الأغلبية السياسية … غباء سياسي أم دعاية انتخابية

بهاء النجار

في الأنظمة الديمقراطية العريقة تشكل الكتلة الأكبر الفائزة في الانتخابات ( والتي تكون عادة هي الكتلة الأكبر البرلمان ) الحكومة وفق برنامج حكومي معد مسبقاً ومستند على البرنامج الانتخابي الذي قدمته الكتلة لناخبيها ، أما باقي الكتل الفائزة فتقوم بدور المعارضة وتشكيل حكومة ظل لمتابعة الحكومة المشكلة من الكتلة الأكبر ، ولا تشترك في الحكومة الأساسية لأنها ستفقد صفتها الرقابية وبالتالي يبقى الانحراف والفاسد قائماً فتفقد شعبيتها وثقة ناخبيها بها .
قد تكون عراقة الديمقراطية ووعي الشعب والنخب الحاكمة واستقرار الدولة ومؤسساتها هي أسباب نجاح تشكيل حكومة أغلبية سياسية لإدارة البلد وبقاء الكتل الأخرى في المعارضة ، إذ أن تشكيل الحكومة على أساس طائفي أو حزبي أو عرقي من دون الاعتماد على الكفاءات القادرة على تطوير البلد وتقديم أفضل الخدمات لأبنائه هذا أمر مرفوض وشبه مستحيل ، وأن الانفراد بالسلطة من قبل الحكومة أمر مستبعد للغاية ، والبرلمان في هذه البلاد – العريقة ديمقراطياً – بقوة الحكومة التي يعتبر أفرادها موظفون في الدولة لا أكثر بحيث تجد الاستقالات على قدم وساق حينما يحدث فساد مثل أو سوء إدارة أو غيرها ، والقضاء مستقل بدرجة كبيرة بحيث لا يتأثر بضغوط البرلمان والأحزاب السياسية ولا بإرهاب الحكومة ، أما الإعلام فله الدور الكبير في الضغط على السياسيين لتلبية تطلعات الشعب من جهة وتوعية الشعب في حقوقهم وواجباتهم في هذا البلد من جهة أخرى ، إضافة الى دور مؤسسات المجتمع المدني التي تعتبر سلطة خامسة في تلك البلاد من تقويم الحكومة وإرشاد الناس الى ما ينفعهم ويخدمهم وتوعيتهم وتثقيفهم بالنظام السياسي وتطوير قابلياتهم الفكرية والثقافية التي تؤهلهم لاختيار الأصلح والأكفأ والأنزه من دون أن يخدعهم سياسي (حزب أو شخص) فيسرق أصواتهم .
كل ما تقدم هو من ركائز النظام الديمقراطي الناجح الذي ينتج حكومة أغلبية سياسية ناجحة نافعة للشعب وللوطن ، وهذه الديمقراطيات – العريقة – مرّت بظروف مشابهة لما بر به العراق حيث انتقلت من نظم شمولية متسلطة الى ديمقراطيات حرة فانتقلت تدريجياً الى أن وصلت الى ما وصلت عليه الآن ، وكل مفردة من المفردات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أساسية في إنجاح تشكيل حكومة الأغلبية السياسية في أي بلد ، وللأسف في العراق نجد أن 90% من هذه المفردات غير متحققة لذا فإن فرص نجاح تشكيل حكومة الأغلبية السياسية هو 10% ، لأن حكومة الأغلبية السياسية من دون مقومات نجاحها التي ذكرناها يجعلها حكومة تسلطية انفرادية دكتاتورية وهو ما حدث في عهد صدام حيث كانت حكومته أغلبية سياسية ولأنها بدون مقومات النجاح التي ذكرناها ، وبين هذه وتلك يمكن أن نرسم الخط البياني لنجاح تشكيل الحكومات طبقاً للأسس السياسية .
هذا طبعاً لا يعني أننا نؤيد حكومة المحاصصة التي حكمت العراق لأكثر من عقد من الزمان ولم يحصل العراقيون منها سوى الفساد والإرهاب والخراب والتناحر السياسي الذي ولّد تقاتلاً أهلياً وإن كان محدوداً ، إلا أن مشكلة حكومة المحاصصة – التي زوِّق اسمها لتصبح حكومة شراكة – ليس في أصل إدخال كافة الأطياف والألوان السياسية والمكونات في الحكومة وإلا فإن هذا الإجراء متوقع أن يحدث حتى في حكومة الأغلبية حتى ولو بشكل أضيق وهو ما ينادي به أنصار الأغلبية السياسية .
