مواقف القوى السياسية العراقية من التطبيع العربي الإسرائيلي

د. أحمد عدنان الميالي

منذ مجيء دونالد ترامب للبيت الأبيض عمل على تبني سياسة إحلال التقارب العربي الإسرائيلي وعمل على طرح فكرة تشكيل ناتو عربي يكون العراق جزءاً منه مع مصر والأردن ودول الخليج ليكون رأس حربة ضد إيران من جهة وممرا لتحقيق السلام العربي الإسرائيلي الذي يعد هدفا من أهداف السياسة الخارجية الأمريكية منذ عام ١٩٧٧، إن لم يكن قبل ذلك التاريخ، وأرتبط بذلك اجتراح عدة مناورات سياسية وإجراءات اقتصادية لترويض الدول العربية لإعلان السلام والبدء بإجراءات التطبيع، وفعلا بدأت هذه السياسة تأخذ مساراتها الواقعية في نهاية عهد ترامب ولازالت، وأعلنت عدة دول تطبيع علاقتها مع إسرائيل كالبحرين والإمارات، أما مصر والأردن وعمان وقطر والسعودية أساسا لديها علاقات مباشرة وحوارات وتفاهمات سابقة مع إسرائيل، وفي الطريق الآن يتم العمل على تحويل هذه التفاهمات والعلاقات الايجابية إلى سلام وتطبيع واقعي معلن لحين إرساء قواعد ومرتكزات هذا التطبيع فيما يخص شعوب هذه الدول وبعض الثوابت المانعة من تسريع وتيرة إعلان التطبيع.

فيما يخص العراق فأن ذاكرته التأريخية ومواقفه الشعبية واضحة وصلبة إزاء رفض مسارات التطبيع أو السلام مع إسرائيل وهذا الحال منذ عام ١٩٤٨ ولغاية الآن، ولكن لو تابعنا وحللنا بدقة مواقف القوى السياسية العراقية بعد العام ٢٠٠٣ سنجد أن الموقف بحاجة إلى إعادة نظر بخصوص التطابق في المواقف الرافضة سواء على المستوى التأريخي أو الشعبي.

لم تعلن معظم القوى السياسية موقفها الصريح والرسمي من إجراءات التطبيع والسلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل بما يتطابق مع الرفض الصلب والممانع، بل لم نشهد إلا بعض البيانات العابرة في وسائل التواصل لا تعبر عن الموقف الرسمي، وهذا الحال ينسحب على المؤسسات الرسمية كوزارة الخارجية وغيرها من القنوات الدبلوماسية والسياسية والقانونية التي من المفترض أن تتخذ مواقف محددة وصريحة من التطبيع.

إذا ما قرأنا الموقف السياسي الكردي سنجده واضحا باتجاه عدم الممانعة من هذا التطبيع؛ لأنه لا يمتلك خصومة أو موروث ثقافي وتاريخي إشكالي مع إسرائيل بل العكس تماما قد تتطابق بعض المنطلقات والمبررات القومية التي يحتج بها الطرفان لإثبات الوجود التاريخي والجغرافي والثقافي في حق المطالبة بدولة كبرى تحتضنهما وتعبر عن خصوصياتهما، إضافة إلى تخادم المصالح وعدم تقاطعها في الممارسة السياسية الدولية والإقليمية والمحلية، ولا تعارض في ثوابت الكُرد تجاه القضية الفلسطينية يمنع من مباركة التطبيع أو حتى الرغبة بإعلان التطبيع إذا ما سمحت الظروف بذلك.

أما القوى السياسية السنية فلم يصدر منها موقف قاطع إزاء التطبيع، وإذا ما تمعنا بدقة فأن قوى سياسية سنية مدنية تتقارب بالمواقف مع القوى السياسية الكردية ضمن منطلقات الأمر الواقع وقراءة الوضع العام الذي من شأنه تعزيز هذه الرؤية، خاصة أن هذه القوى لا تمنعها من ذلك ثوابت ومنطلقات دينية أو قومية أو سياسية مانعة، أما القوى السنية التقليدية المحافظة فلها مواقف مختلفة ترفض التطبيع والسلام مع إسرائيل ضمن مندرجات شعاراتها القومية والدينية والعروبية التي تتعكز عليها في هذا الشأن، لكنها وقعت في ورطة ألا وهي: إن القوى الإقليمية الداعمة والممولة لها بدأت بالتطبيع والتفاهم مع إسرائيل ولهذا اختبأت حيال ذلك ولم تصرح رسميا ومؤسساتيا ضد التطبيع العربي الإسرائيلي ملمحة بشكل غير مباشر حول الممانعة عبر وسطاء أو محسوبين عليها ضمن الشرائح الاجتماعية والدينية وليس السياسية.

