خلافات المياه.. ضوابط التصعيد الإيراني الأفغاني بشأن نهر هلمند

مني قشطة

 

فجّرت قضية تقاسم مياه نهر هلمند بين أفغانستان وإيران توترات واشتباكات حدودية جديدة بين البلدين، حيثُ شهدت الحدود الأفغانية الإيرانية في 27 مايو الجاري اشتباكات متبادلة بين عناصر حركة طالبان وقوات حرس الحدود الإيراني في منطقة الشريط الحدودي بين أفغانستان وإيران؛ مما أسفر عن مقتل وإصابة عدد من الجنود بين الطرفين، واتهم كل طرف الآخر ببدأ إطلاق النار أولًا. وتأتي هذه الاشتباكات بالتوازي مع حرب تصريحات وتهديدات دائرة مؤخرًا بين الجانبين الأفغاني والإيراني على خلفية الصراع التاريخي بينهما حول أزمة مياه نهر هلمند الذي يتدفق من سفوح جبال هندوكوش الأفغانية ويصب على طول الحدود في جنوب غرب أفغانستان وجنوب شرق إيران.

نزاع قديم جديد

يُعتبر نهر هلمند الدولي أطول أنهار أفغانستان حيث يبلغ طوله 1150 كيلومتر، وينبع من جبال هندوكوش إلى الغرب من كابول، وينتهي باتجاه الجنوب الغربي، ويفرغ مياهه في بحيرة هامون بمحافظة سيستان-بلوشستان الإيرانية، ويُغذي الأراضي الرطبة على طول الحدود الأفغانية الإيرانية. ولطالما كان هذا النهر موضوعًا للتعاون تارة والتوتر تارة أخرى بين أفغانستان وإيران، إذ سعت الأخيرة لضمان تدفقات المياه إلى أراضيها تخوفًا من أن يؤدي نقص المياه إلى خلق حالة من عدم الاستقرار داخل محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية التي يهمين عليها السنة والبلوش. الجدير بالذكر، أن أهمية نهر هلمند بالنسبة للبلدين تنبع من كونه يعد شريان رئيسي تعتمد عليه حياة السكان في دلتا النهر على جانبي الحدود الأفغانية الإيرانية، كما تعد الموارد المائية للنهر مصدرًا رئيسيًا لممارسة أنشطة كسب العيش لهؤلاء الأشخاص، وموردًا مهمًا أيضًا لمياه الشرب والزراعة وصيد الأسماك في تلك المنطقة.

ويعود تاريخ الخلافات حول المياه بين إيران وأفغانستان إلى سبعينيات القرن التاسع عشر عندما كانت أفغانستان تحت السيطرة البريطانية، حيث تم ترسيم الحدود الإيرانية الأفغانية على طول الفرع الرئيسي لنهر هلمند. وفي عام 1939، وقّعت الحكومة الإيرانية وحكومة أفغانستان معاهدة بشأن تقاسم مياه النهر لكن الأفغان فشلوا في التصديق عليها. وفي عام 1948، بدأت محاولة أخرى لحل النزاع في واشنطن، واختارت إيران وأفغانستان لجنة ثلاثية لتسوية الأزمة. وفي فبراير 1951، أوصت اللجنة بأن تبلغ حصة إيران من مياه هلمند 22 م3/ث، لكن إيران رفضت التقرير وطالبت بنصيب أكبر، وبالتالي دخلت البلدين في مرحلة تفاوض طويلة. وفي عام 1973، وقع رئيسا وزراء البلدين اتفاقًا يخصص 22 م3/ث لإيران في السنة العادية (يكون فيها تدفق النهر عند 5.6 مليار متر مكعب أو أكثر) مع إضافة 4 م3/ث كحسن نية وكدلالة على العلاقات الأخوية بين البلدين، على أن تنخفض الحصة بشكل متناسب حال انخفاض تدفق النهر، مقابل موافقة إيران على إتاحة ميناءي بندر عباس وتشابهار لأفغانستان دون شروط مسبقة، ومع ذلك، لم يتم التصديق على الاتفاقية أو تنفيذها بالكامل بسبب التطورات السياسية في كلا البلدين بما في ذلك انقلاب 1973 في أفغانستان، والثورة الإيرانية عام 1979، والاحتلال السوفيتي لأفغانستان في نفس العام، وصعود حركة طالبان عام 1995.