إن مشكلة المحاصصة هو أن كل كتلة لها مجموعة من المناصب من وزارات ومناصب سيادية أخرى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمناصب التي حصلت عليها باقي الكتل ضمن اتفاق سياسي بين روؤساء الكتل ، فلا يمكن أن نغير شخصاً لسبب معين – كالفساد أو سوء الإدارة أو دعمه للإرهاب أو غير ذلك – إلا بتغيير مجموعة من المناصب من باقي الكتل التي ربما يكون الأشخاص المسؤولون عليها نزيهين وكفوئين . فمثلاً لا يمكن أن يستبدل رئيس البرلمان إلا بتغيير رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وفي أحسن الأحوال الدخول في سجالات سياسية تطول وتعرض وتعرقل العملية السياسية والتشريعية والرقابية لتغيير أحدهما ، وهذا ما وجدناه عندما كان قرار استبدال محمود المشهداني الرئيس الأسبق للبرلمان العراقي ، وهذا ينطبق على الوزراء والمفتشين والدرجات الخاصة وغيرها مما أعطى مبرراً لرئيس الوزراء نوري المالكي لتعيين أشخاصاً – من طرفه والموالين له – في مناصب معينة بالوكالة .
فمن يسعى لتشكيل حكومة أغلبية سياسية عليه أن يسعى لتشكيل حكومة يتشارك فيها الجميع من دون إلزام رئيس الوزراء بأشخاص محددين قد يكونوا غير مؤهلين أو غير نزيهين أو غير كفوئين ، وهذه مرحلة وسطية بين حكومة المحاصصة وحكومة الأغلبية السياسية ، وهي مرحلة ليست بسهلة وربما أريد تطبيقها من حيث يعلمون أو لا يعلمون عندما كان الاعتراض على وزير الدفاع وهو من حصة القائمة العراقية بزعامة علاوي الى أن أدى الأمر الى تأخير اختيار وزير الداخلية المخصص للتحالف الوطني فبقي المنصبان شاغران الى نهاية الدورة البرلمانية الحالية ، وهذه المرحلة الانتقالية بين المحاصصة والأغلبية السياسية رغم صعوبتها إلا أنها مهما تكن فهي أسهل من تشكيل حكومة أغلبية سياسية شبه مستحيلة .
إن المطالبين بتشكيل حكومة أغلبية سياسية – وهم تحديداً ائتلاف دولة القانون – يعلمون أكثر من غيرهم أن تشكيل حكومة الأغلبية السياسية صعب جداً لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية ، فهم يراهنون على حصولهم على أصوات تؤهلهم لتشكيل تلك الحكومة وأن الآخرين سيضطرون للقبول بها لأنها ستكون دستورية ووفق السياقات السياسية ، إلا أن هذه المراهنة وهذا التصور بعيد جداً عن الواقع فحصول دولة القانون على أصوات تمنحهم صلاحية تشكيل حكومة أغلبية أمر في غاية الصعوبة ، فنحن نعلم أن عمليات (صولة الفرسان) التي اقتضم المالكي حصة الأسد من شعبيتها رغم حصولها على التأييد السياسي من قبل كافة الأطراف – وهذا السيناريو أراد أن يعيده في الأنبار في عملياته ضد داعش – ، ورغم هذا التأييد الشعبي الذي سبق انتخابات مجالس المحافظات 2009 والانتخابات التشريعية 2010 فإنه – أي المالكي – حصل على 89 مقعد فقط من أصل 325 مقعد في البرلمان (أي ربع المقاعد نقريباً) ، هذا في ظل قانون انتخابات كان يخدم الكتل الكبيرة وتمكنها من الاستحواذ على أصةات الكتل الصغيرة الخاسرة .
والآن وبعد انخفاض شعبية المالكي بسبب قيادته الفاشلة لكثير من الملفات وخصوصاً الأمنية والخدمية ، فعلى المستوى الأمني فيعد أن كان هو القائد العام للقوات المسلحة ووزير الداخلية ورئيس جهاز المخابرات إضافة الى كونه رئيساً للوزراء ومع هذا فقد دفع العراقيون خلال 2013 وحدها حوالي 8 آلاف ضحية فضلاً عن الجرحى والخسائر المادية وما زالت داعش تزهو في الأنبار عموماً والرمادي والفلوجة خصوصاً رغم مرور حوالي 100 يوم على بدء العلميات فيها ودفع الكثير من الشهداء ضباطاً ومراتب وكان أولهم الفريق محمد الكروي والتي سميت العمليات في الأنبار بإسمه (ثأر القائد محمد) .
ورغم حصول كتلته على مناصب 7 محافظين وعدد كبير من أعضاء مجالس الحافظات – يتجاوز ربع العدد الكلي لأعضاء مجالس المحافظات الوسطى والجنوبية – فإن المستوى الخدمي في أدناه مع تخصيصات مالية بلغت أوجها ، فالبصرة لوحدها  حصلت على حوالي 5 مليار دولار للأربع سنوات التي قادها خلف عبد الصمد القيادي في حزب الدعوة فضلاً عن رفع صلاحياته في توقيع على المشاريع الى صلاحيات وزير – أي قيمة المشروع الذي من صلاحيته توقيعه هو 500 مليون دينار – ومع هذا نجد أن الوضع الخدمي والمشاريع المنجزة لا تتعدى سوى 5 جسور بحيث إذا شطبناها ترجع البصرة الى عهد 2009 التي كانت الأموال المخصصة لها طيلة الأربع سنوات التي سبقتها لم تتجاوز المليار دولار فإذا أخذنا نسبة التهالك طيلة الخمس السنوات الماضية (2009 – 2014) لوصلنا الى نتيجة مأساوية .
