حدود الدور.. هل تنجح الوساطة الفرنسية في خفض التصعيد الروسي-الأوكراني؟

آية عبد العزيز

 

سعى الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” منذ توليه السلطة في مايو 2017، إلى تعزيز دور بلاده في العديد من الأزمات والصراعات الدولية والإقليمية، من خلال لعب دور الوساطة بين الأطراف المتصارعة، وذلك بما يتوافق مع المصالح الفرنسية والأوروبية، وهو ما تجلّى في التصعيد الأخير بين روسيا وأوكرانيا بعد ثماني سنوات من ضم شبه جزيرة القرم، الذي تنامى منذ منتصف ديسمبر عام 2021 وحتى الآن، عبر حشد روسيا أكثر من 100 ألف جندي مزودين بالأسلحة على الحدود مع أوكرانيا. الأمر الذي أثار حالة من التوتر بين روسيا والقوى الغربية نتيجة التخوف من احتمالات غزو موسكو لكييف. وهو ما فرض على القوى الأوروبية وفي مقدمتهم فرنسا –رئيسة مجلس الاتحاد الأوروبي حاليًا- اتخاذ موقف موحد رادع ضد التحركات الروسية لما لها من تداعيات على الأمن الأوروبي. فوفقًا لتقديرات الاستخبارات الأمريكية، قام الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بحشد ما يقرب من 70 % من القوات العسكرية والأسلحة اللازمة لغزو أوكرانيا، وبالرغم من ذلك لا يعرفون ما إذا كانت روسيا قد قررت الهجوم أما لا. في المقابل، ينفي الكرملين هذه الفكرة، ولكنه يطالب بعدد من الضمانات الأمنية والقانونية المُلزمة، لأن استمرار دعم حلف شمال الأطلسي “الناتو” لدول الجوار الروسي يُمثل تهديدًا لها.

وعليه، قام الرئيس الفرنسي بإجراء جولة سريعة شملت زيارة روسيا يوم الاثنين الموافق السابع من فبراير 2022، ثم أوكرانيا في اليوم التالي، وبعدها توجه في اليوم نفسه إلى ألمانيا لعقد اجتماع مع المستشار الألماني “أولاف شولتز”، والرئيس البولندي “أندريه دودا” وذلك في سياق اجتماعات “مثلث فايمار” الذي يهدف إلى تعزيز التعاون والتنسيق الأوروبي. ويُذكر أن آخر قمة كانت بين قادة الدول الثلاث منذ أكثر من 10 سنوات، وهو ما يعني أن الأوضاع الحالية بين روسيا وأوكرانيا قد أحيت هذا المحور مرة ثانية، خاصة أن بولندا لديها العديد من المخاوف الأمنية من قبل روسيا وسياساتها في منطقة أوروبا الشرقية، وهو ما قد يكون السبب في حضور الاجتماع، خاصة أن جولة الرئيس “ماكرون” قد تزامنت مع زيارة المستشار الألماني “شولتز” للولايات المتحدة، واستعداده الأسبوع المُقبل لزيارة كييف وموسكو رغبةً في التوصل إلى تسوية يتم من خلالها خفض التصعيد، وتجنب سيناريو الحرب.

ومن الجدير بالذكر، أن الدور الفرنسي في هذه الأزمة ليس وليد اللحظة، فقد عملت باريس بجانب برلين مع طرفي الصراع لتهدئة الأوضاع خاصة بعد ضم شبة جزيرة القرم، تحت ما يعرف باسم “صيغة النورماندي” التي تهدف إلى إبرام اتفاق سلام لإنهاء الصراع في منطقة “دونباس”، وقد عقد أول اجتماع غير رسمي لها في يونيو 2014. وفي ظل الأزمة الحالية تم عقد اجتماع بين ممثلي الدول الأربع في باريس في يناير 2022، بجانب إجراء الرئيس “ماكرون” عدداً من المحادثات الهاتفية مع طرفي التصعيد للتأكيد على أهمية التوصل لتسوية سلمية تُنهي حالة التصعيد القائمة بين الطرفين.

