“الأصوليون الجدد” في إيران.. تيار أكثر تشددًا يهدد التوصل إلى اتفاق نووي

علي عاطف

 

منذ النصف الثاني لعقد التسعينيات في القرن الماضي، استقر شكل التحزبات السياسية في إيران بوجه عام في قسمين هما: الأصوليون والإصلاحيون. وتعددت المصطلحات التي تصف هؤلاء ما بين المتشددين أو المحافظين والمعتدلين، وهناك من يرى مجموعة ثالثة بينهما تجمع بين بعض سمات التيارين، مثلما يتم تصنيف المتشددين أنفسهم من جانب البعض إلى أقسام كالمتشددين المتطرفين أو المتشددين التقليديين.

وعلى أي حال، أسس هذان التجمعان السياسيان الكبيران تشكيلاتٍ سياسيةً على اختلاف أنواعها ومسمياتها ألقت بظلالها على العملية السياسية في إيران، والتي من بينها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الدورية التي يتقاسمانها على الأغلب. ولكن، مع تطور المجتمع الإيراني وتغير بعض سماته الأساسية خلال العقدين الماضيين، ظهر في الأعوام الأخيرة تيارٌ سياسي جديد بدأ يشق طريقه بقوة بين صفوف السياسيين الإيرانيين.

فقد شهد المجتمع في إيران خلال تلك الفترة (العقدين) تحولاتٍ فكرية جوهرية تختلف كثيرًا عن الحالة الفكرية التي كان عليها كثيرٌ من الإيرانيين في سنوات حكم الشاه الإيراني الأخير محمد رضا بهلوي أو حتى خلال العقد الأول بعد اندلاع الثورة الإيرانية في عام 1979، أي خلال الفترة التي شهدت حرب الثماني سنوات مع العراق (1980-1988)، والتي لعبت بدورها هي الأخرى دورًا غير مباشر في استمرارية ميل طائفة كبيرة من المجتمع الإيراني إلى المحافظة (Conservatism) نتجت في الواقع عن تراكم الموروثات المجتمعية والدينية المذهبية خلال القرون الماضية داخل إيران.

ويُطلَق على ذلك التيار السياسي الجديد في إيران لفظ “الأصوليين الجدد”، وهم وإن كانوا “أصوليين” إلا أنهم يختلفون عنهم في بعض التوجّهات الجوهرية، علاوة على أنهم يتشابهون بقدر أقل بكثير مع الإصلاحيين.

مَن هم الأصوليون الجدد؟

بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي أجريت في عام 2017، طرح آنذاك رئيس البرلمان الإيراني الحالي، محمد باقر قاليباق، مصطلح “الأصولية الجديدة” وقصد بها بشكل رئيس إحداث “تغيير في طريقة عمل التيار الأصولي”، وذلك في رسالة قال إنها موجّهة إلى “الشباب المؤمن المحب للبلاد”.

وأوضح قاليباف أن الأصولية التقليدية نفسها التي عُرفَت في بداية الثورة عام 1979 “يجب أن تبدأ على الفور التحرك من أجل الحفاظ على أصول وقيم الثورة الإيرانية”، مضيفًا: “قد توصّلتُ إلى اعتقاد بأنه أصبح من الواضح اليوم ضرورة تغيير الأصولية (التقليدية) لطريقة عملها في مجال السياسة عن طريق التحرك باتجاه الأصولية الجديدة”. ومن هنا، بدأ الكتاب ووسائل الإعلام في إيران تناول هذا المصطلح الجديد الذي أطلقه قاليباف، ولكن وتيرة إلقاء الضوء آنذاك كانت بطيئة.

وأعاد قاليباف مرة أخرى، خلال الفترة التي سبقت الاستعداد للانتخابات البرلمانية التي عُقدت في فبراير 2020، الحديث عن هذا المصطلح في ظل سعيه إلى التحول إلى شخصية قيادية بارزة بين صفوف التيار المتشدد التقليدي. ومثلما بعث قاليباف عام 2017 رسالة إلى “الشباب المؤمن المحب للبلاد”، كرر رئيس البرلمان الأمر نفسه أواخر عام 2019 وأرسل عبر “تليجرام” رسالة يقول فيها “يجب تغيير سياسة التيار الثوري (يقصد المتشدد) ليحافظ على المبادئ الأساسية”.