وعلى الرغم من أن معاهدة 1973 تضمن لإيران الوصول إلى حصتها في مياه نهر هلمند، إلا أنّها تمنح أيضًا لأفغانستان حقوق – أحادية الجانب – في استخدام إمدادات المياه المتبقية أو التخلص منها بالشكل الذي تختاره، وهو ما يُمكنها من تنفيذ المشاريع الزراعية ومشاريع الطاقة المائية وإقامة الخزانات والسدود على النحو الذي تراه مناسبًا. لذلك حرصت الحكومات الأفغانية المتعاقبة على بناء عدد من السدود على نهر هلمند بهدف تخزين المياه وزيادة توليد الطاقة الكهرومائية، ومن ذلك سد كجكي وسد كمال خان الذي بدأ بناءه في عام 1996 وتم تعليقة بسبب القتال في أفغانستان، واستؤنفت عملية البناء مرة أخرى عام 2014 في عهد الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني، وتم افتتاحه في مارس 2021. وقد فاقمت مثل هذه المشروعات من حدة التوترات بين أفغانستان وإيران حول مياه هلمند خلال العقود الماضية، وحاولت الأخيرة وقف بناء هذه السدود وممارسة الضغط على حكومة أشرف غني واتهمت الجانب الأفغاني مرارًا وتكرارًا بانتهاك اتفاقية 1973، وعدم توصيل المياه التي تم توزيعها بشكل مناسب ومحاولة تقييد تدفق مياه النهر من خلال بناء السدود، وفي المقابل استمرت كابول في التأكيد على أن هذه الادعاءات غير صحيحة.

وتُشير المصادر المختلفة إلى أن أحد طرق حل مشكلة المياه بين أفغانستان وإيران على النحو المحدد في المادة الثالثة من معاهدة نهر هلمند 1973 يتمثل في قيام الدولتان بإنشاء محطات قياس هيدرومترية مشتركة، تعمل على تسوية مسألة كمية المياه المطلوبة لتسليمها إلى إيران، إلا أن الأخيرة لطالما عارضت بناء تلك المحطات، نظرًا لأن إنشاء محطات قياس هيدرومترية مشتركة من شأنه أن ينظم حصتها من المياه بشكل أكثر صرامة، في حين أنها كانت تتلقى المزيد من المياه خلال سنوات المياه العادية وما فوق العادية. وعلى الرغم من الاتفاق على بناء محطات هيدرومترية مشتركة بين البلدين في الاجتماع الحادي والعشرين للجنة المشتركة لمفوضي نهر هلمند، إلا أن هذا الاتفاق بقي على الورق فقط. وبالمثل، في أغسطس 2022، اتفقت أفغانستان وإيران مرة أخرى على جدول زمني لبناء محطات قياس هيدرومترية مشتركة، إلا أن هذا النوع من المشروعات يستغرق سنوات في تنفيذه.

لماذا الآن؟

كانت قضية مياه نهر هلنمد أحد المحفزات الرئيسية التي دفعت إيران لتطوير علاقة وثيقة مع حركة طالبان – والتي اتخذت شكلًا غير معلن في بعض مراحلها وتبدّت ملامحها بشكل أكثر علانيًة بعد سقوط كابول في أغسطس 2021-  وذلك على الرغم من العداء التاريخي والأيديولوجي بينهما والذي كان من أبرز شواهده مقتل ثمانية دبلوماسيين إيرانيين في أعقاب مهاجمة طالبان للقنصلية الإيرانية في مدينة مزار شريف شمال أفغانستان عام 1998. ويمكن القول إن طهران استطاعت توظيف علاقة تعاونها مع طالبان لضمان وصولها إلى مياه نهر هلمند بطرق شتّى؛ فقبل وصول طالبان لحكمها الثاني تحدثّت العديد من التقارير عن دعم إيراني للحركة في شن هجمات مسلحة من شأنها تعطيل العمل في مشروع بناء سد كمال خان، ومن ذلك على سبيل المثال قيام عناصر طالبان في أكتوبر عام 2020 بشن هجومًا على حراس السد في منطقة “قلعة فتح” بولاية نمروز الأفغانية، مما أسفر عن مقتل 6 وإصابة 2 آخرين. وبعد وصول طالبان للحكم عام 2021 حاولت إيران استغلال الفجوة التي أحدثتها التطورات السياسية في أفغانستان في أعقاب الانسحاب الأمريكي، إلى جانب افتقار طالبان إلى الشرعية الدولية والخبرات التقنية اللازمة للاستفادة من مياه نهر هلمند، في محاولة ممارسة المزيد من الضغوط لتأمين حصة مياه إضافية لطهران من النهر.