محاولة للتهدئة

جاءت جولة الرئيس “ماكرون” لبحث سبل التهدئة بين الجانبين بعد فشل عدد من المحادثات التي تمت في الآونة الأخيرة بين روسيا والولايات المتحدة والناتو، كما أنه يُعد أول رئيس أوروبي يزور موسكو في محاولة لتهدئة الأوضاع من خلال طرح عدد من المقترحات التي تُمثل ركيزة لعودة الحوار مرة ثانية بدلًا من المواجهة تتجسد في: التزام طرفي التصعيد بعدم اتخاذ أي إجراء عسكري جديد، تمهيدًا لبدء المفاوضات بين الجانبين بشأن الصراع في أوكرانيا لتقريب وجهات النظر بينهم، بجانب ضرورة احترام الاتفاقيات القائمة بينهم لضمان حل مستدامٍ للأزمة.

في المقابل، أوضح الرئيس “بوتين” أن لقاءه مع نظيره الفرنسي عملي، وبالرغم من ذلك انتقد تجاهل الولايات المتحدة والناتو لمطالب موسكو، كما نفى إمكانية الهجوم على أوكرانيا، وأن الناتو هو ما ينظر إلى روسيا كعدو وذلك في الاستراتيجية العسكرية للحلف لعام 2019، وأصر الرئيس “بوتين” خلال المؤتمر الصحفي مع “ماكرون” على ضرورة أن تقوم أوكرانيا بتنفيذ اتفاق السلام الذي تم إبرامه سابقًا ويتم بموجبه منح الحكم الذاتي لـ”دونباس”. إذ حاول الطرفان طرح مقترحاتهما للتهدئة قيد النقاش، وبذلك يمكن النظر إلى اجتماع “بوتين” و”ماكرون” على أنه خطوة إيجابية، لأنه قد يُعدّ بمثابة احتواء لمطالب روسيا واستيعابها بما يضمن استمرار قنوات التواصل بينهم، باعتبارهم شركاء لضمان وحماية الأمن الأوروبي وليسوا متنافسين، وذلك من خلال اتباع نهج دبلوماسي يرتكز على توضيح وجهات نظر الطرفين لبعضهم بعضًا دون الصدام، بجانب طرح بدائل للتهدئة بعيدًا عن المواجهة العسكرية.

وعلى الجانب الآخر، كان نهج “ماكرون” في كييف يرتكز على طمأنة الرئيس الأوكراني بأن هناك مسارًا مُحتملًا وفرصة لإجراء مفاوضات بين الطرفين للتهدئة، والحد من التصعيد بين روسيا والغرب، وأن فرنسا بل والدول الأوروبية على دراية بالتهديدات والتحديات التي تشهدها أوكرانيا، وأنهم يرغبون في دعمها لعودة الاستقرار عبر تسوية سلمية تتوافق مع مصالح الطرفين. وبالفعل هو ما أشار إليه الرئيس “زيلينسكي” قائلًا: لدينا وجهة نظر مشتركة مع الرئيس ماكرون بشأن التهديدات والتحديات التي تواجه أمن أوكرانيا، وأوروبا بأسرها، والعالم بشكل عام”.

وعليه، كشفت الجولة الفرنسية عن تباين الرؤى بين الطرفين، فمن وجهة نظر موسكو أنها تتحرك كرد فعل لما قام به الغرب على حدودها من توسع ونشر لقواته، والتخوف من محاولات كييف لاستعادة منطقة “دونباس” عبر زيادة قواتها للقيام بذلك، وعدم تنفيذ اتفاقية “مينسك”. في المقابل تشكك كييف من نهج موسكو تجاهها راغبة في خفض التصعيد من خلال إجراءات ملموسة وليس عبر التصريحات، رافضةً تصور موسكو بشأن علاقة كييف بالولايات المتحدة أو الناتو لأنها لن تمنعها من تعزيزها. وفي الوقت نفسه فإنها ترغب في تهدئة الأوضاع لأن تكلفة المواجهة ستكون كبيرة وستكبدها المزيد من الخسائر الاقتصادية والإنسانية بالرغم من الدعم الدولي، ولكنها ليست دولة في الناتو ولا الاتحاد الأوروبي.

