مُستقبل مُقلق: آفاق الاشتباكات والمواجهات العسكرية في السودان

نسرين الصباحي

 

استمرار متتالٍ لتصاعد حدة الاشتباكات بين قوات الجيش السوداني وميلشيا الدعم السريع منذ صباح يوم السبت الموافق 15 إبريل 2023 في أعنف الاشتباكات على الإطلاق التي يشهدها السودان، في ظل تضارب التصريحات من الجانبين والاتهامات المتبادلة بشأن اختراق الهدنة الإنسانية الهشة، وتبادل السيطرة على المواقع الاستراتيجية (محيط القيادة العامة للقوات المسلحة، والقصر الجمهوري، والمطارات) بينهما. ودخلت الاشتباكات في مرحلة أشبه بحرب المدن، وتحول البعض منها إلى حرب شوارع. بجانب ذلك، اندلعت أيضًا اشتباكات محدودة مع الدعوة لتشكيل لجان مقاومة مجتمعية لحماية الأحياء والمدن بالعاصمة السودانية (الخرطوم).

في خضم هذا المشهد المركب، تعصف بالسودان مرحلة حرجة في تاريخه الحديث، وتحديدًا في فترة (سودان ما بعد البشير)، واحتدام القتال في معارك الكل فيها خاسر (محصلتها مباراة صفرية)، مع انهيار الوضع الإنساني في السودان، فيكاد نصف عدد المستشفيات يكون خارج نطاق الخدمة، وارتفع حصيلة القتلى والمصابين ونزوح العديد من السودانيين جراء تصاعد وتيرة الاشتباكات والمواجهات العسكرية.

بالإضافة إلى ذلك، علق عدد من المنظمات الإغاثية والإنسانية أنشطتها في السودان، نتيجة اعتداءات ميليشيا الدعم السريع على مقراتها ومكاتبها. فضلًا عن الانتهاكات ضد المسؤولين الأجانب والبعثة الأممية في السودان (يونيتامس).

تأسيسًا على السابق، ما هي جذور الأزمة الراهنة؟ وكيف اندلعت حدة المواجهات والاشتباكات العسكرية؟ وأي مُستقبل ينتظر السودان في ضوء ضبابية المشهد الراهن وحرب المعلومات بين الطرفين؟ مع التعويل على فرص مُبادرات الوساطة المقترحة، وجهود الآلية الثلاثية (الاتحاد الأفريقي، ومنظمة الإيجاد، وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الفترة الانتقالية “يونيتامس”)، والآلية الرباعية (الإمارات، والسعودية، والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا)، بوصفهم شركاء دوليين للسودان، وجهودهم لتهدئة فتيل الأزمة بين الجانبين.

مقدمات مُبكرة…. جذور الاشتباكات السودانية

أشعلت جُملة من العوامل والدوافع الكامنة وراء الاشتباكات بين قوات الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع، في ظل الوتيرة المتسارعة لحدة الاشتباكات وانتهاكات الالتزام بالهدنة الإنسانية المؤقتة، ويمكن توضيح جذور الأزمة الراهنة على النحو التالي:

• إرجاء التوقيع على الاتفاق السياسي النهائي: نتيجة مجموعة من القضايا الخلافية والعالقة بين المكونين المدني والعسكري على خلفية تعثر إجراءات الإصلاح العسكري والأمني ودمج قوات الدعم السريع لتكوين جيش نظامي موحد، ومُعضلة التمويل لاستكمال بنود الاتفاق الإطاري، وعدم انخراط الأطراف الفاعلة في المشهد السوداني داخل الاتفاق الإطارى في ديسمبر 2022، والانقسامات والتجاذبات الداخلية بين مكونات قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية، والمجلس المركزي).

لذا، توجد خلافات مدنية-عسكرية وأخرى عسكرية-عسكرية. بالإضافة إلى ذلك، التفلتات والسيولة الأمنية والاضطرابات في إقليم دارفور، واحتقان أزمة الشرق. رغم ذلك، حدث زخم للعملية السياسية خلال الفترة الأخيرة بإعادة تنشيط صيغة الشراكة بين المكونين المدني والعسكري بتوقيع الاتفاق الإطاري، ولكن ما زالت هناك عقبات وتحديات ماثلة أمام تنفيذ الاتفاق السياسي النهائي لاستكمال المرحلة الانتقالية خلال عامين، وذلك بعد أربع سنوات من تعثر الانتقال السياسي منذ عام 2019.