وعلى الرغم من أن سياسية إيران البرجماتية تجاه طالبان نجحت في دفع الأخيرة لاتخاذ بعض المواقف الأكثر وديّة بشأن المياه المشتركة لتلبية احتياجات طهران مثل إبقاء بوابات سد كمال خان مفتوحة منذ مارس 2022، مما سمح بتدفق المياه نحو إيران؛ إلا أن هذا لم يمنع حدوث بعض التوترات بين الطرفين من فترة لأخرى، حتى باتت مخاوف إيران حول مياه نهر هلمند أحد أوراق الضغط الرئيسية التي توظفها طالبان ضد طهران مقابل أدوات ضغط أخرى تستخدمها الأخيرة في سياستها تجاه أفغانستان. وكان لافتًا أن النزاع ومناورات التصريحات المتبادلة بين البلدين حول مسألة المياه خلال العام الماضي والحالي باتت أمرًا شائعًا، ووصلت حدّتها في بعض الأحيان إلى بعض أعمال العنف المحلية، ومن ذلك قيام سكان مدينة زابل الإيرانية في يناير 2022 بمهاجمة التجار الأفغان، مُطالبين حركة طالبان بحقوقهم في توزيع المياه.

وفي ضوء ما سبق، جاءت التوترات والاشتباكات الحدودية الأخيرة بين طهران وطالبان والتي أطلقت شراراتها جملة من التصريحات والتهديدات شديدة اللهجة المتبادلة بين مسؤولي البلدين خلال مايو الجاري، حيثُ اتهم الجانب الإيراني السلطات في كابول بحجز مياه نهر هلمند عن طهران، مطالبين بإرسال مراقبين إلى أفغانستان للتحقيق في هذا الأمر، وفي المقابل رفضت طالبان تلك الاتهامات وأكدت أن الجفاف قلّص نسبة المياه الجارية في النهر، وهو ما أدى إلى تناقص حصة طهران من المياه، كما انتشرت مقاطع فيديو مصورة ظهر فيها بعض عناصر وقادة طالبان يسخرون فيها من تهديد الرئيس الإيراني لطالبان في حال نقصت حصة طهران من المياه. وتُرجمت حرب التصريحات بين الطرفين بعد اندلاع الاشتباكات المسلحة الأخيرة بين قوات حرس الحدود الإيراني والقوات الأفغانية في منطقة “ماككي” على الحدود بين البلدين، وقد استمرت تلك الاشتباكات عدة ساعات وعاد الهدوء مرة أخرى إلى المنطقة الحدودية، وكشف بعض المسؤولين المحليين أن السلطات الإيرانية والأفغانية أجرت مفاوضات ناقشت خلالها أسباب الاشتباكات واتفقوا على مواصلة محادثاتهم.

تصعيد منضبط وقضايا حاكمة 

لا تعتبر الاشتباكات الحدودية الأخيرة بين إيران وحركة طالبان الأولى من نوعها؛ فمنذ عودة الأخيرة للسلطة في أغسطس 2021، وقعت نحو ثلاثة عشرة اشتباكات بين البلدين، لكن لم تلبث هذه الاشتباكات أن تستمر سوى بضعة ساعات ليعود الهدوء إلى الحدود مرة أخرى، وهو ما يشي بأن مسألة التوترات الحدودية باتت أمرًا مألوفًا في العلاقات بين طهران وكابول، وأنه رغم ما تخلفه تلك الاشتباكات من ضحايا للجانبين إلا أنها لا ترقى إلى حد اشتعال الحرب بينهما، وبعبارة أخرى، يُمكن القول إنه رغم تصاعد التصريحات والاتهامات والاشتباكات الحدودية المتبادلة بين إيران والسلطات في أفغانستان بين الفنية والأخرى؛ إلا أن هذا التصعيد من الطرفين يبقى منضبطًا ومحكومًا بأجندة من القضايا المشتركة بين البلدين، وبجملة من العوامل والمحددات التي تحدد السياسة وأوراق الضغط التي يستخدمها كل طرف تجاه الآخر.

