رؤية اقتصادية مُوحدة… سياق ودلالات توقيت القمة العربية في الجزائر

 بسنت جمال

 

انطلقت اليوم فعاليات القمة العربية بنسختها الحادية والثلاثين في الجزائر بمشاركة قادة عرب لمناقشة العديد من الملفات السياسية والاقتصادية في ظل الأحداث الجيوسياسية العالمية غير المستقرة خاصة الحرب الأوكرانية وما ترتب عليها من هزة اقتصادية عالمية وإقليمية.

السياق العالمي

لا يُمكن قراءة توقيت القمة العربية بعيدًا عن مجريات الحرب الأوكرانية التي نجم عنها اضطراب سلاسل الإمدادات والتوريد وتباطؤ النشاط الاقتصادي بالتزامن مع ارتفاع المستوى العام لأسعار السلع الغذائية والأساسية والمواد الخام والطاقة، فضلًا عن ارتفاع تكلفة الشحن والنقل بمختلف أنواعه، مما يزيد من الضغوط التضخمية المفروضة على جميع الدول حول العالم ولا سيما تلك التي تعتمد على الاستيراد في تأمين احتياجاتها من الغذاء والطاقة.

وكانت الموجة التضخمية الناتجة عن نقص الإمدادات وارتفاع الطلب من أهم التداعيات المباشرة والأساسية الناتجة عن استمرار الحرب الأوكرانية؛ انطلاقًا من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والنقل والشحن، ومن هذا المنطلق، توقع صندوق النقد الدولي أن يرتفع التضخم العالمي من 4.7% في 2021 إلى 8.8% في 2022 ليتراجع لاحقًا إلى 6.5% في 2023 و4.1% في 2024.

وجاء التضخم مدفوعًا بشكل أساسي بأزمتي الغذاء والطاقة التي تعتد سلاحًا جيوسياسيًا رئيسًا في الحرب الأوكرانية، ويدلل على ذلك اتخاذ الأطراف الدولية الفاعلة العديد من القرارات المفاجئة التي ألقت بظلالها على أسواق الطاقة؛ فعلى سبيل المثال، أعلنت مجموعة “غازبروم” الروسية في الثاني من سبتمبر توقف خط أنابيب “نورد ستريم” الرئيسي لأجل غير مسمى بسبب استمرار عمليات الصيانة في الخط، وذلك بعدما كان من المقرر أن يُعاود العمل في الثالث من سبتمبر عقب إيقاف دام ثلاثة أيام، وقررت موسكو نهاية شهر مارس الماضي بيع الغاز والنفط الروسي للدول غير الصديقة بالعملة الوطنية “الروبل الروسي” بهدف دعم العملة المحلية ومواجهة الهيمنة الدولارية، وبناء على ذلك، أوقف “بوتين” تدفقات الغاز إلى الدول التي ترفض الامتثال لتلك الآلية، مثل بولندا وبلغاريا وهولندا وفنلندا والدنمارك ولاتفيا، فيما اتخذ الاتحاد الأوروبي أواخر يونيو 2022 قرارًا بفرض حظر تدريجي على استيراد النفط الروسي المنقول عبر السفن، مع منح إعفاء مؤقت للنفط المنقول عبر خطوط الأنابيب، وأعلنت دول مجموعة السبع أوائل سبتمبر نيتها فرض سقف على أسعار توريد النفط الروسي في ظل محاولاتها للحد من الإيرادات الروسية.

وقد أسهمت تلك الخطوات في حدوث سلسلة من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على أسواق الطاقة، تتمثل الأولى في ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي لمستويات قياسية حيث ارتفعت أسعار النفط الخام بنسبة 3.5%بين فبراير وأغسطس 2022 إلى 120 دولارًا للبرميل في أوائل مارس، وساهمت في تعطيل خطط مواجهة التغيرات المناخية حيث اتجهت بعض الدول المتضررة من النزاع بين أوكرانيا وروسيا إلى استخدام الفحم لتعويض أي نقص قد يحدث في إمدادات الطاقة، فيما تتضمن نظيرتها غير المباشرة في اضطراب الأسواق والجغرافيا السياسية للطاقة حيث تحولت التجارة النفطية لروسيا من أوروبا إلى آسيا خاصة الصين والهند. أما عن الغذاء، فقد اتجهت روسيا إلى انتهاج سياسة “تسليح الغذاء” حيث أعلنت تعليق مشاركتها في اتفاقية تصدير الحبوب الهادفة إلى تأمين تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، حيث ترتب على هذا الانسحاب ارتفاع أسعار الحبوب وتهديد الأمن الغذائي.

ملفات متعددة

أظهرت الحرب الحاجة الملحة إلى التكاتف العربي في الملفات الاقتصادية؛ من أجل تخفيف التداعيات الاقتصادية الناتجة عن الأزمات المتلاحقة والمتتابعة، وفي هذا الشأن، يُمكن توضيح أهم الملفات الاقتصادية المقرر مناقشتها في القمة على النحو الآتي:

• الأمن الغذائي العربي: أعرب الأمين العام لجامعة الدول العربية “أحمد أبو الغيط ” عن أمله في أن تشهد القمة تدشينًا لاستراتيجية الأمن الغذائي العربي في وقت تشتد فيه الحاجة لعمل تكاملي وجماعي لمواجهة الفجوة الغذائية الخطيرة التي يُعاني منها العالم العربي. ولهذا فمن المتوقع العمل على وضع خطط واستراتيجيات تسعى إلى تحقيق الأمن الغذائي لدول المنطقة لاسيما في ظل التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا والحرب الأوكرانية على الأمن الغذائي لدول المنطقة التي تعد من أكثر الدول استيرادًا واستهلاكًا للقمح في العالم، ولهذا صرحت مديرة صندوق النقد الدولي “كريستالينا جورجيفا” بأن أكثر من 141 مليون شخص في العالم العربي معرضون لمخاطر انعدام الأمن الغذائي.