ارتباطًا بالسابق،تم تحديد موعد السادس من إبريل 2023 للتوقيع على الاتفاق السياسي النهائي الشامل، وكان من المقرر توقيعه في الأول من أبريل بعد محادثات ومفاوضات مُكثفة استمرت لحوالي ستة أشهر، وآخرها ورشة الإصلاح الأمني والعسكري في مارس 2023؛ للتقريب بين وجهات النظر حيال القضايا الخلافية من أجل التوصل إلى صيغة توافقية للاتفاق النهائي. على الرغم من ذلك تم تأجيل التوقيع للمرة الثانية على الاتفاق النهائي.

• مشكلات عملية الدمج والاستيعاب: فشلت اللجنة الفنية بين القوات المسلحة وميليشيا الدعم السريع في التوصل إلى رؤية موحدة لعملية الدمج وتنفيذ بند الترتيبات الأمنية في اتفاق جوبا للسلام، وقال رئيس بعثة “يونيتامس”، فولكر بيرتس، إن دمج الدعم السريع في الجيش يحتاج إلى خمس سنوات وكذلك عملية إصلاح المؤسسة العسكرية من خمس إلى ست سنوات. بالإضافة إلى ذلك، هناك استحالة لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني دون توحيد الجيوش في البلاد، في ظل الخلافات بين قادة الجيش والدعم السريع بشأن الاتفاق الإطاري وإصلاح منظومة الأمن والدفاع، وتصحيح وضعية الدعم السريع، وغموض موقف “حميدتي” من عملية الدمج والإصلاح والتحديث، ونقص مصادر التمويل.

أصبحت عملية الدمج والاستيعاب من أبرز المعضلات والعقبات المعقدة في مسار الانتقال السياسي وتحديدًا من حيث إخضاع الرتب العسكرية لضباط الدعم السريع عند الدمج، وتوقيت وضع الجيش رسميًا تحت إشراف مدني، بالإضافة إلى المدة الزمنية؛ إذ يتمسك الجيش بمدة عامين لإكمال هذه العملية ثم يُعقبها انتخابات لحكومة منتخبة، فيما ترى ميلشيا الدعم السريع وبعض القوى المدنية أن تتم خلال عشر سنوات، وضرورة توضيح الاختلاف بين عملية الإصلاح وإعادة البناء في السودان. فضلًا عن بعض الشروط الأخرى لعملية الدمج من حيث عملية التسريح وإيقاف تجنيد مزيد من القوات في الدعم السريع، وشروط الالتحاق بالكلية الحربية.

اتصالًا بالسابق، توجد ضرورة للاتفاق على القضايا الفنية المتعلقة بعمليات الدمج والإصلاح والتحديث للمنظومة الأمنية والعسكرية، وتوحيد الجيش وفقًا لورقة المبادئ العامة الموقعة في 15 مارس 2023 بين المكونين المدني والعسكري، في ضوء المطالب المستمرة أيضًا بعملية الدمج من جانب القوى السياسية ولجان المقاومة.

• القضايا العالقة في الاتفاق الإطاري: ما زالت القضايا العالقة تُعرقل خطوات التقدم في مسار تسوية العملية السياسية النهائية، في ظل عدم انخراط كافة الأطراف الفاعلين في المشهد السياسي، وانسحاب البعض الآخر من الاتفاق الإطاري، وتفاقم أزمة انعدام الثقة بين شركاء الحكم الانتقالي، (العدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري، ومراجعة اتفاق السلام وتقييمه، وتفكيك نظام الإخوان المسلمين، ومسار شرق السودان).

علاوةً على ذلك، هناك عقبات تفكيك وإزالة بنية مؤسسات نظام “البشير”، وتصفية جميع القيادات الدينية لنظام “البشير” والتابعين لحزب المؤتمر الوطني والأجهزة الموازية واسترداد الأموال، وتفكيك التمكين في كافة أجهزة الدولة الرسمية (الجيش، والشرطة، والأمن والدفاع) وقطاعات الخدمة المدنية، وإعادة هيكلة وإجراء عمليات إصلاح عميقة في الأجهزة العدلية والقضائية ورؤساء النيابة العامة.