فبالنسبة للجانب الإيراني، توجد جملة من الاعتبارات التي تجعل طهران حريصة على السير بخطوات أكثر براجماتية لاحتواء حركة طالبان، وفي مقدمتها الاعتبارات الخاصة بالأمن القومي الإيراني وضمان أمن الحدود وما يرتبط بها من إشكاليات عدّة ظلت عالقة بين البلدين لسنوات وتوارثتها الحكومات الأفغانية والإيرانية المتعاقبة، ومنها الهجرة غير النظامية وتهريب المخدرات ومخاوف انتقال عدوى التهديدات الإرهابية عبر الحدود الأفغانية وخصوصًا بعد تنامي نشاط فرع تنظيم داعش خراسان على الجغرافيا الأفغانية منذ عودة طالبان للحكم. وثمّة اعتبارات أخرى يغلب عليها الطابع الاقتصادي والثقافي؛ حيثُ تحظى أفغانستان بأهمية كبيرة للاقتصاد الإيراني كونها تُعد سوقًا مهمًا للبضائع الإيرانية التي تعاني من تأثيرات الضغوطات الاقتصادية الغربية. وتحرص طهران كذلك على ضمان حماية الشيعة في أفغانستان؛ إذ أن 10-20% من سكان الأخيرة أغلبهم ينتمون إلى عرقية الهزارة الشيعية، وتعرضوا في السابق لهجمات حركة طالبان، وبعد سيطرتها على الحكم أصبحوا على قمة بنك أهداف هجمات تنظيم داعش في أفغانستان.

وعلى الجانب الآخر، ثمّة مجموعة من العوامل التي تجعل حركة طالبان حريصة في الوقت الراهن إلى إبقاء علاقات جيدة مع إيران حتى وإن لم تعترف بها الأخيرة، أبرزها، تخوف طالبان من قيام طهران بتقديم الدعم المادي واللوجيستي لحركات المقاومة الأفغانية المناهضة لسيطرتها على الحكم في أفغانستان على غرار ما فعلت في تسعينيات القرن المنصرم إبان العهد الأول لطالبان. فضلًا عن تخوف طالبان من ورقة الضغط الخاصة بالمهاجرين الأفغان الموجودين في إيران منذ سنوات عديدة والذين تلوح طهران بترحيلهم إذا لم تمنحها طالبان حقوقها المائية، وهو ما قد يؤثر سلبًا على الاقتصاد الأفغاني في حال تم ترحيل هؤلاء. ويضاف للاعتبارات السابقة أيضًا حرص طالبان على عدم خسارة علاقاتها مع إيران؛ إذ تعد الأخيرة واحدة من الدول القليلة التي لديها علاقات دبلوماسية مع طالبان، وتمتلك سفارة في كابول، كما قامت بتسليم السفارة الأفغانية في طهران لطالبان مطلع العام الجاري، بعدما قامت الأخيرة بتسمية سفير لها في طهران يدعى “فضل أحمد حقاني”، وتُمثل هذه السفارات أهمية كبيرة لطالبان في وقت تسعى فيه الحركة إلى الظفر ولو بقدر ضئيل من الثقة في محيطها الإقليمي والدولي لنيل الشرعية الدولية الغائبة عنها.

ختامًا، رغم أن أحداث الاشتباكات الحدودية الأخيرة بين طالبان وإيران باتت أمرًا مألوفًا منذُ عودة الأولى للحكم في أفغانستان في أغسطس 2021، إلا أن القول بأن تلك الاشتباكات قد تكون بادرة لإشعال نيران الحرب والدفع باتجاه حدوث صدامات عسكرية كبيرة بين البلدين يُعد ضربًا من المبالغة بالنظر إلى وجود جملة من الاعتبارات والعوامل الحاكمة التي تجعل كل من طهران إيران يحرصان – على الأقل في الوقت الراهن- على التهدئة والتفاوض في الملفات العالقة بينهما، دونما اللجوء إلى حرب عسكرية لا يقوى أي طرف منهما على تحمل تبعاتها في المرحلة الحالية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/34497/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M