أما الحزب الذي يقوده قاليباف “جمعية التقدم والعدالة” فقد أعلن في أكتوبر 2018 عن “مانيفستو” الأصولية الجديدة، والذي أشار فيه حينذاك إلى أن “الأصولية الجديدة تسعى إلى إحداث تغيير جوهري في أداء العمل والاستراتيجيات والهياكل”، وأن “الحزب يريد تأسيس بناء جديد على أساس الماضي، ونحن نأخذ بعين الحسبان مؤشر الاهتمام بدور الشعب بصفته تكتيكًا”.

وهكذا وضع قاليباف وحزبُه أُسس مصطلح “الأصولية الجديدة” في طهران، والذي اكتسب مع مرور الوقت بعض التأييد المحلي؛ خاصة في ظل التحول الذي يشهده المجتمع الإيراني، كما تم توضيحه. ولكنه مع ذلك ووجه بعداء واضح من تيارات أخرى أبرزها المتشددين الأصوليين أنفسهم.

أبرز توجّهات “الأصولية الجديدة”

يرى “الأصوليون الجدد” أن الأصولية الدينية التقليدية التي شرعت في حكم إيران عام 1979 قد ابتعدت عن مسارها و”مبادئها” و”أصولها” التي قامت عليها في البداية، وأنها لم تعد تلتزم بالأفكار الأولى للثورة؛ في ظل التحولات التي شهدها ويشهدها العالم وبالتبعية المجتمع الإيراني.

لذا، فإنهم يريدون عودة السياسيين الإيرانيين الحاكمين على وجه الخصوص إلى تلك الأفكار الأيديولوجية التي أُسس النظام الإيراني عليها؛ أي التي تعود إلى روح الله الخميني مؤسس النظام الحاكم، والتزامهم بها. ولكنهم مع ذلك، يؤكدون على “ضرورة معالجة المشاكل الحديثة التي يواجهها المجتمع بشكل جديد ومغاير”.

ويرغب الأصوليون الجدد بالأساس من وراء دعوتهم هذه في “الحفاظ على الأصولية التقليدية في إيران” حسب قولهم؛ إذ إنهم يشددون على أنه “من أجل عدم تهميش الأصولية التقليدية تحتاج الأخيرة إلى التجديد وتغيير نظرتها إزاء المجتمع والسياسة، فضلًا عن الاهتمام بالشباب الثوري وتجنّب شيخوختها”. وتستند هذه الأفكار التي يتبناها داعمو الأصولية الجديدة في إيران إلى ثلاثة مفاهيم حسب تعبير مؤيديها وهي “الاهتمام بدور الشعب” و”الإسلام النقي” و”الحداثة”.

وتفصح لنا هذه المفاهيم الثلاثة عن توجّهات الأصوليين الجدد في إيران؛ فهم يقصدون بـ”الإسلام النقي” الأفكار الأيديولوجية التي طرحها الخميني ورفاقُه قبل الثورة وخلال العقد الأول الذي تلاها. وكان الخميني كثيرًا ما يستعمل هذا المصطلح على وجه التحديد. أما “الحداثة”، فإنهم يقصدون من ورائها العودة إلى “القواعد” الأولى للثورة الإيرانية، ولكن في الوقت نفسه معالجة الظواهر الجديدة وإفساح المجال للتعامل مع مستجدات المجتمع المعاصِر بكافة أشكالها.

ويعود طرح مسألة “الاهتمام بدور الشعب” إلى نداءات كثيرٍ من الكتاب والمنتمين إلى التيارين الإصلاحي والمتشدد معًا خلال السنوات الأخيرة، والتي يؤكدون فيها على ضرورة عدم تجاهلهم لدور الشعب الإيراني في مختلف المجالات. وعليه، يمكن اختصار توجّهات هذا التيار الجديد في إيران بأنه “مجموعة تريد العودة إلى الأصولية التي تراها قد انحرفت عن مسارها، وفي الوقت نفسه إفساح المجال للتعامل مع الحداثة ومستجدات المجتمع عن طريق تغيير المفاهيم”.

