تعدُّد مسارات التسوية الليبية: المبادرات الراهنة والسيناريوهات المحتملة

  • مع مراوحة مبادرة المبعوث الأممي عبدالله باتيلي مكانها، تظهر مسارات أخرى للتسوية في ليبيا، مثل مسار المصالحة الوطنية، ومسار الحوار الوطني تحت مظلة الشرعية الملكية.
  • يثير تعدُّد مسارات حل الأزمة الليبية تساؤلاً بشأن مدى تكامل أو تعارض أي من المسارات الموازية مع المسار الرئيس الذي تقوده البعثة الأممية، لاسيما مع استمرار مؤشرات تعثُّر هذا المسار.
  • يتوقَّع استمرار الهيمنة الأممية على عملية التسوية، وانخفاض مستوى المكاسب المتحققة من مسار المصالحة الوطنية، رغم عدم تعارضه بشكل كامل مع المسار الأممي؛ ويظل مسار الشرعية الملكية هو الرهان المثير للتساؤل، في ضوء ما يحمله من اعتبارات مواتية لاستمرار التوازنات الراهنة.

 

  مع دخول عام 2024، يبدو المشهد الليبي مكتظاً بالعديد من التحركات التي توحي بعضها بإمكانية تجاوز الأفكار التقليدية السائدة بشأن تسوية الصراع الممتد منذ زهاء العقد؛ فبخلاف إبقاء مبادرة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، على الطاولة، على رغم تراجُع زخم الحديث عنها، يَبرُز مساران آخران للتحرك: أولهما، يتعلق بتسريع الخطوات الخاصة بملف المصالحة الوطنية، الذي يعد المظلة الرئيسة لإعادة إدماج أنصار نظام القذافي في العملية السياسية؛ ويرتبط المسار الثاني بالتحركات الكثيفة لولي العهد الأمير محمد الحسن الرضا السنوسي، الذي تكثَّفت لقاءاته داخل ليبيا خلال الشهور الأخيرة من العام المنقضي والأسابيع الأولى من العام الجديد، مع وجود تقارير صحفية تتحدث عن مبادرة يجري التحضير لها، هي السبب في التحركات الكثيفة للسنوسي. وبخلاف هذين المسارين للتحرك، ثمة محاولات تقليدية أخرى لمزاحمة المبادرة الأممية، تتمثل في تحركات مجلسيّ النواب والدولة لتوجيه أجندة التسوية نحو قضايا خلافية مزمنة، من نوعية التوافق حول شاغلي المناصب السيادية، وتشكيل حكومة جديدة عبر التوافق بين مجلسيّ النواب والدولة.

 

ومن حيث المبدأ العام، عادةً ما يُنظَر إلى تعدُّد المسارات بوصفه أداةً للتعطيل وخلط الأوراق، أو أنها تعكس تضارباً في التصورات بشأن التسوية بين الفاعلين الخارجيين في الصراع؛ والعكس في حالة تنحية مختلف المبادرات جانباً، والتركيز على الدور الأممي فقط، بوصفه مؤشراً على رغبة دولية في التسوية، أو على الأقل التهدئة وتجميد الصراع.

 

تسعى هذه الورقة إلى رصد تلك المسارات وتحليلها، وتقييم مدى وجود تجانس أو تعارض مختلف التحركات الراهنة والمخرجات المستهدفة من ورائها، ومِن ثمَّ الآفاق التي قد يحملها الإبقاء على هذه المسارات بشكلٍ متوازٍ.

 