إلحاقًا بالسابق، اتسع نطاق توظيف العنف القبلي في إقليم شرق السودان، حيث عادت مرة أخرى الاحتجاجات والاضطرابات في الشرق من خلال إغلاق الموانئ والطرق الرئيسية ووقف العمل الحكومي وتداعيات ذلك على حركة البضائع ونقص في السلع الاستراتيجية مثل القمح والوقود، ومخاوف تكرار سيناريو 2021 بإغلاق موانئ شرق السودان، في ظل مُعاناة ولايات الشرق الثلاث (القضارف، كسلا، وبورتسودان) من أزمة تهميش سياسي واقتصادي واجتماعي.

وتوجد كذلك خلافات بين المكونات المحلية لنظارات البجا، حيث يتعارض جناح “رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” عبد الله أوبشار المساند لقوى الثورة والحرية التغيير، مع الجناح الذي يتزعمه ناظر قبيلة الهدندوة “محمد الأمين ترك” المحسوب على النظام السابق، حول قضية إغلاق شرق السودان لعدم جدوتها لأهل الشرق.

ذلك بالإضافة إلى تحديات قضايا العدالة الانتقالية والتي تشمل مجموعة من القضايا المتعلقة بتعويض الأسر والمجتمعات النازحة جراء الحرب وعمليات انتهاك حقوق الإنسان سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو البيئية إبان نظام حكم الإنقاذ، لينتج في النهاية فهم عام للسياسات والأزمات القائمة على النزاعات، وتقديم رؤى وحلول عبر تدابير وآليات فعالة ومنصفة للجماعات المتضررة، وتحديدًا النازحين واللاجئين، ومعالجة تداعيات مشروعات التعدين والبترول على سُبل عيش المجتمعات المحلية، وتداخلاتها مع ظاهرة التغير المناخي.

ويُعاني الاقتصاد السوادني من تراجع قيمة العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتفاقم معدلات البطالة والتردي العام في كافة الخدمات المقدمة في المجال العام للشعب السوداني، وتآكل الأجور، وارتفاع أسعار الوقود والقمح والمدخلات الزراعية، وانعدام الأمن الغذائي، وانهيار قطاع النقل في السودان نتيجة خروج الكثير من شركات النقل من سوق العمل، وارتفاع تكلفة التشغيل وانهيار البنية التحية للطرق، وزيادة أسعار قطع الغيار مما أعاق عملية الإصلاح والصيانة لكثير من المركبات والحافلات. فضلًا عن الخسائر الفادحة واتساع نطاق معدلات الفقر، وحدوث التنمية غير المتوازنة في أقاليم البلاد، وتفاقم معدلات الهجرة إلى العاصمة الخرطوم، ووقف تنفيذ كثير من معونات المجتمع الدولي في السودان خلال الفترة الأخيرة.

• تعزيزات عسكرية لميليشيا الدعم السريع في قاعدة مروي: حدث انتشار مُكثف وتعزيزات عسكرية لميليشيا الدعم السريع في قاعدة مروي بالولاية الشمالية، يوم الخميس الموافق 13 إبريل 2023، ثم تبع هذه الخطوة اعتراضات من قبل الجيش السوداني لعدم التنسيق المشترك بينهما. وما أسفر عن هذه التعزيزات تصاعد حدة الاشتباكات بين طرفي الصراع صباح يوم السبت الموافق 15 إبريل 2023.

سيناريوهات مفتوحة

انطلاقًا من معطيات ومؤشرات الاشتباكات بين القوات المتصارعة في السودان، تظل هناك مجموعة من السيناريوهات المفتوحة للمشهد المركب، في ظل حالة عدم حسم المعركة لأي من الطرفين، وانقسام مواقف القوى السياسية المدنية الفاعلة في المشهد السوداني من الاشتباكات الجارية، مع تسارع مقترحات مُبادرات الوساطة من جانب القوى الإقليمية والدولية. ضمن هذا الإطار، يمكن توضيح أهم السيناريوهات المحتملة على كافة الأبعاد، وذلك على النحو التالي:

• عدم الحسم: في ضوء قيام ميليشيا الدعم السريع بتوجيه الضربة الأولى على مقرات الجيش السوداني والمواقع الاستراتيجية ظهور الخطة المُعدة مُسبقًا التي بدأت في توقيت حرج في صباح يوم السبت (15إبريل 2023)، مع ذروة تحركات المدنيين؛ لمحاولة استباق تحركات الجيش التي كانت هجماته في البداية كرد فعل على اعتداءات الدعم السريع، ومحاولة استعادة المواقع التي تم السيطرة عليها من خلال إطلاق عملية لتصفية الدعم السريع عن طريق القصف الجوي، مع تتابع للبيانات من جانب القوات المسلحة السودانية في ضوء الحرب الإعلامية بين الطرفين. ذلك بالإضافة إلى توسيع عمليات الانتشار العسكري لقوات الجيش السوداني في العاصمة الخرطوم. في ضوء ذلك، لم تحسم الدعم السريع السيطرة على المواقع الاستراتيجية وتحديدًا المطارات مع التحرك السريع من جانب الجيش السوداني.