أما القوى السياسية الشيعية، أعلنت بعضها بشكل صريح من خلال زعماءها وقادتها رفض مطلق للتطبيع وهذا ما عبر عنه السيد مقتدى الصدر بتغريداته أكثر من مرة، وأيضا القوى السياسية في تحالف الفتح ودولة القانون أعلنت رفضها لذلك، ولكن لم تكن تلك الممانعة تعقيبا على مواقف القوى الإقليمية العربية التي طبعت مع إسرائيل أو التي تعمل على ذلك الآن وتريد للعراق أن يكون ضمن محور هذه الدول في سبيل تنفيذ الرغبة الأمريكية في هذا الشأن ولمواجهة الجمهورية الإسلامية في إيران أو ما يعرف بمحور المقاومة والممانعة.

إذ لم نسمع أو نرى أي موقف سياسي رسمي ومؤسساتي يعلن الرفض والشجب لسلوكيات الدول المطبعة ولم تتجه القوى السياسية الشيعية إلى إعلان القطيعة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع منظومة الدول تلك، وهذا الحال ينسحب حتى على دول وأطراف محور المقاومة إلى حد ما.

يؤشر ذلك أن كل القوى السياسية العراقية كافة قد تراجعت في أدبياتها وسلوكياتها عن القضية الفلسطينية وبدأت بإعادة التفكير في الواقع الحاصل وقراءته بشكل سياسي براغماتي.

كما أنها بهذه الوسطية في التعامل مع التطبيع والقضية الفلسطينية تمكنها توظيف واستثمار هذه القضية لصالحها في التصعيد والرفض عندما تقتضي الحاجة والواقع، وحينما يتناولها الجمهور ويتبناها ويحتج وفقا لها، أو في حال تراجع بعض الدول العربية عن التطبيع لذات الأسباب الداخلية ومعطيات الواقع الدولي والإقليمي وإن كان هذا مستبعد في الوقت الحاضر، لأن عملية عزل ومحاصرة القوى الرافضة لإسرائيل تسير باتجاه يخدم أجندات تلك القوى من جهة وأيضا مسارات الداخل الفلسطيني سياسيا واجتماعيا تسير بوتيرة تعزز مناخ مباركة إجراءات التطبيع والتقارب والسلام والاعتراف.

ما يحاك ضد الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لشعوب المنطقة العربية، خطة مدروسة للترويض وإمحاء ذاكرتها المقاومة والرافضة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين والجولان، وإشغال شعوب هذه الدول بأعباء الأوضاع العامة المتراجعة والقلقة وتصوير ايجابيات التطبيع والسلام وإظهار ساسة هذه الدول بمظهر التابع والخاضع لتليين المواقف الصلبة للشعوب الرافضة للكيان الصهيوني في المنطقة.

وحينما نتابع بدقة الواقع لهذه الشعوب نجد أن هنالك فعلا تراجع بالاهتمام بالقضية الفلسطينية وانحسار في الطروحات القومية والعروبية، ومما يساعد على ذلك هو القيادات السياسية لهذه الدول.

العراق آخر مسمار عربي شعبيا وإلى حد ما سياسيا لازال يحتفظ بجزأ من تأريخه الرافض للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان وتمدده في المنطقة، رغم وجود اختراقات حاصلة في ذلك نتيجة طبيعة النظام السياسي وتداعيات الوضع الإقليمي والدولي.

ولهذا العراق شعبيا وسياسيا بحاجة ملحة لإعادة طرح القضية الفلسطينية واعتباراتها وانعكاسات ومخاطر التطبيع العربي الإسرائيلي واحتفاظ العراق قادة وشعبا بمواقفهم وعدم إنجرارهم لما يحصل الآن، وهذا لن يكون إلا بإعلان الموقف السياسي الرسمي والمؤسساتي الرافض والمقاطع، ليتناغم مع مواقف المرجعية الدينية العليا في النجف وبعض الزعامات والقيادات المتصلبة تجاه التطبيع لإعادة إنعاش الذاكرة التاريخية الشعبية حول ذلك بما قد يجعل العراق الماسك العربي الأساس والمدافع والمحافظ على ثوابت الرفض لأي تطبيع أو قبول بالاحتلال الإسرائيلي والتدخلات الأمريكية والخارجية لأراضي الدول العربية ومنها العراق.

 

رابط المصدر:

https://www.mcsr.net/news667

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M