مسار المصالحة الوطنية

على الرغم من تشعُّب ملف المصالحة الوطنية في ليبيا وشموليته، فإنَّ القضية الرئيسة التي تهيمن على النقاشات الخاصة بهذا المسار هي إدماج أنصار النظام السابق، بقيادة سيف الإسلام القذافي، في العملية السياسية. ويمتلك هذا التيار ثقلاً نسبياً لا يمكن تجاهل أهميته، وذلك في ضوء الانتشار الجغرافي الواسع في مختلف مناطق ليبيا، لاسيما مع وجود معاقل رئيسة له، مثل بني وليد وورشفانة وترهونة وسرت ومزدة وراقدالين والجميل والأصابعة وغيرها. وعلى الرغم من تهميش هذا التيار بالكامل ضمن العملية السياسية، وتشتته تنظيمياً منذ الإطاحة بالقذافي، إلا أن الظهور المتكرر لسيف الإسلام في السنوات الأخيرة، وترشحه للانتخابات الرئاسية (التي لم تُجْرَ) نهاية 2021، مثَّل تطوراً جوهرياً في طريق توفير قيادة رمزية قادرة على تعبئة هذا التيار وتوجيهه، لاسيما في المحطات الانتخابية المهمة. وبالتبعية، فإن تحويل الطبيعة السائلة لهذا التيار إلى كتلة تصويتية شبه موحدة، من شأنه التأثير (إيجاباً أو سلباً) على شرعية أو مسار أي انتخابات قد تُنظَّم مستقبلاً بوصفها إحدى مخرجات عملية التسوية.

 

أما على صعيد التحالفات السياسية، فإنها تبدو نقطة الضعف الأبرز لأنصار القذافي، في ضوء فقر هذه التحالفات، وتركزها بشكل أساسي على العلاقات مع روسيا، مع وجود حليف آخر لموسكو، وهو المشير خليفة حفتر، الذي يظل مُمسِكاً بمختلف خيوط السلطة في المنطقة الشرقية، وبدرجة أقل المنطقة الجنوبية، مما يُقلل حتى الآن من رهان موسكو على إعطاء الأولوية لأنصار القذافي خلال المرحلة الحالية على حساب حفتر.

 

عند النظر إلى مسار المصالحة الوطنية، يمكن رصد العديد من التطورات التي حصلت في هذا المسار خلال الفترة الأخيرة، وذلك على النحو الآتي:

 

  • يتمثل النشاط الرئيس الخاص بهذا المسار في المؤتمرات التحضيرية التي انعقدت على مدار ستة أشهر، توطئة لعقد مؤتمر جامع في سِرت  في أبريل 2024. وكان المؤتمر التحضيري الأول قد عُقد في يوليو 2023 بالعاصمة الكونغولية برازافيل، بينما انعقد المؤتمر التحضيري الرابع في منتصف يناير 2024، في مدينة زوارة أقصى الشمال الغربي. ومن المزمع أن تحتضن الكونغو في فبراير الجاري نسخة جديدة من المؤتمرات التحضيرية.
  • مع أن أنصار القذافي هُم المستهدف الرئيس بهذا المسار، إلا أن الفريق الممثل لسيف الإسلام في مؤتمر سبها، الذي انعقد منتصف ديسمبر الماضي، أعلن انسحابه من المشاركة في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الجامع، بسبب ما وصفه بعدم جدية المجلس الرئاسي في تحقيق المصالحة الوطنية، على خلفية عدم حدوث أي تقدُّم في ملف معتقلي نظام القذافي.
  • مع استمرار الزخم الخاص بالمصالحة، على وقع انتظام عقد مؤتمرات تحضيرية بوتيرة شهرية في الآونة الأخيرة، ناقش مجلس النواب في 8 يناير قانون المصالحة الوطنية، وأحاله إلى لجنة العدل والمصالحة الوطنية بالمجلس لدراسته، في محاولة من قبل البرلمان، على ما يبدو، لفرض سيطرته القانونية على هذ المسار. وعلى صعيد آخر، يبرز موقف رئيس حكومة طرابلس عبد الحميد الدبيبة، الذي لديه مصلحة أصيلة في تعطيل أية مسارات قد تُهدِّد بقاءه في السلطة؛ إذ أعلن الدبيبة، خلال لقائه بمخاتير المحلات منتصف يناير، رفضه مشاركة الاتحاد الأفريقي في تحقيق المصالحة، مُشدداً على ضرورة أن تكون المصالحة عبر أدوار مخاتير المحلات، من دون تدخل أي أطراف خارجية. والجدير بالذكر هنا، أنَّهُ لا توجد أدوار دولية متداخلة بشكل معلن مع ملف المصالحة، باستثناء الاتحاد الأفريقي، ممثلاً في قيادة الرئيس الكونغولي دينيس ساسو نجيسو، رئيس اللجنة رفيعة المستوى المنبثقة عن الاتحاد. وتجري الرعاية الأفريقية لمسار المصالحة، بالمشاركة مع المجلس الرئاسي، وبتخويلٍ من مجلس الأمن الدولي.