دوافع عدّة

يرغب الرئيس “ماكرون” في اتخاذ إجراءات استباقية لردع أي خطوة تصعيدية مُحتملة من قبل روسيا خلال الفترة المقبلة، تجنبًا للدخول في حرب مفتوحة قد تمتد تداعياتها إلى كافة الدول الغربية وشركائها، وهو ما قد يساهم في تغير هيكل النظام الأمني الدولي الذي بالفعل ترغب روسيا في إعادة هيكلته بما يتوافق مع مصالحها ومكانتها الدولية، وهو ما سينعكس على الأمن الأوروبي. وذلك بالتزامن مع التحديات المتلاحقة التي تعاني منها الدول الأوروبية، لذلك تتجلى أبرز دوافع “ماكرون” على النحو التالي:

  • رئاسة فرنسا لمجلس الاتحاد الأوروبي: تتزامن جهود الوساطة الفرنسية مع توليها رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي التي ستمتد من الأول من يناير 2022 وحتى الثلاثين من يونيو 2022، لتكون الرئاسة الأولى لباريس منذ عام 2008، الثالثة عشرة منذ عام 1958. وقد أوضح الرئيس “ماكرون” في خطابه الذي ألقاه في التاسع من ديسمبر 2021 عن أولوياتها التي تتمثل في جعل أوروبا أكثر قوة وذات سيادة كاملة، وبجانب إصلاح منطقة شنجن التي كانت طموح “ماكرون” منذ توليه في مايو 2017، وتعزيز الدفاع الأوروبي، بجانب تنسيق التعاون بين الدول الأعضاء في مواجهة التحديات، علاوة على عمل فرنسا مع الدولتين اللتين ستتوليان بعدها بالتناوب وهما جمهورية التشيك والسويد، لوضع إطار واضح يتم العمل عليه خلال فترة رئاسة الدول الثلاث التي تصل مدتها 18 شهرًا، وذلك بعد انتهاء الدورة الثلاثية برئاسة كل من ألمانيا والبرتغال وسلوفينيا. لذلك يمثل هذا التوقيت فرصة لماكرون لتنفيذ أهدافه الداعمة لتعزيز مكانة أوروبا كفاعل جيواستراتيجي لديه القدرة على الاستجابة للأزمات من خلال التعاون متعدد الأطراف مع الدول الأعضاء بجانب الشركاء مثل الولايات المتحدة.
  • الانتخابات الرئاسية: يتزايد التصعيد الأخير بين موسكو وكييف قبل أقل من أربعة أشهر على إجراء انتخابات الرئاسة الفرنسية التي من المقرر عقدها في العاشر من أبريل 2022، الأمر الذي يُعد فرصة لـ”ماكرون” لتعزيز مكانته على الصعيد الداخلي والخارجي عبر إحراز تقدم ملموس في تسوية الأزمة الأوكرانية، أو على الأقل تهدئة الأوضاع من خلال فتح قنوات للاتصال بين روسيا والغرب. وعلى الجانب الآخر، يمثل تحديًا قد يعرقل طموح “ماكرون” في الوصول إلى ولاية ثانية، خاصة إذا لم يتمكن من التأثير على طرفي التصعيد بضرورة الالتزام بالتهدئة. وذلك في سياق التحديات التي يواجهها داخليًا ويأتي في مقدمتها تداعيات جائحة “كوفيد-19″، وإجراءات احتواء انتشار الفيروس من خلال توسيع عمليات التلقيح، فضلًا عن ضرورة طرح برنامج انتخابي يستطيع دعم شعبيته التي كانت قد تأثرت على خلفية إصلاحاته الاجتماعية والاقتصادية، وتنامي المرشحين المنافسين له من قوى السياسية “فاليري بيكريس” -الرئيسة السابقة لمنطقة إيل دو فرانس- المرشحة عن الحزب الجمهوري المحافظ، التي تُعد أول سيدة تخوض السباق الانتخابي الرئاسي مُمثلةً عن الحزب، وقد صرحت في أول خطاب لها بأنها ستجعل فرنسا القوة الأهم في أوروبا، وستعمل على وقف الهجرة غير النظامية، وانتقدت اليمين المتطرف. لذا فلا بد على “ماكرون” توظيف هذا التوقيت لصالحه، وقد يكون بالفعل هو ما دفعه لتصدر المشهد الأوروبي، وقيادة جهود الوساطة بالتنسيق مع باقي القوى الأخرى.
