقم نقص الغذاء والتضخم وأسعار الطاقة التي أدت أيضًا إلى انعدام الثقة في المؤسسات الديمقراطية، ما يعني أن أوروبا ستتحول في القريب العاجل إلى جحيم مقيم، فبين الاختيار بين السلام والاستقرار أو الحرب والفوضى أصبحت روسيا توحد أوروبا وتقسمها!

وصحيح أن الدعم الغربي لأوكرانيا من خلال تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية سخية إليها مكنها من صد الهجوم الروسي وإجباره على التراجع، لكن المساعدات الغربية لا يمكن أن تدوم طويلًا، خصوصًا في ظل المصاعب الاقتصادية الحالية، ويبدو أن أوروبا أصبحت تعي جيدًا أن المشكلة لن تحل بالحرب وحدها، ولا بد من دفع المشهد الملتهب بين البلدين إلى طاولة التفاوض، والدعوات إلى التسوية، وربما سيكون هذا هو النهج الذي سيتبعه أغلب قادة الدول من اليمين وغيرهم لحلحلة الأزمة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74477/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M