 

بهذا، يبدو أن مسار المصالحة الوطنية في ليبيا، من الناحية النظرية، لا يمتلك استقلالية خاصة بمعزل عن المسار الأممي؛ بل يمكن اعتباره مساراً جانبياً للتسوية، إذ من المُتعيَّن ألا تبتعد النتائج النهائية لمسار المصالحة عن الترتيبات النهائية للتسوية، وذلك في ضوء تداخل تلك النتائج المرتقبة مع المسار الانتخابي تحديداً (والذي يمثل المحور الرئيس للجهود الأممية لإنجاز التسوية)، لاسيما مع تقدم سيف الإسلام سابقاً بأوراقه للمشاركة في الانتخابات الرئاسية، التي كان من المزمع إجراؤها نهاية 2021.

 

ومن الناحية العملية، ثمة تمايُز للديناميات الخاصة بالمصالحة الوطنية عن تلك المرتبطة بالمسار الرئيس للتسوية، الذي ينصب حالياً على تهيئة الأوضاع التشريعية والسياسية لإجراء الانتخابات، حيث يعد المعسكران المسيطران على السلطة في شرق البلاد وغربها، الطرفان الرئيسان في تفاعلات هذا المسار.

 

على هذا النحو يُمكن اعتبار مسار المصالحة الوطنية أحد المسارات المستقلة على مستوى الديناميات، لكنه يتكامل على مستوى النتائج مع المسار الرئيس للتسوية الذي يقوده المبعوث الأممي عبد الله باتيلي. وفي هذا الإطار، يُلاحَظ أنّ الرغبة في تعطيل التسوية وإجهاضه، تدفع بعض الأطراف نحو خلق مسارات موازية لمسار المصالحة نفسه، وفق ما يقترح الدبيبة في لقائه مع مخاتير المحلات الليبية. ومن الواضح أن مقترح الدبيبة لا يمثل بديلاً عملياً قابلاً للتطبيق، بقدر ما يمثل محاولة للتشويش على مسار المصالحة القائم، وذريعة للتنصل من أي التزامات قد يتمخض عنها.

 

على صعيد آخر، لا يمكن النظر إلى موقف فريق سيف الإسلام بوصفه موقفاً مناوئاً لاستمرار المسار، وهو الوحيد الذي يشارك فيه أنصار هذا التيار بشكل رسمي ضمن مختلف المسارات الفرعية المدعومة من الأمم المتحدة؛ وعلى الأغلب لا يخرج هذا السلوك التصعيدي عن كونه أداة للضغط على الأطراف المعنية برعاية المصالحة، مثل البعثة الأممية والمجلس الرئاسي والاتحاد الأفريقي، لاسيما أن استمرار مقاطعة أنصار القذافي لأعمال عملية المصالحة ستُفرِّغ هذا المسار بأكمله من أي جدوى لاستمراره.

 

تحرُّكات ولي العهد

شهدت الشهور القليلة الماضية، وفق ما يظهر على الحساب الرسمي للأمير السنوسي في منصة “إكس”،  تحركات كثيفة في اتجاه الترويج لعودة النظام الملكي، بوصفها مخرجاً للأزمة السياسية في ليبيا، حيث أجرى السنوسي عدداً من المقابلات مع عدد من أعيان ووجهاء ومثقفين ممثلين لمناطق ومدن ليبية مختلفة، مثل بنغازي والبيضاء ودرنة ومصراتة وطرابلس وزليطن وبني وليد والزاوية وغريان وتاجوراء والمنطقة الجنوبية، فضلاً عن لقاء أعضاء من المجلس الأعلى للدولة، وبعض القيادات النقابية. وفي 26 يناير، بدأ السنوسي ما أسماه الجولة الرابعة من المشاورات المجتمعية، بلقاءات مع قيادات اجتماعية ونخب أكاديمية من المنطقة الغربية، ثم لقاء وفد مُمثلٍ للمكوّن الأمازيغي. واللافت هنا الشمول الجغرافي والتنوع الكبير للقاءات السنوسي[1]، فضلاً عن كثافة هذه اللقاءات التي جرت في الفترة بين أكتوبر 2023 ويناير 2024، في شكلٍ يوحي بوجود “مشروع سياسي ما” يجري التحضير له بجدية. ويركز الخطاب الاعلامي للسنوسي على أن تحركاته تأتي في إطار العمل على عودة الشرعية الدستورية الملكية[2]؛ إذ قد يسعى السنوسي إلى طرح نفسه “قيادة رمزية” للبلاد، يمكن من خلالها تجاوز إشكالية الصراع على رأس الدولة. ومن ثمّ، يُمثِّل هذا المسار شرعنة للتوازنات الداخلية بين شرق البلاد وغربها، وذلك في ضوء ما قد يَعِدْ به من محدودية سلطات الملك، بشكل قد لا يبتعد كثيراً عن صورية صلاحيات المجلس الرئاسي الحالي.