  • تجنب المواجهة العسكرية: بالرغم من الجهود الأوروبية بجانب الولايات المتحدة والناتو، هناك تخوف من أن تقوم روسيا بضربة عسكرية أو الدخول في اشتباكات حدودية مع القوات الأوكرانية مما يُمهد لتنامي التصعيد بينهم، وسينتج عنه تفاقم للوضع الإنساني والاقتصادي في كييف التي بالفعل تواجه عددًا من التحديات في هذه المجالات، بجانب احتمالية تنامي اللاجئين على الحدود الأوروبية، وهو ما سيفرض على الدول الأوروبية دورًا فعالًا للتصدي لهذه التداعيات يجمع ما بين الآليات التقليدية التي قد تشمل الرد العسكري في سياق الناتو، الأمر الذي سينتج عنه عودة النقاش بشأن السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة، والاستقلال الاستراتيجي، ومدى قصور الاتحاد الأوروبي في هذا الأمر، وعدم قدرته على بلورة استجابة شاملة للتصعيد بالرغم من الطموح الدفاعي الذي يمتلكه، ولكنه لم يتم ترجمته على أرض الواقع. أما فيما يتعلق بالمساعدات فبالفعل تتلقى أوكرانيا عددًا من المساعدات من قبل الاتحاد الأوروبي وفرنسا بشكل خاص لدعم اقتصادها والبنية التحتية فيها، ولكن هناك الأمر سيتطلب المزيد من المساعدات بالتزامن مع محاولة الاتحاد الأوروبي احتواء تداعيات جائحة “كوفيد-19” على الاقتصاديات الأوروبية، مع الالتزام بتنفيذ الصفقة الخضراء. وهنا يمكن الإشارة إلى ضرورة أن تكون فرنسا وباقي الدول الأوروبية على استعداد لمواجهة أي هجوم إلكتروني من قبل موسكو في سياق الهجوم. لذا فإن نجاح جهود الوساطة التي تقوم بها فرنسا، قد يساعد في الحد من المواجهة العسكرية.
  • إمدادات الطاقة: بالرغم من امتلاك فرنسا إمدادات آمنة من الغاز في ظل حالة التصعيد العسكري؛ حيث أوضح “كليمان بون” وزير الدولة الفرنسي للشئون الأوروبية، لقناة “فرنسا 2” التلفزيونية، “أن فرنسا لديها ما يكفي من إمدادات الغاز لتجاوز هذا الشتاء”، واستكمل لقد “تحرينا هذا الأمر عن كثب، ومخزونات الغاز الفرنسية على وجه الخصوص ومخزونات أوروبا بوجه عام كافية في أي سيناريو لاجتياز الشتاء”. ما زال هناك تخوف بشأن إمدادات الغاز من روسيا، لذا فهناك أيضًا رغبة في تجنب هذا السيناريو؛ إذ تعتمد أوروبا على أكثر من 40% من واردات الغاز الروسي، ومن المتوقع أن تزيد هذه النسبة في المرحلة المُقبلة خاصة في فصل الشتاء وبعد أزمة الطاقة التي شهدتها في الشهور الأخيرة من عام 2021. بالإضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي يتجه نحو الطاقة النظيفة لتقليل مصادر الانبعاثات الكربونية. ولكن المشكلة هنا أيضًا تتمثل في: ما هو مصير مشروع “نورد ستريم-2” الذي قد يدخل كجزء من العقوبات على روسيا؟، وخاصة بعد أن التقى “شولتز” يوم الثلاثاء الثامن من فبراير 2022 مع الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في أول زيارة له لواشنطن بعد توليه؛ حيث قال إن ألمانيا والولايات المتحدة “متحدتان تمامًا” بشأن العقوبات ضد روسيا. وأوضح خلال المؤتمر الصحفي المشترك في البيت الأبيض أنه “لن يكون هناك نورد ستريم 2” إذا غزت روسيا أوكرانيا “بالدبابات أو القوات”. وهو ما قد لا تتمناه ألمانيا لكنها في الآونة الأخيرة تعرضت لعدد من الانتقادات نتيجة تعاطيها غير الحاسم مع الأزمة.