هذا الفشل في أهم مجالين متعلقين بحياة المواطن العراقي جعل شعبيته في تراجع كبير وهو ما لمسناه في انتخابات مجالس المحافظات السابقة عام 2013 ، أما إذا أخذنا تغيير قانون الانتخابات بنظر الاعتبار وإنصاف بعض الكتل الصغيرة وإرجاع حقها من الكتل الكبيرة فإن ما حصلت عليه دولة القانون في انتخابات 2010 من غير الممكن أن تصل إليه إلا بطرق غير شرعية ، وحتى وإن افترضنا حصولها على نفس عدد المقاعد فإن تشكيل حكومة أغلبية سياسية بعدد مقاعد لا يصل الى الثلث ضرب من الخيال ، خاصة إذا نظرنا للمشهد السياسي ككل والخلافات السياسية مع دولة القانون من قبل كل من الأكراد ومتحدون (النجيفي) والقائمة الوطنية (علاوي) والمواطن وتيار الأحرار فإن موقف المالكي لا يحسد عليه .
وفي تشكيل الحكومة بعد انتخابات 2010 لم يؤيد حكومته سوى أطراف التحالف الوطني فكاد المالكي أن يفشل لولا عدول السيد مقتدى الصدر – بضغط من إيران – الى دعم حكومته مما أجبر باقي الكتل الى القبول لتشكيل الحكومة على مضض ، فإذا نقلنا هذا المشهد وتلك الظروف الى تشكيل الحكومة المقبلة لوجدنا استحالة تشكيل حكومة برئاسة المالكي فضلاً عن أن تكون حكومة أغلبية سياسية .
وقيادات دولة القانون تعلم جيداً بهذا المستقبل غير السعيد بدليل أنها دخلت بعدة قوائم (مثل قائمة النهضة الشاملة بقيادة علي الأديب رئيس قائمة ائتلاف دولة القانون في كربلاء ) عسى أن تلم من فقد الثقة بدولة القانون وزعيمها ، وهذه الخطوة تؤيد دور قانون الانتخابات في إضعاف الكتل الكبيرة لصالح الصغيرة ، فلو كان القانون نفسه في انتخابات 2010 لكان الدخول بأكثر من قائمة تشتيتاً للأصوات .
وعلم القيادات بهذا السيناريو المؤلم جعلها توجه الرأي العام – كنوع من الضغط النفسي والإعلامي لمؤيديه ومعارضيه على حد سواء – الى أن المالكي زادت شعبيته بحيث تمكنه من تشكيل حكومة أغلبية سياسية ، وعندما تظهر النتائج – التي نأمل أن لا تتدخل فيها الأيادي الآثمة – وتبين خسارة المالكي لعدد كبير من المقاعد تبدأ الاعتراضات والتشكيكات التي تخلق جواً عاماً بأن المالكي قد ظُلِم فيصبح هرج ومرج عسى أن يتصدقوا عليه  بمنصب يحفظ كرامته كما تصدقوا على علاوي بمنصب رئيس مجلس السياسات الإستراتيجية  .
لذا فالولاية الثالثة – فضلاً عن تشكيل الحكومة ذات الأغلبية السياسية – أضغاث أحلام وأريد منها تشويش الرأي العام وكسب أكبر عدد من المؤيدين والناخبين مدعومة بتمليك الأراضي توزيع شقق وعلب راني وبيبسي وتسليط إعلام شبكة الإعلام العراقي التي كرّست كل قواها لتأييد المالكي طيلة الثمان سنوات الماضية والتي تريد أن تكمل جميلها لراعيها وداعمها السيد نوري المالكي .
وهنا أتساءل إذا لم يفز المالكي برئاسة الوزراء وأراد باقي الكتل تشكيل حكومة أغلبية سياسية وقد يضطروا – بحسب قواعد الأغلبية السياسية – أن لا يشركوا دولة القانون وعلى رأسها المالكي في تشكيل الحكومة فهل سيقبل المالكي بهذا القرار ويستلم دور قيادة المعارضة لزرع هذه الثقافة في روح النخب السياسية وحتى يثبت للجميع إنما أراد الأغلبية السياسية هو لخدمة هذا البلد وشعبه الكريم وليس لمصالح حزبية وشخصية ، أم أنه سينضم الى أياد علاوي ويترك البلاد وتوجيه الخطابات وعدم حضور جلسات مجلس النواب إلا في الجلسات المثيرة للنزاعات الطائفية والسياسية ؟
هذا ما سنراه في الحلقة القادمة

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M