 

ويرتبط الثقل الذي قد يمثله هذا المسار بالمشروع السياسي وليس بوجود نفوذ سياسي أو تنظيمي للأسرة الملكية نفسها، والتي فُكِّكَ نفوذها تماماً منذ بداية حكم القذافي. فالمشروع السياسي يمتلك، نظرياً، عناصر قوة لا يمكن تجاهلها؛ ويأتي في مقدمتها الناحية الرمزية والتاريخية المرتبطة بتأسيس دولة الاستقلال، وهي شبيهة بالمعضلة التي تواجهها ليبيا خلال عملية إعادة بناء الدولة حالياً. وعملياً، يمثل دستور الاستقلال 1951 أحد المخارج الجادة المطروحة دائماً لمعضلة الدولة الليبية، باعتبارهِ الأقرب للطبيعة الجيوسياسية القائمة حالياً ذات النزوع الفيدرالي.

 

كثَّف الأمير محمد السنوسي، مؤخراً، مساعيه لطرح نفسه “قيادة رمزية” لليبيا، بإمكانها تجاوز إشكالية الصراع على رأس الدولة (منصة إكس)

 

ومن الناحية الاجتماعية، كانت قبائل إقليم برقة هي القاعدة الداعمة تاريخياً للحكم الملكي، دون تجاهُل ارتباط الأسرة الملكية بالحركة السنوسية المتغلغلة دينياً في المجتمع الليبي، وهو ما يمكن توظيفه والبناء عليه دعائياً في مرحلة متقدمة من الترويج لهذا المشروع. وقد ظهرت حراكات عدة خلال السنوات الماضية تنادي بعودة الملكية وتفعيل دستور الاستقلال، مما يعكس وجود أساس مادي واجتماعي قابل للتطور بشأن هذا المسار.

 

إن تفعيل قوة هذا المشروع يتوقف على الالتقاء بين الكتلة الاجتماعية والسياسية “شبه السائلة” الداعمة له، وبين القيادة الرمزية ممثلة في ولي العهد، الذي لا تبدو تحركاته مرتبطة بأي تنسيق مع الحراكات التي ظهرت خلال السنوات الماضية في ليبيا؛ وأخيراً وجود رهان قوي عليه من قبل أحد اللاعبين الخارجيين.

 

وفيما يتعلق بالأطراف الداعمة لتحركات السنوسي، لا يوجد رسمياً حتى الآن أية مواقف معلنة، غير أن صحيفة “ليبيا برس” الإلكترونية تروّج لمسألة أن استعادة الملكية هو مقترح أردني يلقى دعماً من كل من قطر وبريطانيا[3]؛ وأن الدبيبة أحد أبرز الداعمين لهذا المقترح داخلياً، مقابل استمراره في رئاسة الحكومة.

 