  • الاستقلال الاستراتيجي: قد تكون هناك رغبة لدى فرنسا لإحياء فكرة الاستقلال الذاتي الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، وخاصة أنها من أهم الدول الداعمة للفكرة التي تستند إلى القدرة على التصرف والاستجابة للأزمات بكفاءة وفعالية بالاعتماد على المقدرات الأوروبية بالأساس، بالتوازي مع تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة؛ حيث تمتلك فرنسا تصورًا بشأن ضمان وحماية الأمن الأوروبي لشركائها يعتمد على القدرة على المشاركة والتأثير والتصرف على كافة المستويات وفقًا لما تمتلكه القوى الأوروبية من إمكانيات تعزز من حجم استجابتها، بجانب التعاون مع الولايات المتحدة في إدارة الملفات ذات الاهتمام المشترك بنفس المستوى من التأثير وليس للاعتماد عليها، وهو ما ظهر بشكل كبير إبان إدارة “دونالد ترامب”، وتزايد في عهد “بايدن” وبعد اتفاق “أوكوس”، والانسحاب الأمريكي من أفغانستان. ومن ناحية أخرى قد يكون هناك تصور ما بأن الولايات المتحدة بالرغم من موقفها التصعيدي فإنها ليس من المُحتمل أن تدخل في مواجهة عسكرية مع روسيا بسبب أوكرانيا في ظل سعيها المستمر لتقويض النفوذ الصيني. وقد يكون الهدف الأمريكي غير المُعلن من التصعيد هو إعادة هيكلة شكل العلاقات مع الدول الأوروبية بما يتوافق مع مصالحها التي تتمثل في المقام الأول في ردع التهديدات الخارجية، التي قد تأتي من روسيا أو الصين. وقد يكون هذا التصور مُرجحًا لأن احتمالية عودة الدعم الأمريكي غير المشروط لأوروبا غير واردة، وعليه قد تكون فرنسا مُدركة لهذا وخاصة أنها تكبدت خسائر مالية كبيرة على خلفية اتفاق أوكوس، لذا فإنها ترغب في تبني موقف يدعم مصالح فرنسا وأوروبا بالتشاور أيضًا مع الولايات المتحدة وليس من خلال الاعتماد عليها.
  • الشراكة مع روسيا: استطاعت روسيا خلال العقد الماضي استعادة مكانتها في النظام الدول؛ إذ أصبحت فاعلًا محوريًا في إدارة العديد من الملفات الإقليمية والدولية، والقضايا ذات الاهتمام المشترك مع الناتو، وهو ما سيفرض على الدول الأوروبية وفي مقدمتهم فرنسا وألمانيا بجانب الناتو ضرورة التعامل مع روسيا لإدارتها، لأنها تمتلك العديد من أوراق الضغط التي تناور بها من أجل الحصول على مكاسب جيواستراتيجية تزيد من مناطق نفوذها، وتتناسب مع طموحاتها الكبرى، وهو ما تجسد في إدارة أزمة الطاقة في أوروبا التي أوضحت مدى اعتمادهم على الغاز الروسي، فضلًا عن بحث سبل الاستقرار في مناطق الصراعات في الشرق الأوسط، وإفريقيا، وأفغانستان. وعليه فإن عدم حدوث انفراجة في هذه الحالة سينعكس بشكل سلبي على الدول الأوروبية قبل روسيا التي استطاعت أن تُبلور قوة مضادة لمقاومة العقوبات الغربية تتجلى أبرزها في “الرد بالمثل”، وتوظيف نفوذها وعلاقاتها بالدول التي تتباين في قوة تأثيرها على عملية التوافق بين الدول لاتخاذ موقف موحد ضدها، لذا قد نجد في كثير من الأحيان عدم التوافق في الإرادة السياسية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا، أو أن العقوبات تكون مقصورة على عدد من الشخصيات القريبة من النظام. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أوكرانيا قد تكون ساحة للتنافس مع الولايات المتحدة والناتو على وجه التحديد، وعليه قد يمتد ذلك التنافس إلى مناطق أخرى مثل منطقة البحر الأسود التي تعد ذات أهمية جيواستراتيجية، لذلك فإن الحد من التصعيد بين روسيا والغرب بشكل عام سيساهم في استقرار الأمن الأوكراني والأوروبي.