كيف تفاعل الداخل الإيراني مع ظهور هذا التيار؟

أثار حديث ومصطلح قاليباف انتقاد كثيرين في الداخل بدءًا من الشخصيات الأصولية أولًا إلى الإصلاحية ثانيًا، وهو ما تطور بعد إعلان حزب “جمعية التقدم والعدالة” في أكتوبر 2018 عن “مانيفستو” الأصولية الجديدة. فقد رأى المهاجمون أن هذا المصطلح إما لا يقدم جديدًا أو لا يمكن أن يَكون تيارًا معروفًا مثل التيارين الرئيسين في إيران. بينما ذهب آخرون إلى أن إطلاق محمد باقر قاليباف لهذا التيار أو المصطلح هو فقط للدعاية والترويج لشخصه ولرغبته في قيادة التيار الأصولي في البلاد، وأنه يسعى فقط إلى جلب داعمين من أي توجه كان.

وعلى سبيل المثال، شكك الأمين العام لحزب “مجتمع المهندسين الإسلامي” الأصولي محمد رضا باهنر في إمكانية أن يتحد الأصوليون تحت هذا المفهوم الجديد (الأصولية الجديدة)، وهاجم رئيس حزب “المؤتلفة الإسلامي” السابق محمد نبي حبيبي، الذي توفي عام 2019، هذا المصطلح قائلًا: إن “أسس الأصولية التقليدية لا يمكن أن تتغير مطلقًا”، بينما نفى السياسي الأصولي الآخر “أمير رضا واعظ آشتياني” أن يكون “الأصوليون الجدد” قد قدموا أي جديد عن الأصولية التقليدية.

ووجّه رئيس حزب “المشاركة” الإيراني الإصلاحي، شكوري راد، انتقادًا للمصطلح أكثر تفسيرًا حينما أوضح أن “الأصولية الجديدة تعني اجتذاب الداعمين والأنصار التابعين لأي توجّه أو أي طريقة في الحياة، أي ابق على النحو الذي تريد ولكن كن معنا فقط وصوّت لنا في الانتخابات”.

“الأصولية الجديدة” والمفاوضات النووية مع القوى الكبرى

يعارض الأصوليون الجدد في إيران المفاوضات النووية والاتفاق النووي المحتمل بشكل لا يمكن مقارنته بأي تيار آخر أو مجموعة سياسية داخل إيران، حتى أنهم يميزون أنفسهم عن الأصوليين التقليديين بمعارضتهم الشديدة لهذا الاتفاق. ويبرر هذا التيار موقفه إزاء ذلك الملف بـ: “عدم الثقة في الغرب”، و”العداء مع الولايات المتحدة”، و”العداء مع المملكة المتحدة”، وعدم جدوى الاتفاق النووي اقتصاديًا لبلادهم. وقد حاول الأصوليون الجدد خلال عام 2018 دفع الحكومة الإصلاحية السابقة إلى إعلان الخروج من الاتفاق النووي كليةً بعدما قرر الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، انسحاب واشنطن منه.

ويضغط الأصوليون الجدد حاليًا باتجاه عدم قبول طهران لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015 عن طريق تشجيع الداعمين لهم في البرلمان الإيراني على معارضة المفاوضات والاتفاق، والخروج من بعض الاتفاقيات الدولية الملزمة، أو الانضمام إلى اتفاقيات أخرى داعمة لانخراط إيران ماليًا واقتصاديًا في الخارج. ويشددون على ضرورة حصول الاتفاق النووي، حال التوقيع عليه، على موافقة أعضاء البرلمان، وهو ما يعني مواجهته انتقاداتٍ ومعارضة من جانب الموالين لهم.  ويشن هؤلاء بالتزامن مع ذلك حملة إعلامية مضادة للمفاوضات النووية في القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعية في إيران.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72873/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M