من ناحية أخرى، من اللافت للنظر سهولة عقد السنوسي اللقاءات، التي جرت غالباً في مدن شرق ليبيا، من دون التعرُّض لأي تضييقات من قبل السلطات الموالية لحفتر، وهو أمر غير معهود، قياساً بسلوكها في التضييق الشديد على أي تحركات داعمة لمشروعات سياسية منافسة داخل المناطق الخاضعة لسيطرتها. وفي حال صَحَّت المعلومات التي تزعم إجراء السنوسي هذه اللقاءات في شرق ليبيا، فإن ثمة عاملين محتملين وراء سماح حفتر بها: الأول، وجود حماية خارجية لتحركات ولي العهد، بشكل يجعل المساس به خياراً شديد الصعوبة بالنسبة لحفتر؛ والثاني، أن يكون حفتر جزءاً من صفقة أوسع ترتبط بتحركات السنوسي، بحيث تؤمَّن سيطرة حفتر على الشرق الليبي في حال مُرِّرَ مشروع عودة الملكية؛ والثالث، حدوث تحوّل يتعلق بأولويات المشير، مع تقدُّمه في العمر، وبروز إشكالية خلافته في حالة الوفاة أو المرض الشديد[4]، ما قد يجعله حريصاً على ترتيب ضمانات تكفل الحفاظ على نفوذ أبنائه في شرق البلاد وجنوبها، في ضوء تراجع فرص إحكام السيطرة السياسية أو العسكرية على كامل ليبيا، وفق ما تفرضه التوازنات الدولية القائمة.

 

وفيما يتعلق بمدى تداخل أو تعارض حراك ولي العهد مع المسار الرئيس للتسوية برعاية الأمم المتحدة، يُلاحَظ أن هذا المسار يُشار إليه من قبل السنوسي باعتباره “حواراً وطنياً”، يجري “تحت مظلة الشرعية الملكية”. كما أن السنوسي لا يشير، لا سلباً ولا إيجاباً، إلى جهود البعثة الأممية في رعاية عملية التسوية. ويبدو حراك السنوسي، من ناحية أخرى، مساراً “غير انتخابي” في جوهره، إذ يطرح حلاً شاملاً لمعضلة التسوية من دون المرور ببوابة الانتخابات، ما يجعله يسير في اتجاه معاكس للفلسفة الحاكمة للطرح الأممي، سواء في نسخته الحالية الممثلة في رؤية باتيلي، أو حتى الرؤى المتعددة للمبعوثين السابقين، والتي كانت الانتخابات تمثل الركن الرئيس لها.

 

ومن المرجح أن يلتقي هذا المشروع، من زاوية ما، مع مصالح بعض الأطراف المسيطرة على مقاليد السلطة في شرق البلاد وغربها، حيث يحمل استعادة الشرعية الملكية فرصة لهذه الأطراف للحفاظ على التوازنات القائمة، ما يجعل هذا المسار، على عكس جذريته الظاهرة، مجرد إعادة إنتاج للوضع الراهن، مع تجميد الصراع المزمن على رأس السلطة، بوجود قيادة رمزية متجاوزة للانقسامات التي شهدتها البلاد منذ 2011.

 

مستجدات مبادرة باتيلي

بعد أسابيع من تراجُع الزخم، عادت التحركات المكثفة مرة أخرى لإحياء مبادرة باتيلي. وتمثلت أبرز هذه التحركات، في اللقاءات التي عقدها، خلال الأسبوع الثالث من شهر يناير، كلٌّ من المبعوث الأمريكي ريتشارد نورلاند، والقائم بأعمال السفير الأمريكي في ليبيا جيريمي برنت، ونائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوشوا هاريس، حيث عقد ثلاثتهم لقاءات مع كلٍّ من المشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس حكومة طرابلس عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس مجلس الدولة محمد تكالة، والمبعوث الأممي عبد الله باتيلي، والسفير المصري في طرابلس تامر مصطفى؛ وهدفت مختلف تلك اللقاءات، وفق ما تنشره السفارة الأمريكية على منصة “إكس”، إلى حثّ الأطراف الليبية على التجاوب البنّاء مع مبادرة باتيلي. كما أعاد باتيلي تنشيط لقاءاته مع الأطراف الليبية خلال نفس الفترة لإعادة الزخم وحشد الدعم لمبادرته، بعد أسابيع من الهدوء وتراجع التفاعلات بشأنها. ومن أكثر تحركات باتيلي إثارة للانتباه هنا، اللقاء المفاجئ الذي عقده بتاريخ 28 يناير مع أكثر من 20 من قادة ميليشيات طرابلس، والذين طالبوا، وفق صحيفة المرصد الإلكترونية، بوجود ممثل عنهم ضمن الاجتماع المزمع لقادة الأطراف المؤسسية (الاجتماع الخماسي)، أو استبعاد تمثيل القيادة العامة في هذا الاجتماع[5].