وتمثل روسيا وأوكرانيا مجتمعتان ما يقرب من ثلث صادرات القمح العالمية، وحوالي 20% من الذرة، و80% من زيت عباد الشمس، وتوفران غالبية إمدادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولهذا فمن شأن أي اضطراب حادث في منطقة البحر الأسود أن يؤثر بشدة على إمدادات الغذاء في دول تلك المنطقة، حيث تم شحن أكثر من 95% من إجمالي صادرات أوكرانيا من الحبوب والقمح والذرة عبر البحر الأسود، وذهب نصف هذه الصادرات إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خاصة مصر ولبنان والعراق وسوريا.

وترتيبًا على ما سبق، تهدد الحرب نسبة كبيرة من القمح والحبوب التي تعتمد عليها هذه البلدان، مما يعرض أمنها الغذائي لمخاطر جسيمة؛ نظرًا إلى ااعتمادها على الواردات الغذائية كما سبق القول، وكما توضح الخريطة الآتية:

الشكل 1- صافي الواردات الغذائية كنسبة من الإمدادات الغذائية المحلية – المصدر: وحدة الدراسات المنظورية العالمية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة.

وعلاوة على ارتفاع الأسعار وتراجع إمدادات الغذاء، تأتي سياسات الحمائية الغذائية التي انتهجتها العديد من البلدان المصدرة للغذاء حول العالم مؤخرًا لتصب مزيدًا من الوقود على مسألة الأمن الغذائي للاقتصادات الهشة؛ إذ تسهم تلك السياسات في المزيد من تراجع الإمدادات الغذائية لدول الشرق الأوسط.

بجانب أن هناك العديد من المعوقات الماثلة أمام إمكانية بحث الدول الشرق أوسطية عن مصادر بديلة لوارداتها الغذائية؛ فالتضخم العالمي المرتفع وارتفاع تكلفة الشحن والقيود المحتملة على الصادرات تجعل هذا التحول مكلفًا. وحتى إن حاولت تلك الدول زيادة إنتاجها الزراعي المحلي فإنها ستواجه عوائق أخرى متمثلة في تفاقم أزمة التغيرات المناخية وزيادة أسعار مدخلات الإنتاج الزراعية كالأسمدة، فضلًا عن ندرة المياه التي تعاني منها المنطقة.

• أزمة الطاقة: تعد أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب وقطع إمدادات الطاقة تحديًا وفرصة أمام الدول العربية؛ إذ تُعد عقبة أمام الدول المستوردة للطاقة والمعتمدة على العالم الخارجي لتأمين احتياجاتها من الطاقة، فمن الممكن أن تعاني تلك الدول من ارتفاع فاتورة واردات الوقود بالقدر الذي يثقل ميزانها التجاري ويؤثر سلبًا على احتياطها النقدي بما يفضي في النهاية إلى تأثيرات سلبية على سعر صرف عملتها المحلية.

فيما تمثل الأزمة فرصة أمام الدول العربية المنتجة للطاقة التي تسعى إلى لعب دور حيوي في سوق الطاقة العالمية من خلال إلى زيادة استخدام صادرات الطاقة كأدوات قوة في العلاقات الدولية وسوق الطاقة العالمي حيث أظهرت أزمة الغاز الطبيعي في أوروبا أن دول الشرق الأوسط بحاجة إلى المزيد من الاستفادة من الموارد المالية والتكنولوجية للشركات الأوروبية لزيادة الطاقة الإنتاجية ومساعدة القارة الأوروبية على تنفيذ مساعيها الهادفة لتقليل الاعتماد على روسيا.

• ملفات اقتصادية مشتركة: من المرجح أن يتناول القادة العرب ملفات اقتصادية مهمة لكافة الأطراف كاستحداث سياسات صناعية جديدة؛ نظرًا إلى أهمية الصناعة في عملية التعافي الاقتصادي، وإقامة الاتحاد الجمركي العربي بهدف مواجهة الأزمات الغذائية الخانقة لكثير من دول المنطقة، مع تباحث سبل ترقية الاستثمار والشراكة بين الدول العربية، وتنشيط العديد من المعاهدات والاتفاقيات والمشاريع العربية المشتركة، مثل إنشاء سكك حديد واحدة، ومشاريع زراعية وصناعية في إطار تكامل الموارد وعناصر الإنتاج بين الدول الواقعة في نفس النطاق الجغرافي.

استخلاصًا لما سبق، يأتي توقيت انعقاد القمة العربية للتأكيد على أهمية التوافق العربي والوصول إلى رؤية مشتركة وموحدة تجاه العديد من الملفات الاقتصادية المشتركة من أجل تفادي التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة والناتجة عن جائحة كورونا والحرب الروسية- الأوكرانية.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/73730/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M