حدود الوساطة

يُمكن النظر إلى جهود الوساطة الفرنسية على أنها مؤشر إيجابي قد يعزز من احتمالية التوصل إلى تسوية تسمح بإجراء الحوار بين الطرفين، وعودة محادثات “نورماندي”، تمهيدًا لتنفيذ بنود اتفاقية “مينسك”. ولكن على الجانب الآخر، قد تكون جهود الوساطة بمثابة كسب وقت للطرفين لإعادة تقييم الوضع، وحساب التكلفة والعائد من استمرار تأزم العلاقات، خاصة أنه لا توجد ضمانات مؤكدة من قبل روسيا بالرغم من نفيها عدم الهجوم توضح مسار الأوضاع خلال الفترة المقبلة. وهذا ما أشار إليه “ديمتري بيسكوف” المتحدث باسم الكرملين قائلًا: “الوضع معقد للغاية بحيث لا يمكن توقع اختراقات حاسمة خلال اجتماع واحد”. فيما اعتبر “جوزيف بوريل” الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية الأوروبية أن الزيارة مهمة، وتمثل عنصر انفراجة؛ إلا أن المشكلة لم تحل بعد. وبناءً على ذلك سيتوقف نجاح الرئيس الفرنسي في لعب دور الوسيط على عدد من المحددات تتجسد على النحو التالي:

  • تحقيق التوافق بين الدول الأوروبية بشأن اتخاذ موقف موحد تجاه طرفي التصعيد، بمعنى عدم دعم طرف على حساب الآخر، وفتح قنوات للتواصل والحوار تتضمن مخاوف الطرفين الأمنية، ومدى إمكانية تحقيق التوازن في العلاقات بينهم بما يتوافق مع مصالحهم. هذا بجانب مدى قدرة الرئيس “ماكرون” على الاستمرار في منصبه بعد الانتخابات، ودعم ألمانيا له ودول أوروبا الشرقية تحديدًا في الإجراءات التي سيتخذها لتهدئة الأوضاع بين موسكو وكييف، بالإضافة إلى حجم الآليات التي سيستخدمها لإقناع أوكرانيا وروسيا للدخول في مفاوضات السلام مرة ثانية، والضمانات التي سيقدمها لموسكو في هذا السياق.
  • يمكن النظر إلى الأزمة من المنظور الأوسع باعتبارها بين روسيا والغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة والناتو، وهنا يمكن التساؤل: هل فرنسا الدولة الأوروبية العضو في مجلس الأمن الدولي، والناتو، والاتحاد الأوروبي، تملك آليات أو ضمانات كافية تستطيع من خلالها تحقيق التوافق بينهم؟ أو التأثير على الولايات المتحدة لتعديل نهجها تجاه روسيا، أو وقف توسع الحلف ونشر تعزيزاته في دول أوروبا الشرقية. وذلك بالتزامن مع رغبة الويات المتحدة في إعادة تشكيل النظام العالمي لمواجهة روسيا والصين، وهو ما يمثل هدفًا مماثلًا لهم، لذا فإن خطوة التهدئة لا بد لها من ضمانات يتم تقديمها للطرفين.
  • وهذا لا يعني أن فرنسا غير قادرة على لعب دور الوساطة فقد سبق وأن توسطت بين الفرقاء الليبيين تمهيدًا لتسوية الأزمة بشكل سلمي، فضلًا عن الأزمة اللبنانية السعودية التي استطاعت أن تزيل حالة الجمود التي شابت العلاقات في الآونة الأخيرة، هذا بجانب أنها تلعب دورًا محوريًا في المفاوضات النووية الإيرانية، ولكن يختلف الأمر هذه المرة لأنها قد خاضت من قبل جهود الوساطة بين كييف وموسكو التي تم عرقلتها عدة مرات بالرغم من قدرتها في بعض الأحيان على وقف إطلاق النار، ولكن في النهاية ما زال الوضع معقدًا حتى الآن، كما أنه في الحالات الأخرى كان لدى فرنسا آليات للتأثير، إضافة إلى حلفاء استطاعت أن تتوصّل معهم لحل وسط يساهم في حلحلة الأزمات.
  • وهنا لا بد من توضيح نقطة مهمة سيكون لها أيضًا تأثير على جهود الوساطة خلال الأيام المُقبلة يمكن رصدها في: استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا من قبل الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الناتو. فعلى سبيل المثال، قررت ألمانيا إرسال 300 جندي إضافيًا لليتوانيا كجزء من مهام الناتو في سياق التصعيد، وذلك بعدما قررت سابقًا عدم إرسال السلاح لأوكرانيا. فيما سترسل المملكة المتحدة كتيبة خاصة تتكون من 350 جنديًا إلى بولندا بجانب 100 مهندس بريطاني متواجد هناك، أما الولايات المتحدة فقد قررت نشر ما يقرب من 2000 جندي من الولايات المتحدة في ألمانيا وبولندا، كما تم إعادة نشر 1000 جندي آخرين مُتمركزين في ألمانيا إلى رومانيا، بالإضافة إلى وضع 8500 جندي في الولايات المتحدة في حالة تأهب قصوى في حالة استدعاء قوة استجابة تابعة للناتو.
  • على الصعيد الآخر، تقوم روسيا بجانب الحشد على الحدود بالتجهيز لإجراءات مناورات عسكرية مع بيلاروسيا؛ حيث أعلنت في الثامن عشر من يناير 2022 أنه سيتم نشر ما يقرب من 12 طائرة مقاتلة من طراز “SU-35″، وفرقتين من أنظمة الدفاع الجوي من طراز “S-400″، وفرقة من أنظمة الدفاع الجوي Pantsir-S في بيلاروسيا، وذلك تمهيدًا لإجراءات مناورات من المُحتمل عقدها خلال الفترة من العاشر من فبراير وحتى العشرين من الشهر نفسه، وستتضمن إمكانية الرد المشترك على التهديدات الخارجية. وبالرغم من ذلك لم يتم ذكر عدد القوات المشاركة. هذا بجانب التقارب الروسي الصيني الأخير الذي تم على هامش افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، التي تدعم علاقات البلدين بعضهما ببعض، وتساهم في توافقهما بشأن عدد الملفات ذات الاهتمام المشترك.
  • وعليه، من المتوقع أن تشهد الفترة القادمة احتماليات للتصعيد على خلفية هذه المناورة التي تُثير حالة من الخوف لدى البعض نتيجة الأسلحة المشاركة فيها، وقرب الحدود البيلاروسية من كييف، وهو ما قد يُرجح إمكانية تعرضها لخطر الهجوم بشكل غير مباشر إبان المناورة.

سيناريوهات مشروطة

من الواضح أن جهود الوساطة الفرنسية ما زالت مرهونة بموقف طرفي التصعيد والدول الحليفة لهما، ورغبة هذه الأطراف في التوصل إلى تسوية تشمل وجود عدد من الضمانات الأمنية لهم تتوافق مع مصالحهما، وعليه يمكن طرح عدد من السيناريوهات المُحتملة لهذه الأزمة في إطار جهود الوساطة الفرنسية على النحو التالي:

  • السيناريو الأول: خفض التصعيد

يستند هذا السيناريو إلى الدور الفرنسي المُحتمل خلال الفترة القادمة بالتعاون مع ألمانيا، وقدراتهم على تقريب وجهات النظر بين الولايات المتحدة وروسيا، خاصة أن أوكرانيا لديها الرغبة في التهدئة. وهنا من المتوقع دور أكبر من الرئيس الفرنسي لتقديم ضمانات كافية تمهد الطريق أمام هذه القوى للعودة إلى طاولة المفاوضات مرة ثانية بدلًا من اللجوء للحل العسكري، الأمر الذي سيترتب عليه تجميد التصعيد بما يمكن من تسوية الأوضاع بما يحقق مطالب روسيا ويضمن السلامة الإقليمية لأوكرانيا، باعتبار ذلك الحل السلمي، من خلال استئناف المفاوضات “نورماندي”، وعودة الحوار بين الناتو وروسيا والاتحاد الأوروبي.

  • السيناريو الثاني: استمرار الاستنزاف

يعتمد هذا السيناريو على أن جهود الوساطة الفرنسية توقفت عند مستوى معين، يسمح بإجراء حوار مع موسكو لتبادل وجهات النظر دون التوصل إلى إجراءات ملموسة من شأنها الحد من التوتر، وهنا سيكون المُؤثر على هذه الجهود هو جمود الموقف الروسي والأمريكي لفشل إجراء حوار بينهم، ورفض كل طرف مطالب الآخر. وهنا من المُحتمل أن توظف روسيا الموقف لصالحها للحصول على أكبر قدر من المكاسب عبر احتمالية شن عدد من الهجمات الهجينة، التي تستنزف قدرات أوكرانيا بدون مواجهتها. لأن هدف روسيا بالأساس هو حماية مجالها الحيوي وعمقها الاستراتيجي من الغرب. لذلك فمن مصلحة موسكو أن تظل أوكرانيا قائمة ولكن بحكومة موالية لها وليس للغرب، كما أن وضع كييف الحالي لن يُمكنها من عضوية الناتو، وهو ما يصب أيضًا في مصلحة روسيا. لذا فإن استمرار الوضع الحالي قد يكون هدف موسكو لتحقيق أكبر مكسب ممكن، بما في ذلك تعزيز مكانتها الدولية كفاعل مركزي لا يمكن تجاهله.

  • السيناريو الثالث: التصعيد العسكري

يرتكز هذا السيناريو على فشل جهود الوساطة الفرنسية، والعودة إلى المربع صفر، والدخول في حالة من عدم اليقين بشأن مستقبل العلاقات نتيجة إصرار الطرفين على مطالبهما. وهنا قد يكمن هدف المواجهة العسكرية التي ستكون محددة على السيطرة على “دونباس” كتكرار لسيناريو القرم، مُبررة حماية مصالحها، ونتيجة لعدم تنفيذ اتفاق السلام الذي يمنحها الحكم الذاتي، بالرغم من أن هذا التصور قد يكون مستبعدًا حدوثه في الوقت الحالي لما له من تكلفة كبيرة، ولكنه حدث مرتين سابقًا دون أي مواجهة العسكرية، واقتصر الأمر على العقوبات، وتعليق العلاقات والشراكة مع روسيا، وتصريحات الشجب والإدانة من قبل الغرب. علاوة على أن كييف ليست عضوًا في الناتو أو الاتحاد الأوروبي، وأن التحرك لردع موسكو سيتطلب التصويت بالإجماع، وقد يحدث عدم توافق بين الدول الأعضاء، ولكن من الممكن حماية الدول الأعضاء الواقعة على حدود روسيا وأوكرانيا. لذا فإن أي عملية مستقبلية للحد من التصعيد بين الطرفين لا بد أن تأخذ هذه المطالب بعين الاعتبار للتوصل إلى تهدئة مستدامة. كما يجب أن يُؤخذ التصعيد الروسي الحالي على محمل الجد، فكل السيناريوهات مُتاحة، ولكنها ستكون مشروطة بأقصى قدر من تحقيق المكاسب.

ختامًا، من المتوقع أن تحمل الأيام المُقبلة المزيد من التحولات في مسار التصعيد الروسي-الأوكراني، الذي سيكون مرهونًا بدور الوساطة الفرنسية وموقف كل من الولايات المتحدة وروسيا والدول الداعمة لهما.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/18470/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M