 

في المقابل، استمرت مناورات مجلسيّ النواب والدولة ومساعيهما لإعادة توجيه أجندة التسوية نحو الملفات التقليدية التي تعزز من أدوار المجلسين، وتُعرقِل من العمل وفق مبادرة باتيلي. ففي 27 ديسمبر أعاد مجلس الدولة تنشيط الحديث عن المناصب السيادية، من خلال اجتماع تكالة مع اللجنة المعنية بالملف داخل المجلس، وإرساله إلى مجلس النواب قائمة مرشحي مجلس الدولة لتلك المناصب. وفي 8 يناير خاطب تكالة صالح، في مراسلة رسمية، معلناً رفض مجلس الدولة لكل ما يصدر عن البرلمان من تشريعات، نظراً للتصرفات الفردية الساعية لتكريس سطوة البرلمان على الشأن العام. وعلى صعيد آخر، يأتي موقف صالح عقب لقائه، في 23 يناير، بالوفد الأمريكي برئاسة نورلاند، حيث أكد أن “أي محاولات لفتح حوارات جديدة أو اتفاقات جديدة ستُعيدنا للمربع الأول”، فيما يمكن عدَّهُ رفضاً ضمنياً لمبادرة باتيلي.

 

وبالتزامن مع جولة الوفد الأمريكي أيضاً، جدد الدبيبة موقفه المناوئ لتوجه البعثة الأممية لإجراء الحوار الخماسي تحت مظلة الاعتراف بالقوانين الانتخابية الصادرة عن مجلس النواب، إذ شدد على ضرورة إيجاد قوانين انتخابية عادلة لا تستثني أحداً. وأخيراً، أتى بيان القيادة العامة عقب لقاء نفس الوفد، بأن على البعثة الأممية بذل المزيد من الجهود المتوازنة والفعالة لتحقيق تطلعات الشعب الليبي.

 

تشير كل هذه المواقف والتطورات إلى استمرار الجمود في مواقف مختلف الأطراف بشأن مبادرة باتيلي، إذ تُصِر الولايات المتحدة على استمرار العمل وفق تلك الأجندة، مقابل تمسُّك مختلف الأطراف الرسميين للصراع الليبي بموقفهم المتصلب إزاء المبادرة. واللافت هنا، عدم ظهور مواقف معلنة من قبل الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع، التي قد لا تكون راغبة في الصدام مع واشنطن، وتعمل (أي تلك الأطراف) على تصدير شركائها الليبيين للاضطلاع بمهمة إفشال المبادرة.

 

لكن الإصرار الأمريكي، وما يقابله من تصلب المواقف الليبية، سيدفع على الأغلب إلى استغراق المزيد من الوقت لبدء مجريات المبادرة، ممثلة في عقد اجتماع تحضيري لممثلي الأطراف المؤسسية الخمسة، ثم عقد الاجتماع الخماسي نفسه (وكل اجتماع منهم قد يمتد لعدة جولات)، بما سيتيح المجال على الأغلب، في ظل التعثُّر المخيم على مجريات المسار، للمسارات المنافسة، لاسيما المرتبطة بولي العهد، لبذل مزيد من المحاولات لاستكشاف الآفاق المحتملة لنجاح هذا المشروع، أو على الأقل حدود التجاوب معه من قبل القوى المجتمعية الليبية.

 

السيناريوهات المحتملة

في إطار التنافس بين المسارات الثلاثة المشار إليها لحل الأزمة الليبية، بالإمكان طرح ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل هذه المسارات.

 

السيناريو الأول: استكمال مبادرة باتيلي. يفترض هذا السيناريو الإبقاء على مبادرة المبعوث الأممي إطاراً وحيداً للحل، مع تباطؤ العمل على سيناريو المصالحة، وتهميش أية مبادرات مرتبطة باستعادة الشرعية الملكية. ويستمد هذا السيناريو قوته من أن مبادرة باتيلي تعد الأكثر تشابكاً مع الإشكالات الحقيقية للانقسام القائم في ليبيا، مقارنة بالمسار الخاص بالمصالحة، والذي، على رغم أهميته، تقتصر أبرز أهدافه على إدماج أنصار القذافي في العملية السياسية، من دون وجود أفق لإنهاء الانقسام المؤسسي بين الشرق والغرب. كما أن تحركات ولي العهد لا تحمل أفقاً لإنهاء الانقسام، بقدر ما توفر إطاراً شرعياً لإنهاء الصراع على رأس السلطة من دون إحداث تغيرات حقيقية في التوازنات على الأرض.