 • حسم المعركة: انطلاقًا من قدرات الجيش السوداني بالمقارنة مع قدرات ميليشيا الدعم السريع، تعد الأقوى، ومن غير المتصور لهذه الميليشيات التقدم على قوات الجيش النظامية، مع تزايد حالات انشقاق القيادات في الدعم السريع وانضمامها للقوات المسلحة. ضمن هذا السياق، يميل ميزان القوى لصالح الجيش السوداني، في ظل افتقار الدعم السريع لأسلحة مدفعية ثقيلة وتقدم الجيش السوداني بالقوات الجوية. وقد يحدث أيضًا حسم لأي من طرفي الصراع في حالة الحصول على دعم من أطراف خارجية. ولا يعني حسم المعركة لأي الطرفين انتهاء الحرب الدائرة، ولكن تظل أوضاع ما بعد المعركة (حسابات المنتصر وتنازلات المهزوم)، في ظل تشابكات ميليشيا الدعم السريع في مناطق حدودية مع ليبيا وأفريقيا الوسطى، والامتدادات القبلية في إقليم دارفور بغرب السودان.

• الدخول في الحرب الأهلية وحافة الهاوية: معتعثر الوصول إلى الحوار والتهدئة وعدم قبول أطراف الصرع جهود الوساطات من جانب الأطراف الإقليمية والدولية والأفريقية، ومخاوف دخول أنصار النظام البائد من حزب المؤتمر الوطني المنحل لإشعال الفتن وحقن الشعب السوداني ضده بعضه البعض الآخر من خلال استغلال الحرب الإعلامية ونشر الأكاذيب وإضعاف ثقتهم، مما يعمل ذلك على إطالة أمد الصراع ومخاطر تداعيات الأزمة على دول الجوار، في ظل موقع السودان على حدود مُلتهبة، سواء على إقليم القرن الأفريقي أو الساحل الأفريقي أو البحر الأحمر. مما يطرح ذلك تكرار سيناريو الحالة الليبية بتقسيم البلاد والسماح بوجود قوات غير نظامية وموازية للجيش السوداني.

 • محاولات الحوار والتهدئة: مع ضرورة وقف إطلاق النار وتجنب التصعيد بشكل سريع، وأهمية تكامل وتنسيق كافة جهود الوساطة لكي لا تُعرقل حلحلة الأزمة الراهنة من خلال توحيد الرؤى والمواقف لاحتواء الأزمة والحفاظ على استقرار السودان، ومساعي القوى السياسية المدنية لتهدئة الأوضاع. بالإضافة إلى استخدام القوى الإقليمية والدولية جهودها وأدوات الضغط على أطراف الصراع. ضمن هذا الإطار، تسعى مصر بالتنسيق مع دول إقليمية أخرى مثل جنوب السودان والسعودية لطرح مُبادرات الوساطة بين أطراف الصراع للحوار وتجنب التصعيد العسكري. بالإضافة إلى ذلك، قرار مجلس السلم والأمن الأفريقي بإرسال بعثة ميدانية للسودان للتواصل بين الطرفين تمهيدًا لوقف إطلاق النار. كما حذرت الأمم المتحدة من مخاطر الاشتباكات على المدنيين ودعوة مجلس الأمن الدولي إلى ضرورة وقف إطلاق النار والعودة إلى طاولة المفاوضات.

حاصل ما تقدم، يمكن القول إن صوت البندقية والمدافع لا تُقدم حلولًا مستدامة لاحتواء الأزمة الراهنة في المشهد السوداني، وهناك ضرورة التوصل إلى كافة سُبل الحوار والعودة إلى طاولة المفاوضات لمحاولات استعادة مسار الانتقال السياسي المتعثر، واستكمال بنية المؤسسات الانتقالية، في ظل تزايد تعقيدات المشهد الراهن في مدى زمني قصير للغاية، وهشاشة الوضع الإنساني. لذا، تظل الوساطة عاملًا مهمًا لوقف حدة الاشتباكات العسكرية وتجنب العودة إلى المربع الأول.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/76803/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M