 

وتتعزز حظوظ هذا السيناريو في ضوء الإصرار الأمريكي على استكمال مبادرة المبعوث الأممي، ووجود نشاط دبلوماسي قوي في هذا الخصوص، ما يجعله المسار الأوفر حظاً في استكمال فعالياته، بغض النظر عن تواضع حظوظه في التوصل إلى مخرجات قادرة على تقديم حلول ناجعة لمعضلات عملية التسوية. ولعل المتغير الحاسم الذي سيؤثر في مصير المبادرة هو مداولات الغُرف المغلقة بين المصالح الأمريكية والروسية في ليبيا، ضمن الإطار الأوسع للمساومات الدائرة بين واشنطن وموسكو على الساحة الدولية. وعلى رغم التعارُض البديهي بين مصالح الطرفين، إلا أن استمرار المؤشرات بشأن رغبة موسكو في تطوير وجودها العسكري الرسمي في ليبيا، وربما تأسيس قاعدة عسكرية هناك، من دون اتخاذ موقف أمريكي حاسم حتى الآن، وبقاء التحركات الأمريكية عند مستوى دبلوماسي متوسط وتقليدي، ربما يعكس وجود “تفاهمات ما” بين الطرفين، وهو الأمر الذي -في حالة حدوثه- سيؤدي تلقائياً إلى تمهيد البيئة السياسية لإنجاح المسار الأممي للتسوية.

 

السيناريو الثاني: التركيز على مسار المصالحة. يفترض هذا السيناريو تعويض فشل مبادرة باتيلي في إقناع أطراف الصراع الرئيسة بالتوافق، من خلال التركيز على تحقيق تقدم على صعيد المصالحة الوطنية، وفقاً لمنطق ضرورة ترميم الانقسامات الاجتماعية، وإدماج الأطراف المستبعدة من العملية السياسية، باعتبار ذلك مدخلاً لتحقيق تسوية حقيقية ومستدامة.

 

ويتسق هذا السيناريو مع منطق التعامل الأممي والغربي مع القوى الاجتماعية باعتبارها عامل ضغط على الأطراف الليبية الأساسية. ولمزيد من التوضيح، فقد جرت العادة لدى بعض المبعوثين الأمميين على الالتفات إلى أهمية القوى الاجتماعية (أصحاب المصلحة)، وإدماجهم وفق مسار تشاوري، كما في مبادرة باتيلي نفسها، والتعامل مع مشاركة ممثلين عن مكونات المجتمع باعتبارها بديلاً محتملاً، أو مسار موازٍ، لمسار الحوار بين القادة السياسيين، لاسيما في حالة تعنّت هؤلاء القادة في التجاوب مع المساعي الدولية للتسوية. وتأتي هنا أهمية مسار المصالحة، لاسيما في حالة إخفاق باتيلي في إقناع القادة الليبيين بالعمل وفق مبادرته.

 

السيناريو الثالث: تعميق مبادرة ولي العهد. وفق هذا السيناريو، تكتسب تحركات ولي العهد دفعة إضافية، مع تحويلها إلى مبادرة مكتملة الأركان، ومدعومة من أطراف خارجية، مع تقبلها من واحد أو أكثر من الأطراف الرئيسة في الصراع شرق البلاد وغربها. ويكتسب مشروع الملكية قوته من إخفاق المسار الرئيس للتسوية، ومما يمثله المشروع الملكي من تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار، بالحفاظ على التوازنات القائمة.

 

ومن المحتمل أن يُمثِّل المسار التشاوري لمبادرة باتيلي مُختبراً إضافياً لممكنات التجاوب مع المشروع الملكي، في ضوء ما ستكشف عنه من مواقف حقيقية تجاه مختلف المشاريع السياسية المطروحة، وطبيعة الحلول التي سيُدفَع بها في تلك الجلسات.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/taaddud-masarat-altaswia-alliybia-almubadarat-alrahina-walsiynaryuhat-almuhtamala

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M